الرئيسية » الدراسات » تراجع العولمة وتأثيره على أهداف التنمية المستدامة

تراجع العولمة وتأثيره على أهداف التنمية المستدامة

الكاتب:

شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين تصاعدًا مطّردًا في موجات العولمة الاقتصادية، التي تجسدت في تحرير التجارة، وتوسع الاستثمار الأجنبي، وانتقال التكنولوجيا، وتكامل الأسواق المالية. وقد رُوّج للعولمة بوصفها آلية محورية لتحقيق النمو والتنمية، ودُعمت هذه الرؤية من قبل المؤسسات الدولية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. غير أن العقدين الأخيرين، وخصوصًا منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، شهدت العولمة تراجعًا تدريجيًا، بلغ ذروته مع جائحة كوفيد-19، ثم الحرب الروسية الأوكرانية، وأخيرًا التصاعد الحاد في النزاعات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، ولا سيما بين الولايات المتحدة والصين. وقد أصبح الحديث عن “تراجع العولمة” (De-globalization) أو “إعادة تشكيلها” حاضرًا بقوة في الخطاب الأكاديمي والسياسي.
في خضم هذا التحول، تبرز مشكلة أساسية تتعلق بتأثير هذا التراجع على قدرة الدول، وخاصة النامية منها، على تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي وضعتها الأمم المتحدة في أجندة 2030. فمع تصاعد الحمائية، وتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي، واضطراب سلاسل الإمداد العالمية، يثور التساؤل حول مدى قدرة هذه الدول على الوصول إلى أهدافها التنموية المرتبطة بالقضاء على الفقر، وتحسين الصحة والتعليم، وضمان الأمن الغذائي والطاقة، وتعزيز الابتكار والبنية التحتية، في ظل بيئة دولية أقل انفتاحًا.
ويزداد تعقيد المشكلة عند النظر إليها من منظور الاقتصاد السياسي، حيث تتقاطع الاعتبارات الاقتصادية مع موازين القوة السياسية ومصالح الفاعلين الدوليين، الأمر الذي يفرض تساؤلات عميقة حول عدالة النظام الدولي، وحياد مؤسساته، ومدى تأثير مصالح القوى الكبرى في إعادة تشكيل قواعد العولمة بطرق قد لا تخدم مصالح الجنوب العالمي. من هنا، تنبع الحاجة إلى دراسة تحليلية تستقصي هذا التراجع وأبعاده على مستقبل التنمية المستدامة.
تتمثل فرضية البحث في الآتي:
“يؤثر تراجع العولمة بشكل سلبي على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خاصة في الدول النامية، من خلال الحد من فرص التجارة الدولية، وتقليل تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وإضعاف التعاون الدولي”

أولاً: تطور مؤشرات العولمة الاقتصادية خلال الفترة (1980 – 2023)

شهدت الفترة (1986 – 2008) زيادة كبيرة في معدلات نمو التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر، فقد بلغ متوسط معدل نمو التجارة الدولية في السلع والخدمات ثلاثة أضعاف (9.9%) معدل نمو الناتج العالمي (3.3%)، وكان متوسط معدل نمو تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة أكثر من 7 أضعاف (23.5%) معدل نمو الناتج العالمي، كما يتضح من الشكل رقم (1)، ونتيجة لذلك ارتفعت التجارة الدولية كنسبة من الناتج العالمي من 33.6% عام 1986 إلى 61.4% عام 2008، وهي المقياس التقليدي للعولمة، والتي غالباً ما تسمى نسبة الانفتاح التجاري (Franco-Bedoya, 2023) وارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر من 0.3% من الناتج العالمي عام 1985 إلى 5.5% عام 2007، ولذلك سُميت هذه الفترة بفترة العولمة المفرطة Hyper globalization، نتيجة للانفتاح الكبير والسريع خلال هذه الفترة كما يتضح من الشكل رقم (2).
يرجع النمو الكبير في التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر خلال هذه الفترة (1986-2008) لثلاثة عوامل: أولاً، سمحت ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالاتICT للشركات في البلدان الصناعية بنقل أجزاء معينة من عمليات الإنتاج الخاصة بها إلى مواقع بعيدة، مع الحفاظ على تدفق سلس للاتصالات بين وحدات الإنتاج المختلفة في سلاسل القيمة العالمية، كما سهلت تصميم وتنفيذ ممارسات إدارة سلاسل التوريد الفعالة. ثانياً، شهدت هذه الفترة أيضًا انخفاضًا كبيرًا في تكاليف التجارة الفعلية، وهو الانخفاض الناجم عن تسارع كبير في معدل خفض الحواجز التجارية من صنع الإنسان (على سبيل المثال، التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز غير الجمركية)، والاعتماد المتزايد على طرق أسرع لشحن البضائع، مثل الشحن الجوي. ثالثاً، أدت التطورات السياسية في العالم ــ وأبرزها سقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية والتزايد التدريجي في تبني ممارسات اقتصاد السوق في شرق وجنوب شرق آسيا ــ إلى زيادة ملحوظة في حصة سكان العالم المشاركين بنشاط في عملية العولمة (Antràs, 2020).
ولكن تغير الوضع بعد الأزمة المالية العالمية منذ عام 2009 فقد بدأت العولمة في التباطؤ، ولم يكن التباطؤ موحداً عبر مختلف التدفقات. كان الجزء الأكبر من التباطؤ في تدفقات رأس المال عبر الحدود يرجع إلى انخفاض الإقراض عبر الحدود مع قيام البنوك بخفض ديونها لإعادة بناء احتياطيات رأس المال كما تقتضيه المتطلبات التنظيمية الأكثر صرامة (Aiyar, et al., 2023).
وبالنسبة لتدفقات التجارة، وُجد أن التغييرات ترجع جزئيًا إلى أسباب دورية تتعلق بالطلب، بسبب التغيرات الهيكلية في سلاسل القيمة العالمية. ترتبط هذه في الغالب بالتغيرات الهيكلية في الاقتصاد الصيني، ونظرًا لحجم الصين ودورها في التجارة الدولية، يبدو من البديهي أن النمو السريع للتجارة الدولية خلال أواخر التسعينيات وحتى الأزمة المالية العالمية كان يُفسَّر إلى حد كبير من خلال اندماج الصين في الاقتصاد العالمي. وعلاوة على ذلك، يمكن تفسير تباطؤ نمو التجارة من خلال انتقال حصة كبيرة من سلاسل القيمة العالمية إلى داخل الصين، وهذا من شأنه أن يقلل من عدد المرات التي تعبر فيها المدخلات الوسيطة الحدود، وبالتالي إبطاء نمو التجارة الكلية حتى الحفاظ على الشهية العالمية للسلع المتداولة دوليًا متساوية (Antràs, 2020).
وبالإضافة إلى ذلك، أعقب الأزمة المالية العالمية أيضًا عصر من التباطؤ المطول في وتيرة إصلاحات التجارة، وإضعاف الدعم السياسي للتجارة المفتوحة وسط التوترات الجيوسياسية المتزايدة التي أججتها المنافسة الاستراتيجية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، (IMF, 2024) فضلاً عن الحرب الروسية الأوكرانية. وتزامن ذلك مع النقاش المتزايد حول قيمة التعددية والفوائد غير المتكافئة للعولمة، وتزايدت جاذبية السياسات الانطوائية لصناع السياسات (Woods, 2021).

ثانياً: مفهوم تراجع العولمة والمفاهيم ذات الصلة

يعرف صندوق النقد الدولي العولمة الاقتصادية بأنها “التكامل المتزايد للاقتصادات في مختلف أنحاء العالم، وخاصة من خلال حركة السلع والخدمات ورأس المال عبر الحدود، ويشير المصطلح أحياناً إلى حركة العمالة والمعرفة (التكنولوجيا) عبر الحدود الدولية” (IMF, 2008). وتعرف العولمة أيضاً بأنها زيادة روابط النشاط الاقتصادي بين البلدان. وعكسها تراجع العولمة يُعرف بأنه تراجع الارتباط بين التجارة والتمويل والتدفقات الاقتصادية الأخرى بين البلدان. تعد زيادة الحواجز الجمركية وانخفاض تدفقات رأس المال والقيود المفروضة على الهجرة من العوامل الرئيسية التي تشير إلى تباطؤ تكامل أسواق السلع والعمالة ورأس المال الدولي أي تراجع العولمة (Munteanu, et.al, 2020).
يمكن أن يكون سبب تراجع العولمة على سبيل المثال التغيرات في التكنولوجيا، أو التفضيلات، أو التنظيم، أو الظروف الاقتصادية. على سبيل المثال، يمكن للأتمتة أن تجعل الإنتاج أقل اعتمادًا على العمالة الرخيصة في البلدان الأخرى، وارتفاع أسعار الفائدة والظروف المالية الأكثر صرامة يمكن أن تجعل الاستثمار في سلاسل القيمة العالمية الطويلة جدًا غير جذاب، ويمكن أن تؤدي تكاليف الوقود المرتفعة إلى تقليل جاذبية الشحن لمسافات طويلة، وقد تؤثر اعتبارات المناخ على تفضيلات الأسر. في عالم لا يتجه نحو العولمة، تتجه البلدان نحو الداخل وتضيع الفوائد من التجارة (Norring, 2024).
ويفرق البعض بين مصطلح تراجع العولمة De-globalization ومصطلح تباطؤ العولمة Slowbalization، حيث يشير مصطلح تراجع العولمة إلى تراجع العولمة واستبدالها بالإقليمية Regionalization أو الجزرية Islandization من خلال إعادة التصنيع للداخل Re-shoring وإعادة التصنيع للخلف Back-shoring، وكذلك موقع سلاسل التوريد داخل المناطق الجيوسياسية المأهولة بالشركاء الودودين الذين يمكن التعاون معهم ومشاركة السياسات الصناعية. بينما يشير مصطلح تباطؤ العولمة إلى التباطؤ التدريجي لقوى العولمة. باختصار فإن التباطؤ يشير إلى انخفاض السرعة، بينما التراجع يشير إلى اتجاه عكسي، فالتباطؤ قد يكون مؤقتاً وقد يتعافى في المستقبل، بينما التراجع يشير إلى تغير هيكلي في الاقتصاد العالمي، والواقع يشير إلى أنه على الرغم من تباطؤ أهمية التجارة العالمية والاستثمار المباشر الأجنبي كمحركين للنمو العالمي، فإن الانعكاس لم يحدث (Mariotti, 2024) . ويرى Gorynia, et.al (2022) أن سيناريو تباطؤ العولمة هو الأقرب من سيناريو تراجع العولمة وأن الادعاءات التي ترى أن العولمة قد تراجعت مبالغ فيها.
ويقدم Mariotti (2024) مصطلحاً آخر هو العولمة الرابحة-الخاسرة “Win-lose globalization” والذي تتنافس الدول والشركات ليس فقط على من يكسب ومن يخسر، بل على من يكسب أكثر، وبالتالي يعبر هذا المصطلح عن المنافسة الاستراتيجية بين الدول والشركات، وأن عصر العولمة المربحة للجميع “Win-win globalization” قد ولى، وأن سياق الفوضى بسبب ضعف الحوكمة الدولية التعاونية يؤدي إلى تفاقم المنافسة بين الدول القومية المتنافسة.
ساد مفهوم العولمة المربحة للجميع بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تنظم الشركات المتعددة الجنسيات نفسها من خلال سلاسل القيمة العالمية، وتجمع بين استراتيجيات البحث عن السوق والموارد لتعظيم الربح. وفي الوقت نفسه، ينتج توسعها العالمي آثاراً خارجية إيجابية بعيدة المدى، بما في ذلك الخيارات المتاحة للدول الأكثر فقراً للانضمام إلى سلاسل القيمة العالمية من أجل النمو، بدلاً من الاضطرار إلى الاستثمار لعقود من الزمن لبناء نفسها. واستندت أطروحة الربح للجميع إلى أدلة تشير إلى أنه في حين كانت الشركات المتعددة الجنسيات الغربية تحقق أرباحاً قياسية، كانت الاقتصادات الناشئة مزدهرة. وعلى وجه الخصوص، شهدت البلدان تكاملاً أكبر مع الاقتصاد العالمي وكانت أسرع نمواً (Mariotti, 2024) .
في تلك الفترة، التي افترضت عالماً مسطحاً حيث يعمل النظام الليبرالي والترابط الاقتصادي المتزايد على تعزيز التنمية العالمية، ونشر القيم الديمقراطية، والسلام من خلال زيادة تكلفة الصراع بين الدول، واليوم يتبخر الإجماع حول مفهوم العولمة المربحة للجميع، حيث يعلن خبير التنمية العالمي داني رودريك وفاتها (Rodrik, 2008)، بينما يعلن الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد جوزيف ستيجلتز أنه تمت المبالغة في بيع العولمة (Stiglitz, 2017).

ثالثاً: مظاهر تراجع العولمة

إن تراجع العولمة هي عملية عكسية للعولمة، تتجلى مظاهرها في السياسات الاقتصادية والتجارية الحمائية والتنظيمية للدول القومية، وكذلك الحروب التجارية التي تُدار بين القوى الاقتصادية والتجارية الكبرى. لحماية الإنتاج الوطني، تزيد الأسواق المحلية من الحواجز الجمركية مع تكثيف الحروب التجارية بين الأسواق الغربية والشرقية. (Vargas-Hernández & Vargas-González, Global Supply, Production and Value Chains, 2024). فقد أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وجائحة كوفيد، والغزو الروسي لأوكرانيا والتوترات الأخيرة في الشرق الأوسط إلى زيادة الضغوط على العولمة. وتعارض هذه القوى الاتجاه طويل الأجل للتعاون والتنسيق المتزايد بين البلدان من خلال اتفاقيات التجارة المتعددة الأطراف (Bolt, et al., 2023). ويوضح الشكل رقم (3) أهم مظاهر تراجع العولمة.

رابعاً: أسباب تراجع العولمة

هناك عدة أسباب ساهمت في تراجع العولمة يتمثل أهمها فيما يلي:

  • زيادة التوترات الجيوسياسية والتجارية بسبب التنافس الجيوسياسي بين القوى العظمى

ساهمت التوترات الجيوسياسية المتزايدة، والتوزيع غير المتكافئ للمكاسب السابقة من العولمة، في زيادة الشكوك تجاه التعددية، وفي الجاذبية المتزايدة للسياسات الانطوائية. يُشكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وغزو روسيا لأوكرانيا، تحديًا للعلاقات الدولية، وقد يبشر بعكس اتجاه التكامل الاقتصادي العالمي. إن تباطؤ العولمة – والذي يشار إليه غالبًا باسم “التباطؤ الاقتصادي” – ليس بالأمر الجديد، وبالنسبة لمعظم البلدان، يعود تاريخه إلى أعقاب الأزمة المالية العالمية (Aiyar, Davide, & Andrea F, Investing in friends: The role of geopolitical alignment in FDI flows, 2024).
ويرى Aiyar, et al. (2023) أن تدفقات التجارة والاستثمار العالمية المستقرة أو المتراجعة منذ الأزمة المالية العالمية تقريبًا تزامنت مع زيادة التوترات الجيوسياسية، والدعوات إلى تقليل مخاطر سلاسل التوريد من خلال تقليل التعرض للمنافسين الجيوسياسيين، وتحفيز التوريد من الداخل  “reshoring” أو التوريد من الدول القريبة  “nearshoring”  أو الدول الصديقة “friendshoring” كاستراتيجيات لنقل عمليات الإنتاج إلى دول موثوقة ذات تفضيلات سياسية متوافقة. وفي الوقت نفسه، كانت هناك زيادة حادة في القيود التجارية، وتدقيق أكبر للاستثمار الأجنبي المباشر ونقل التكنولوجيا عبر الحدود، وارتفاع حالات الحواجز غير الجمركية (Aiyar & Ohnsorge, Geoeconomic Fragmentation and “Connector” Countries, 2024).

  • تزايد القومية والشعبوية

منذ عام 2010 عادت القوميات والشعبوية إلى الظهور بقوة، وتتمثل أهم مظاهرها في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي في عام 2016، وسياسة أمريكا أولاً، والجائحة وغيرها، ويلاحظ أن القومية والشعبوية هما القوى الدافعة لتراجع العولمة، مما يؤدي إلى إيجاد حلول إقليمية وأكثر محلية للنمو الاقتصادي والمشاكل الاجتماعية والبيئية (Vargas-Hernández, Nationalism and Populism as the Driving Forces of Economic Deglobalization, Regionalism, and Localism Processes, 2022). تتزايد الشعبوية في العالم بسبب الخوف من فقدان الوظائف وزيادة التفاوت الاقتصادي وزيادة المنافسة الأجنبية ومقاومة المستهلكين للمنتجات الأجنبية (Garg & Sushil , 2024).

  • اضطراب وانقطاع سلاسل القيمة العالمية

كشف جائحة كوفيد-19 عن ضعف سلاسل القيمة العالمية، مما دفع الساسة إلى الضغط من أجل إعادة الإنتاج إلى الداخل من أجل تقليل الاعتماد على الموردين الأجانب وبالتالي تحسين قدرة الاقتصاد المحلي على الصمود في مواجهة الأزمات (Felbermayr, Mahlkow, & Sandkamp, 2023). إن الاهتمام المتزايد بالاستثمار في الأصدقاء هو عكس كبير للتقسيم التقليدي للإنتاج الذي يتم السعي إليه من خلال النقل إلى الخارج، مدفوعًا بشكل أساسي بالفوارق الدولية في تكاليف العمالة وتكاليف المدخلات (Aiyar, Davide, & Andrea F, Investing in friends: The role of geopolitical alignment in FDI flows, 2024).

  • زيادة الاتجاه نحو استخدام السياسات الصناعية

السياسات الصناعية هي مجموعة الأدوات التي تستخدمها الحكومات لدعم صناعتها المحلية مثل الحوافز الضريبية والإعانات ودعم البحث والتطوير والبنية التحتية. وقد أدى التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى في الفترة الأخيرة إلى زياد استخدام الحكومات لهذه السياسات. (والمثال على ذلك قانون مكافحة التضخم الأمريكي، قانون الرقائق الأوربي، ومبادة صنع في الصين 2025)، ويمثل ذلك تحولاً من الليبرالية التقليدية الموجهة نحو السوق إلى القومية التقنية الموجهة نحو التدخل، مما يُبشر بعصر جديد من التفكير الصفري وإعطاء الأولوية الجيوسياسية (Ping Li, 2021).

  • الانقسامات حول الحوكمة الدولية

أدى التباطؤ في إصلاح وحوكمة المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى تقويض شرعية هذه المؤسسات، واتجاه بعض الاقتصادات الصاعدة والنامية إلى بناء مؤسسات بديلة لهذه المؤسسات، مثل بنك البريكس والبنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية وغيرها. وتشير هذه الإجراءات إلى الاتجاه نحو “تسييس” العلاقات الاقتصادية الدولية، أي الابتعاد عن النظام المتعدد الأطراف الذي ساد لأكثر من نصف قرن، والذي اتسم بالحياد لصالح التعاون الدولي، وعدم التمييز، وإلغاء القيود التنظيمية/التحرير، والمنافسة العادلة (Ping Li, 2021).

وتواجه منظمة التجارة العالمية، بصفتها مروجًا للعولمة الاقتصادية، حاليًا انتقادات شديدة، إذ تُتهم بعدم الحياد تجاه الدول المشاركة نتيجةً لمحاباتها للدول الغنية والشركات متعددة الجنسيات على حساب البيئة ومواطنيها، نتيجةً للتبني غير الديمقراطي لمعاهدات منظمة التجارة العالمية (Munteanu,et.al. 2020). واليوم أصبحت في خطر فقدان الشرعية لأن نظام تسوية المنازعات لديها قد تعطل، ويرجع ذلك أساساً إلى الهجوم الأميركي على قواعدها وأنظمتها خلال إدارة ترامب والتحول اللاحق نحو الأحادية والقومية الاقتصادية من قبل الدول الأعضاء (Ping Li, 2021).

خامساً: تفسير تراجع العولمة في إطار نظرية المراجحة لريتشالد بالدوين

ريتشارد بولدوين Richard Baldwin هو اقتصادي سويسري حصل على درجة الدكتوراه من MIT تحت إشراف بول كروجمان، وهو أستاذ الاقتصاد الدولي في كلية إدارة الأعمال IMD في لوزان، ويعمل حالياً كزميل أول غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وشغل عدة مناصب دولية مهمة منها منصب كبير خبراء الاقتصاد في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس جورج بوش الأب. وهو مؤلف كتاب (The Great Convergence: Information Technology and the New Globalization) عام 2016 والذي تم تصنيفه من قبل وزير الخزانة الأمريكي السابق lawrence h. summers على أنه أحد أفضل خمسة كتب عن العولمة على الإطلاق (International Institute for Management Development, 2025).

يفسرRichard Baldwin  مراحل تطور العولمة من خلال نظرية المراجحة، ويرى أن المراجحة هي المحرك الأساسي لتدفقات السلع والخدمات ورأس المال والخبرات والمعرفة، فعندما تكون الأشياء نادرة نسبياً (وبالتالي غالية الثمن) في مكان ما ووفيرة نسبياً (وبالتالي رخيصة الثمن) في مكان آخر، فإن الشركات تراجح الفوارق من خلال تصنيعها في الأول وبيعها في الثاني. وهذه المراجحة مقيدة بثلاثة أنواع رئيسية من تكاليف الفصل: أولاً، تكاليف التجارة (والتي تقيد المراجحة في السلع)، ثانياً، تكاليف الاتصالات (والتي تقيد المراجحة في المعرفة)، ثالثاً، تكاليف التعامل وجهاً لوجه (والتي تقيد المراجحة في خدمات العمالة). وعندما تكون تكاليف الفصل مرتفعة تصبح المراجحة أمراً صعباً، وبالتالي تظل الأشياء مجمعة معاً داخل الاقتصادات، على سبيل المثال قبل ثورة النقل في القرن الثامن عشر تم تجميع معظم الإنتاج والاستهلاك داخل الدول، وبالتالي كانت التجارة نادرة والاكتفاء الذاتي هو الأمر الشائع (Baldwin, Globotics and macroeconomics: Globalisation and automation of the service sector, 2022).
يعد تاريخ العولمة نتيجة للتخفيف المتسلسل لقيود المراجحة الثلاثة، فخلال التحول الكبير الأول (من المزارع إلى المصانع) خففت الطاقة البخارية تكاليف الفصل لتجارة السلع، وبالتالي سمحت بفصل الإنتاج والاستهلاك على المستوى الدولي، ونتيجة لذلك ازدهرت تجارة السلع وعملت طفرة التجارة على إعادة تشكيل العالم، وحفزت الثورة الصناعية والابتكار النمو في النادي الصغير من الاقتصادات التي كانت تسمى الدول الصناعية (مجموعة السبعة) وزادت حصتها من الناتج العالمي من حوالى 20% عام 1820 إلى حوالي الثلثين عام 1990، أما بقية العالم فقد نما بشكل أبطأ لمدة 170 عام وكانت النتيجة التباعد الكبير كما في الشكل رقم (4) (Baldwin, Globotics and macroeconomics: Globalisation and automation of the service sector, 2022).
وخلال التحول الكبير الثاني (من المصانع إلى المكاتب) سمحت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بفصل مراحل التصنيع ونقلها إلى الخارج بعد أن كانت كلها مجمعة في دول ذات أجور مرتفعة. فقد جعلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من الممكن لشركات مجموعة السبعة فصل العمليات الصناعية شديدة التعقيد إلى مراحل الإنتاج، ثم نقل بعض المراحل إلى الخارج إلى دول منخفضة الأجور، ويطلق على هذه المرحلة مرحلة التوسع الخارجي للعولمة. وكان تأثير هذه المرحلة على حصص الناتج المحلي الإجمالي مذهلة، فقد انخفضت حصة مجموعة السبعة من الناتج العالمي من حوالي الثلثين عام 1990 إلى حوالي 45% عام 2020، مقابل زيادة حصة الصين والهند من حوالي 3% عام 1990 إلى أكثر من 21.4% عام 2020، وبالتالي حدوث التقارب العظيم كما بالشكل رقم (4) (Baldwin, Globotics and macroeconomics: Globalisation and automation of the service sector, 2022).
ولكن كيف يمكن لعدد قليل من المصانع المنقولة إلى الخارج أن يعكس مسار العولمة؟
والإجابة هي أن شركات مجموعة السبعة التي نقلت إنتاجها إلى الخارج أرسلت خبراتها التصنيعية إلى جانب مراحل الإنتاج، وفي هذه المرحلة عبرت المصانع الحدود وليس فقط السلع. ونتيجة لذلك بدأت الهند والصين ومجموعة أخرى من الاقتصادات الناشئة الأخرى في إنتاج وتصدير السلع المصنعة التي لم يكن بوسعها أن تنتجها باستخدام تكنولوجيتها الخاصة. وكان الفصل الثاني في الواقع يتعلق بترجيح الاختلافات في المعرفة لكل عامل، وكانت النسبة مرتفعة في دول مجموعة السبعة ومنخفضة في الاقتصادات الناشئة (Baldwin, Globotics and macroeconomics: Globalisation and automation of the service sector, 2022).
باختصار انقلب التباعد العظيم إلى التقارب العظيم لأن العولمة أصبحت تنطوي على تحركات هائلة للمعرفة التصنيعية من الدول ذات الأجور المرتفعة إلى مجموعة الدول ذات الأجور المنخفضة، وكان ارتفاع التجارة كنسبة من الناتج أحد أعراض التحول، وهذا يعني أن المصانع أصبحت تعبر الحدود الدولية وأن الأجزاء والمكونات تمر عبر نقاط الجمارك عدة مرات، أولاً، كسلع وسيطة بمفردها ثم مرة أخرى من خلال دمجها في السلع النهائية المصدرة، فمن الطبيعي أن ترتفع التجارة العالمية كنسبة من الناتج (Baldwin, Globotics and macroeconomics: Globalisation and automation of the service sector, 2022).
أدى التوسع في نقل الصناعات إلى الخارج إلى زيادة حصة مجموعة الدول الست الصناعية الناشئة I6 من القيمة المضافة التصنيعية من 8% عام 1990 إلى حوالي 40% عام 2022، مقابل تراجع حصة مجموعة السبعة بنفس النسبة من 66% عام 1990 إلى 34% عام 2022، بينما ظلت حصة بقية العالم كما هي. وهذا يتفق مع فكرة أن التفكيك الثاني للعولمة أدى إلى عملية نقل المعرفة التصنيعية وبالتالي الميزة النسبية من دول مجموعة السبعة إلى دول I6. وكان لنقل الصناعات إلى الخارج وتدفقات التكنولوجيا المصاحبة تأثيرات على النمو وتأثيرات تجارية، ومن ثم انعكس مسار النمو. بعد عام 1990 نمت العديد من الدول الفقيرة بشكل أسرع من الدول الغنية وقد أدى هذا إلى انعكاس سريع لحصص الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فقد زادت حصة دول I6 من الناتج العالمي من 7% عام 1990 إلى 26% عام 2022، مقابل انخفاض حصة دول مجموعة G7 من 66% إلى 44% خلال نفس الفترة، ومن ثم فقد ارتبط النمو الاقتصادي بالتصنيع، كما يتضح من الشكل رقم (5). ومن ثم بدأت مرحلة نقل الصناعات للخارج تتباطأ، كذلك فإن الأتمتة الصناعية تقلل من حصة تكلفة العمالة في التصنيع ومعها ربحية مراحل نقل الصناعات إلى الخارج إلى الدول ذات الأجور المنخفضة (Baldwin, The peak globalisation myth (part 1,2,3,4), 2022).
والتفكيك الثالث للعولمة مدفوع بالنسخة الحديثة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات – أي التكنولوجيا الرقمية، ولكن بدلا من المراجحة في المعرفة التصنيعية من خلال سلاسل القيمة العالمية، فإنه يتيح المراجحة في قطاع خدمات العمالة من خلال العمل الدولي عن بعد (أو الهجرة عن بعد). وينطوي هذا التفكيك على الفصل المكاني بين خدمات العمالة والعمال الذين يقدمونها. والمراجحة هنا هي منافسة مباشرة بين العاملين في قطاع الخدمات في الاقتصادات المتقدمة والناشئة، وقد سهلت التكنولوجيا الرقمية العمل عن بعد. ومن ثم فسوف يكون للعولمة التي تقودها التكنولوجيا الرقمية في قطاع الخدمات تأثير على الأسعار والأجور في الاقتصادات المتقدمة (Baldwin, The peak globalisation myth (part 1,2,3,4), 2022).
باختصار ترى نظرية المراجحة لـ Richard Baldwin أن تراجع العولمة يعتبر محاولة من جانب دول مجموعة السبعة G7 لوقف نقل المعرفة التصنيعية وخاصة في التقنيات المتقدمة إلى الدول الصناعية الناشئة، وخاصة الصين وروسيا ومحاولة إعادة التصنيع والوظائف إلى الداخل. ولكن Baldwin يرى أن ذلك لن يساهم في إعادة التصنيع والوظائف للداخل، وذلك بسبب أن المرحلة الحالية من العولمة هي مرحلة عولمة المعرفة، وأن مستقبل التجارة هو في الخدمات وليس السلع، وخاصة الخدمات الوسيطة.

سادساً: تراجع العولمة وتأثيره على أهداف التنمية المستدامة

يمكن توضيح كيف يمكن أن يؤثر تراجع العولمة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال تقييم الوضع الحالي لأهداف التنمية المستدامة لبيان مدى التقدم في تحقيقها، ثم كيف يمكن أن يؤثر تراجع العولمة بالسلب على تحقيق هذه الأهداف.

  1. تقييم الوضع الحالي لأهداف التنمية المستدامة (2015 – 2024)

كشف تقرير أهداف التنمية المستدامة لعام 2024 الصادر عن الأمم المتحدة أن 17% فقط من أهداف التنمية المستدامة تسير على الطريق الصحيح، حيث يظهر نصفها تقريباً (48%) تقدماً ضئيلاً أو متوسطاً، وأكثر من الثلث (35%) متوقفاً أو في تراجع، ويتضح ذلك من الشكل رقم (6). وقد أعاقت آثار جائحة كوفيد-19 والنزاعات والتوترات الجيوسياسية المتفاقمة والفوضى المناخية المتزايدة التقدم بشدة. ويوضح التقرير أن الحروب أدت إلى زيادة عدد النازحين قسراً إلى ما يقرب من 120 مليون وارتفعت الخسائر المدنية بنسبة 72% وهي أعلى نسبة مسجلة منذ اعتماد خطة التنمية المستدامة 2030 في عام 2015. كما تباطئ نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في نصف بلدان العالم الأكثر ضعفاً مقارنة بالدول المتقدمة، وهو ما يهدد بزيادة حدة التفاوت في توزيع الدخل بين الدول (United Nations, 2024).ويسلط التقرير الضوء على الحاجة الملحة إلى التعاون الدولي لتحقيق أقصى قدر من التقدم، والحاجة الملحة لتمويل التنمية حيث تبلغ فجوة الاستثمار من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة 4 تريليون دولار سنوياً، ومن ثم يكشف التقرير أن العالم بعيد كل البعد عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة عام 2030 (United Nations, 2024).

2- تأثير تراجع العولمة على أهداف التنمية المستدامة

يؤثر تراجع العولمة بشكل مباشر وغير مباشر على أهداف التنمية المستدامة التي حددتها الأمم المتحدة. هذا التراجع يتمثل في زيادة الحمائية التجارية وانخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، واضطراب سلاسل التوريد، واحتدام التنافي الجيوسياسي، وخاصة بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين، ويمكن أن يؤثر تراجع العولمة سلباً على ست أهداف من أهداف التنمية المستدامة بشكل مباشر كما يلي:

  • الهدف الأول، القضاء على الفقر: يؤدي انخفاض التجارة والاستثمار إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وخاصة في الدول النامية مما يحد من خلق فرص العمل، وبالتالي زيادة معدلات الفقر. كما يؤدي تقلص المساعدات الدولية وبرامج الدعم التنموي نتيجة للأولويات الوطنية للدول المتقدمة إلى ارتفاع معدلات الفقر خاصة في الدول منخفضة الدخل. فقد أدت الجائحة والتوترات الجيوسياسية والصراعات العسكرية إلى زيادة معدلات الفقر، حيث بلغ عدد الفقراء في العالم 712 مليون فرد عام 2022 (9% من سكان العالم) بزيادة قدرها 23 مليون نسمة عن عام 2019(United Nations, 2024).
  • الهدف الثاني، القضاء التام على الجوع: يؤثر اضطراب سلاسل التوريد العالمية على توفر الغذاء وأسعاره خاصة في البلدان المستوردة للغذاء، كما تؤدي القيود المفروضة على السلع الزراعية إلى إعاقة الوصول إلى الأسواق وتزايد انعدام الأمن الغذائي. ففي عام 2023 واجه 733 مليون شخص الجوع، وعانى 2.33 مليار شخص من انعدام الأمن الغذائي المتوسط إلى الشديد. كما واجه ما يقرب من 60% من بلدان العالم ارتفاعاً في أسعار المواد الغذائية بين المتوسط والارتفاع غير الطبيعي، بسبب تعطل سلاسل التوريد(United Nations, 2024).
  • الهدف الثامن، العمل اللائق ونمو الاقتصاد: يؤدي تراجع العولمة إلى انخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر ونقل التكنولوجيا مما يقلل من الإنتاجية وفرص العمل في البلدان النامية. وتؤدي التوترات الجيوسياسية إلى تباطؤ النمو الاقتصادي بسبب زيادة حالة عدم اليقين، كما تتعرض الدول الأقل اندماجاً في الاقتصاد العالمي لمزيد من التهميش الاقتصادي. وقد أدت التوترات التجارية والجيوسياسية إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي عام 2022 بسبب زيادة المخاطر الجيوسياسية وحالة عدم اليقين في السياسات الاقتصادية. وبالرغم من وصول المعدل العالمي للبطالة إلى 5% في عام 2023 إلا أن هناك عقبات تواجه تحقيق العمل اللائق، حيث تواجه النساء والشباب معدلات بطالة أعلى ويمثل العمل غير الرسمي نسبة كبيرة(United Nations, 2024).
  • الهدف العاشر، الحد من أوجه عدم المساواة: يؤدي تراجع التكامل الاقتصادي العالمي إلى زيادة الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، كما يزداد التفاوت داخل الدول، حيث أن الطبقات الأكثر ضعفاً تتحمل العبء الأكبر من الأزمات الاقتصادية الناتجة عن تفكك العولمة. وقد أشار تقرير أهداف التنمية المستدامة عام 2024 إلى أن أجور العمال لم تواكب الإنتاجية، كما أن حصة الأجور في الناتج العالمي تواصل انخفاضها طويل الأجل بسبب تبني التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، كما أن البلدان النامية ليست ممثلة تمثيلاً عادلاً في عملية صنع القرار الدولي(United Nations, 2024).
  • الهدف الثالث عشر، العمل المناخي: يؤدي التنافس الاستراتيجي إلى تراجع التعاون الدولي وعرقلة الاتفاقيات المناخية والالتزامات الجماعية لخفض الانبعاثات الكربونية. كما يؤدي إلى ضعف التمويل المناخي بسبب التركيز على المصالح الوطنية. وبالفعل فقد انسحبت الولايات المتحدة صاحبت أكبر انبعاثات تراكمية من اتفاقية المناخ في ولاية ترامب الأولى، ثم أعادها بايدن، ولكنها انسحبت مرة أخرى في ولاية ترامب الثانية، ومن ثم فإن تراجع التعاون الدولي سوف يؤثر سلباً على مواجهة ظاهرة تغير المناخ.
    وتُظهِر تحليلات صندوق النقد الدولي أن تجزئة التجارة في المعادن الحاسمة للتحول الأخضر ــ مثل النحاس والنيكل والكوبالت والليثيوم ــ من شأنها أن تجعل التحول في مجال الطاقة أكثر تكلفة. ولأن هذه المعادن تتركز جغرافيا ولا يمكن استبدالها بسهولة، فإن تعطيل تجارتها قد يؤدي إلى تقلبات حادة في أسعارها، مما يؤدي إلى قمع الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة وإنتاج المركبات الكهربائية. فعلى سبيل المثال يعتمد الاتحاد الأوربي على الصين في 97% من احتياجاته من الليثيوم وهو معدن مهم في إزالة الكربون ويشار إليه بالذهب الأبيض ( Atlantic Council, 2024). وتشير دراسة ( (Aiyar, et al., 2023) إلى أن هناك تركز جغرافي (يمثل أكبر ثلاث موردين للمعادن حوالي 75% من الإنتاج العالمي) في إنتاج بعض السلع الأساسية المهمة للتحول الأخضر، وأن التفتت سوف يكون له مخاطر كبيرة على تغير المناخ والأمن الغذائي العالمي.
  • الهدف السابع عشر، عقد الشراكات لتحقيق الأهداف: يؤدي التنافس الاستراتيجي إلى تراجع التعاون متعدد الأطراف، حيث مع تزايد النزعات القومية وتراجع الثقة في المؤسسات الدولية، يصبح تحقيق الأهداف عبر الشراكات العالمية أكثر صعوبة. تواجه البلدان النامية فجوة استثمارية مقدارها 4 تريليون دولار لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وقد انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الدول النامية، ويوجه نحو 60% من البلدان منخفضة الدخل ضائقة ديون(United Nations, 2024).

والخلاصة هي أن تراجع العولمة يؤدي إلى إضعاف القدرة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال ابطاء النمو الاقتصادي، وزيادة عدم المساواة، وتقويض التعاون الدولي، ومن ثم تحتاج الدول النامية إلى استراتيجيات مرنة ومتنوعة للتخفيف من هذه الآثار مثل تعزيز التكامل الإقليمي، وتطوير الاقتصاد الرقمي، وتعزيز الاعتماد على الذات في المجالات الحيوية.

سابعاً: النتائج والتوصيات

تتمثل نتائج البحث وتوصياته فيما يلي:

  • النتائج

تتمثل نتائج البحث فيما يلي:

  • توجد أدلة دامغة على أن التعاون الدولي في الوقت الحالي أصبح أكثر صعوبة وأن العولمة انعكس مسارها أو تباطأت، وأصبحت الدول تفضل مصالحها الوطنية على الأولويات العالمية، وتتجلى مظاهر ذلك في السياسات الحمائية والتوترات الجيوسياسية والحروب والأزمات الاقتصادية واستخدام السياسات الصناعية وسياسات الفصل التكنولوجي وتقييد الاستثمار الأجنبي المباشر.
  • أدى تراجع العولمة إلى إبطاء التقدم في تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة، خاصة القضاء على الفقر (الهدف الأول)، والقضاء على الجوع (الهدف الثاني)، نتيجة لتراجع النمو الاقتصادي العالمي بسبب التوترات الجيوسياسية التي ساهمت تقييد حركة التجارة والاستثمار الأجنبي.
  • ساهم تراجع العولمة في زيادة الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، بسبب سياسة الفصل التكنولوجي التي تمنع انتشار التكنولوجيا وما لها من آثار سلبية على الدول النامية.
  • أدت سياسة التنافس الاستراتيجي إلى تقليص التعاون الدولي مما يعقد من مواجهة المشكلات التي تتطلب تتعاوناً دولياً مثل تغير المناخ والأمن الغذائي والجوائح، وبالتالي عدم تحقيق الهدف السابع عشر (عقد الشراكات لتحقيق الأهداف).
  • ساهمت التوترات الجيوسياسية واضطراب سلاسل التوريد في ارتفاع معدلات التضخم لمستويات تاريخية، مما أثر بالسلب على ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الغذاء والطاقة وبالتالي التأثير سلباً على أهداف التنمية المستدامة خاصة الهدف الأول والثاني.

التوصيات

يقدم البحث التوصيات التالية:

  • توثيق التعاون متعدد الأطراف في المجالات ذات الاهتمام المشترك: مثل تغير المناخ والأمن الغذائي ومواجهة الجوائح والأوبئة: يمثل التعاون متعدد الأطراف عاملاً أساسياً في منع التشتت، ومواصلة النمو والاستقرار الاقتصادي، والتصدي للتغير المناخي. وينبغي أن تتسم السياسات التجارية بالوضوح والشفافية لتثبيت التوقعات، وتقليل تشوهات الاستثمار، والحد من التقلبات في الأسواق، بما فيها أسواق السلع الأولية الزراعية والمعادن الحيوية(IMF, 2024).
  • تعزيز التعاون الإقليمي كبديل لتراجع العولمة: من خلال إقامة الشراكات الاقتصادية وتبادل الخبرات لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
  • إعادة الثقة في النظام الاقتصادي العالمي: ويمكن ذلك من خلال تحسين حوكمة المؤسسات العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدول والبنك الدولي للتأكد من تعبيرها عن ديناميكيات الاقتصاد العالمي المتغيرة (Georgieva, Gopinath, & Pazarbasioglu, 2022).
  • تبني سياسات اقتصادية مرنة ومستدامة: تمكن الدول من التكيف مع التحولات العالمية، مع التركيز على دعم القطاعات الإنتاجية المحلية وتعزيز الاكتفاء الذاتي. بالإضافة إلى تعزيز الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار لضمان النمو المستدام وتقليل الاعتماد على النظام الاقتصادي العالمي المتقلب.
  • تعزيز الحوكمة والشفافية في إدارة الموارد، وتعزيز دور المجتمع المدني في مراقبة تطبيق سياسات التنمية المستدامة لضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

للمراجع والهوامش والدراسة بملف PDF

اترك تعليقا