الرئيسية » الدراسات » تحديات وصول إثيوبيا المحتمل إلى البحر الأحمر على الأمن القومي المصري

تحديات وصول إثيوبيا المحتمل إلى البحر الأحمر على الأمن القومي المصري

الكاتب:

أولًا، محددات الموقف الراهن:
تشهد منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، منذ سنوات، تحولات جيوسياسية عميقة أعادت تشكيل موازين القوى الإقليمية والدولية. وتأتي المساعي الإثيوبية للوصول إلى البحر الأحمر في قلب هذه التحولات، إذ تسعى إلى كسر عزلتها البحرية المستمرة، منذ استقلال إريتريا عام 1993م، وتأمين منفذ بحري يضمن لها الاستقلال الاقتصادي والقدرة على المناورة الإقليمية. غير أن هذا التحرك يتقاطع مع جملة من التحديات الأمنية والسياسية المحيطة، التي تؤثر بدورها في حسابات الأمن القومي المصري.
  1. التحولاتالجيوسياسية بإقليم البحر الأحمر والقرن الإفريقي: الذي يشهد تنافسًا حادًا بين القوى الإقليمية والدولية على السيطرة على الممرات البحرية الحيوية، لاسيما مضيق باب المندب وخطوط الإمداد والتجارة العالمية. وقد أدى تعدد القواعد العسكرية في كل من جيبوتي وإريتريا إلى خلق بيئة أمنية شديدة التعقيد، تجعل أي تحرك جديد، مثل السعي الإثيوبي للحصول على منفذ بحري، مصدرًا محتملاً لإعادة توزيع النفوذ العسكري والاقتصادي في المنطقة.
كما أن تصاعد الانخراط الدولي (الصيني، الأمريكي، التركي، الإسرائيلي) في البحر الأحمر يزيد من حساسية الموقف، ويُصعّب على مصر الحفاظ على تفوقها التقليدي في هذا المجال الحيوي المرتبط مباشرة بأمن قناة السويس.
  1. تفاقم الحرب في السودان وتداعياتها: تمثل الحرب الدائرة في السودان،منذ منتصف عام 2023م أحد أهم المتغيرات المؤثرة في معادلة الأمن الإقليمي. فقد أدى الصراع بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا الدعم السريع إلى انهيار البنية المؤسسية للدولة، وخلق فراغ أمني واسع في الإقليم الشرقي المتاخم لإثيوبيا. وقد استغلت إثيوبيا هذا الاضطراب لتعزيز وجودها العسكري والاستخباري على الحدود، وخاصة في منطقة «الفشقة» المتنازع عليها، مما يشير إلى رغبتها في استثمار ضعف الدولة السودانية لترسيخ نفوذها في محيطها الغربي.
ويمثل هذا الوضع تحديًا مباشرًا للأمن القومي المصري، لأن استقرار السودان يُعدّ ركيزة أساسية للأمن المائي والجيوسياسي لمصر، وأي تمدد إثيوبي داخل الساحة السودانية يفتح الباب أمام إعادة تموضع استراتيجي قد يهدد مصالح مصر في حوض النيل والبحر الأحمر معًا.
ومن ناحية أخرى، تزداد خطورة هذا الواقع في ظل هشاشة الوضع الأمني بدولة جنوب السودان، التي تعاني من انقسامات داخلية وصراعات قبلية متجددة، جعلتها غير قادر على لعب دور توازني في الإقليم، بل تحولت في أحيان كثيرة إلى ساحة تنافس بين قوى إقليمية، منها إثيوبيا. لذلك فإن هذا التآكل المزدوج في منظومة الأمنين السوداني والجنوب سوداني من شأنه خلق بيئة فراغ إستراتيجي خطيرة تسمح بتمدد إثيوبي تدريجي نحو عمق المجال الحيوي المصري، وتزيد من تعقيد الوضع الأمني الممتد من الهضبة الشرقية لمنابع النيل إلى السواحل الجنوبية للبحر الأحمر، حيث باب المندب.
  1. الأزمة الصومالية وتداعياتها الإقليمية: يُعد الوضع الداخلي في الصومال أحد العوامل الأكثر تأثيرًا في الوضعالإقليمي المرتبط بمساعي إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر. فالدولة الصومالية لا تزال تعاني من هشاشة مؤسسية وانقسامات بين الحكومة المركزية في مقديشو والولايات الاتحادية، خاصة «بونتلاند» و«جوبالاند» وهو ما يضعف قدرتها على إدارة سيادتها الإقليمية بشكل كامل.
وفي هذا السياق، أعلنت إثيوبيا، في مطلع عام 2024م توقيع اتفاق مثير للجدل مع إقليم «صومالي لاند» الانفصالي، يقضي بمنحها حق استخدام ميناء «بربرة» المطل على البحر الأحمر لمدة تصل إلى خمسين عامًا، مقابل اعتراف سياسي ضمني بالإقليم. غير أن هذا الاتفاق واجه رفضًا واسعًا من الحكومة الفيدرالية الصومالية، إذ اعتبرته انتهاكًا صارخًا لوحدة أراضيها وسيادتها، وأثار إدانات عربية وإفريقية متزامنة من جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي.
وعلى الرغم من الحماس الإثيوبي للإعلان عن الاتفاق باعتباره خطوة استباقية نحو البحر الأحمر، فإن تنفيذه الفعلي يبدو صعبا في ضوء المعطيات الراهنة؛ إذ لا تمتلك «صومالي لاند» اعترافًا دوليًا يتيح لها إبرام اتفاقات سيادية، كما أن الموقف الصومالي الرافض مدعوم بتأييد إقليمي قوي من كل من مصر والسعودية وجيبوتي، إضافة إلى الموقف الحازم للاتحاد الإفريقي الرافض لأي مساس بحدود الدول المعترف بها. وعليه، يُمكن القول إن هذا الاتفاق يمثل تحركًا رمزيًا أكثر من كونه إنجازًا عمليًا، إذ تسعى إثيوبيا عبره إلى توجيه رسالة سياسية مفادها أن امتلاك منفذ بحري لم يعد خيارًا بل ضرورة وطنية، حتى وإن ظل التنفيذ رهنًا بمعادلات ميدانية وسياسية معقدة.
ومن هذا المنطلق، يمثل سعي إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر تحولًا بنيويًا في عقيدتها الاستراتيجية وإدراكها لمفهوم أمنها القومي، إذ لم يعد هذا الأمن مرتبطًا فقط بالهيمنة على الهضبة الشرقية لمنابع النيل، بل اتسع ليشمل بناء نفوذ بحري يتيح لها عمقًا استراتيجيًا ممتد إلى مياه البحر الأحمر، حيث مضيق باب المندب. على نحو يعزز قدرتها على الربط بين ملفي المياه والبحر في معادلة ضغط واحدة تجاه دول الجوار، وعلى رأسها مصر.  ولهذا تتبنى أثيوبيا منذ عام 2023م، سياسة خارجية تستند إلى خطاب تزعم فيه «حقًا تاريخيًا» في الوصول إلى البحر، ويعيد تعريف دورها كقوة إقليمية مزدوجة الحضور: مائية وبحرية. وذلك بعد عقود من الاحتباس الجغرافي الذي فرضته خسارتها للسواحل الإريترية، عام 1993م،
ويتزامن هذا التحرك مع مؤشرات دعم خارجي غير معلن، يوفر غطاءً سياسيًا وتقنيًا للتحركات الإثيوبية، من قوى دولية وإقليمية تسعى بدورها إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ في وادي النيل والبحر الأحمر. وتبرز هنا الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات بوصفها أطرافًا داعمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للمسار الإثيوبي، سواء عبر التمويل أو الخبرات التقنية أو المساندة الدبلوماسية.
ويمنح هذا الدعم الطموحات الإثيوبية قدرًا من الزخم والشرعية الدولية، لكنه في المقابل يفاقم تعقيدات البيئة الاستراتيجية لمصر، إذ يربط بين مصالح هذه القوى ومشروع أثيوبيا البحري والمائي في آنٍ واحد. وهنا، يتجاوز التحدي الإثيوبي نطاق الجغرافيا إلى إعادة هيكلة توازنات القوة في الإقليم، بحيث تجد مصر نفسها أمام واقع تتقاطع فيه مصالح دولية وإقليمية على نحو يجعل البحر والنهر معًا ساحتين متداخلتين للصراع والتأثير.
ثانيًا، الدوافع الإثيوبية للوصول إلى البحر الأحمر
سبق القول بأن الاتجاه الإثيوبي نحو البحر الأحمر يشكل تحولا استراتيجيا في عقيدة الأمن القومي الإثيوبي، قائم على إدراك متزايد بأن امتلاك منفذ على البحر الأحمر لم يعد ترفًا اقتصاديًا بل شرطًا لبقاء الدولة ومكانتها الإقليمية. ويمكن تحديد أبرز دوافع هذا التحرك في أربعة محاور رئيسية:
  1. دوافع اقتصادية وتنموية: تعتمد إثيوبيا، منذ استقلال إريتريا عام 1993م على ميناء جيبوتي كممر وحيد لتجارتها الخارجية، حيث تمر عبره أكثر من 95% من وارداتها وصادراتها. وقد أدى هذا الاعتماد شبه الكامل إلى ارتفاع تكاليف النقل والتخزين، وإلى تبعية اقتصادية حرجة جعلت الاقتصاد الإثيوبي عرضة للابتزاز، أو الضغط من دول الموانئ.لذلك تسعى إلى تنويع ممراتها البحرية عبر الحصول على منفذ مباشر على البحر الأحمر، سواء من خلال اتفاقات تأجير طويلة الأمد، أو شراكات لوجستية مع دول الجوار الساحلية مثل إريتريا، أو صومالي لاند. وترى القيادة الإثيوبية في ذلك خطوة ضرورية لتحقيق طموحاتها التنموية، خصوصًا في ظل مشاريعها الكبرى للبنية التحتية والطاقة التي تتطلب منافذ تصدير مستقلة للسلع والخدمات.
  2. دوافع استراتيجية وأمنية: تمثل السيطرة على منفذ بحري مكسبًا نوعيًا في بنية القوة الإثيوبية، يمنحها قدرة أكبر على التواصل مع الأسواق العالمية، ويعزز حضورها في منظومة الأمن الإقليمي للبحر الأحمر والقرن الإفريقي. كما تسعى إثيوبيا إلى الحد من عزلتها الجغرافية التي تجعلها تعتمد على حسن نية جيرانها الساحليين، وهو ما تعتبره تهديدًا طويل الأمد لأمنها القومي.
إضافة إلى أنها تتطلع إلى بناء قوة بحرية رمزية قادرة على حماية مصالحها التجارية في البحر الأحمر، ولهذا تحاول تنفيذ ما سبق وأعلنت عنه رسميًا، عام 2019م، في إطار رؤيتها لإنشاء «بحرية إثيوبية حديثة» بدعم تقني من فرنسا وبعض الحلفاء الغربيين.
  1. دوافع سياسية وإقليمية: تسعى إثيوبيا عبرهذه التحركات إلى تثبيت مكانتها كقوة إقليمية مهيمنة في شرق إفريقيا، خاصة بعد أن أصبحت محورًا أساسيًا في ملفات الأمن المائي والطاقة. وبالتالي فإن وصولها المحتمل إلى البحر الأحمر يمنحها ميزة جديدًا في التفاعلات الإقليمية، ويتيح لها الانخراط في ملفات الملاحة والتجارة والأمن البحري، التي كانت حتى وقت قريب حكرًا على دول ساحلية مثل مصر والسعودية. ومن هذا المنطلق، تستخدم النخبة الإثيوبية خطابًا يستند إلى مزاعم تاريخية، لتبرير مشروعها أمام الداخل الإثيوبي، في ضوء تراجع الزخم الشعبي حيال السد، وقرب إجراء الانتخابات في صيف 2026م، إلى جانب محاولة الترويج لهذا المشروع المدعوم دوليًا؛ بوصفه خطوة طبيعية نحو التنمية والتكامل الإقليمي من وتحقيق مصالح القوى الداعمة له.
  2. دوافع أمنية ودبلوماسية: ترتبط المساعي الإثيوبية بمخاوف أمنية متزايدة من التحالفات الإقليمية في البحر الأحمر التي تُدار دون مشاركة إثيوبيا، مثل «مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن» الذي تقوده السعودية ومصر. وترىإثيوبيا أن استبعادها من هذه الأطر يُقصيها من معادلات الأمن البحري الإقليمي، لذلك تعمل على فرض حضورها عبر اتفاقات ثنائية، أو ترتيبات ميدانية مع كيانات محلية (كما في حالة صومالي لاند) لتأكيد شرعيتها في المشاركة.
كذلك، يُعد الوجود البحري، ولو رمزيًا، أداة دبلوماسية يمكن توظيفها في مقايضة قضايا أخرى عالقة، مثل ملف السد الأثيوبي، أو الحدود مع السودان، بحيث يصبح للبحر الأحمر وظيفة تفاوضية جديدة في استراتيجية الضغط الإثيوبية.
  1. دوافع نخبوية: لا يمكن إغفال البعد النخبويفي الخطاب الإثيوبي، إذ تسعى النخبة إلى إحياء سردية «إثيوبيا الإمبراطورية» التي كانت تمتلك سواحل بحرية، حتى أوائل التسعينيات. ومن خلال هذا الخطاب، تحاول الحكومة تعزيز الهوية الوطنية والوحدة الداخلية عبر مشروع استراتيجي جامع يرمز إلى ما تصفه بـ«استعادة المكانة التاريخية» وهو ما يكتسب أهمية خاصة في ظل التوترات العرقية والانقسامات الداخلية التي تهدد تماسك الدولة الإثيوبية. وبهذا، يمثل مشروع أثيوبيا للوصول المحتمل إلى البحر الأحمر وسيلة لتوحيد الداخل حول هدف قومي، أكثر من كونه مجرد مسعى اقتصادي أو جغرافي.
ثالثًا، التحديات الإستراتيجية التي يفرضها التحرك الإثيوبي على الأمن القومي المصري
يمثّل التحرك الإثيوبي نحو البحر الأحمر خطوة تتجاوز الطموح الجغرافي إلى إعادة صياغة موازين القوة في الإقليم، عبر إفساح المجال أمام تحوّلٍ تدريجي في أنماط التفاعل بين دول حوض النيل ودول البحر الأحمر. ويضع هذا التطور مصر أمام تحديات مركبة تمسّ عناصر أمنها القومي المائي والبحري معًا، وتفرض عليها إعادة تقييم استراتيجياتها في إدارة المجالين. فالوصول الإثيوبي المحتمل إلى الساحل لا يهدد فقط توازن النفوذ في القرن الأفريقي، بل يمتد ليؤثر على بنية الأمن الإقليمي التي كانت القاهرة أحد أعمدتها الرئيسية لعقود.
  1. إعادة تشكيل المجال الحيوي الإثيوبي: يُعدّ التمدد الإثيوبي نحو البحر الأحمر تحولًا نوعيًا في عقيدة الأمن القومي الإثيوبي، التي كانت تعتمد تاريخيًا على السيطرة على منابع النيل بوصفها مصدر القوة الرئيسي. بينما تسعى اليومإلى تحقيق التكامل بين القوة المائية والقدرة البحرية، ما يمنحها نفوذًا مزدوجًا على كلٍّ من السودان ومصر من جهة، وعلى الممرات التجارية في البحر الأحمر من جهة أخرى. وبالتالي فإن حصولها على منفذ بحري دائم، سواء عبر اتفاق على استخدام ميناء «بربرة» أو عبر ترتيبات عسكرية وأمنية في إريتريا، سوف يحوّلها إلى فاعل إقليمي كامل يمتلك أدوات الضغط الاقتصادية والعسكرية على جيرانه.
  2. الإخلال بتوازنات الأمن الإقليمي في البحر الأحمر: يُعدّ البحر الأحمر مجالًا حيويًا للأمن القومي المصري، ليس فقط لاعتبارات الملاحة وقناة السويس، ولكن أيضًا لأنه العمق الغربي للأمن العربي والخليجي. ودخول إثيوبياالمحتمل إلى هذا المجال سوف يضيف لاعبًا غير عربي إلى منظومة الأمن البحري، مدعومًا بتحالفات متغيرة مع روسيا، أو إسرائيل، أو الإمارات، أو الولايات المتحدة. ويخلق هذا التطور ازدواجية في منظومة الضبط الأمني للبحر الأحمر، إذ يمكن أن يؤدي التباين بين الرؤيتين المصرية والإثيوبية إلى سباق نفوذ على إدارة الموانئ وتأمين الممرات البحرية، خاصة في المناطق المتاخمة لمضيق باب المندب.
  3. تهديد الارتباط بين الأمن المائي والبحري: من أخطر التحديات التي تفرضها الخطوة الإثيوبية هو دمج ملف النيل في معادلة السيطرة البحرية. فإذا امتلكت أديس أبابا القدرة على التواجد العسكري أو اللوجستي في أحد الموانئ المطلة على البحر الأحمر، فستمتلك أيضًا عمقًا استراتيجيًا يسمح لها بمناورة مزدوجة، الضغط عبر السد في المجال المائي، والتحرك عبر التحالفات البحرية في المجال الإقليمي. ويمنحها هذا الدمج بين المسارين تفوقًا تفاوضيًا غير مسبوق في أي مفاوضات مستقبلية حول المياه أو التنمية أو الأمن الحدودي.
  4. زيادةعسكرة الممرات البحرية: في حال حصول إثيوبيا على قاعدة بحرية على البحر الأحمر، حتى لو تحت غطاء مدني أو تجاري، فإن ذلك سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام زيادة عسكرة للبحر الأحمر. فالوجود العسكري الإثيوبي، المحتمل، سواء كان رمزيًا أو محدودًا، سوف يشكل عامل احتكاك محتمل مع كلٍّ من مصر وإريتريا والسودان، خاصة إذا ارتبط هذا الوجود بتعاون استخباراتي مع قوى خارجية، لا سيما إسرائيل والولايات المتحدة.
ومن المرجح أن تستخدم إثيوبيا هذا الحضور البحري لتوسيع مجال الردع غير المباشر ضد مصر، عبر مراقبة خطوط الإمداد أو التأثير على التحالفات العربية في البحر الأحمر.
  1. تداعيات على دور مصر في أمن البحر الأحمر: يستند الدور المصري تقليديًا إلى محورين: قيادة التحالفات البحرية الإقليمية، وضمان أمن الممر الملاحي بدءا من قناة السويسصولا إلى باب المندب. لذلك فإن دخول إثيوبيا إلى هذا المعادلة سوف يقود إلى تعدد مراكز القرار الأمني في الإقليم، ويحد من قدرة مصر على صياغة الأجندة البحرية الإقليمية بمفردها. وقد تجد نفسها مضطرة إلى تعزيز تحالفاتها البحرية والسياسية مع السعودية واليمن والسودان، لتشكيل جدار صدّ يحدّ من النفوذ الإثيوبي الصاعد.
وبالتالي، فقد من قبيل التكرار القول إن وصول إثيوبيا المحتمل إلى البحر الأحمر ليس مجرد تحوّل جغرافي، بل تحوّل استراتيجي في موازين القوة الإقليمية، يربط بين ملفي المياه والممرات البحرية في معادلة ضغط واحدة. وهو الأمر الذي يمثل تحديا لمصر في الحفاظ على احتكارها النسبي للتأثير في معادلة أمن البحر الأحمر، ولقدرتها على منع تحوّل إثيوبيا إلى قوة مزدوجة (مائية–بحرية) يمكنها التأثير في خطوط الملاحة ومصادر المياه في آنٍ واحد.
ولذلك، فإن الاستجابة المصرية تتطلب تكثيف تحركاتها في جانب الأمن المائي، الأمن البحري الممتد حتى باب المندب، ضمن رؤيتها الاستراتيجية الشاملة للحفاظ على التوازن في شرق أفريقيا والبحر الأحمر. وتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والتنمية
رابعًا، المسارات والسياسات المقترحة:
تفرض التحركات الإثيوبية نحو البحر الأحمر على مصر ضرورة إعادة تعريف مفهوم أمنها القومي في بعديه المائي والبحري معًا، بحيث تتجاوز إدارة أزمة سد النهضة إلى بناء رؤية شاملة للأمن الإقليمي في شرق إفريقيا. فالمشهد الراهن لم يعد يقتصر على مجرى النيل، بل يمتد إلى شبكة مصالح استراتيجية، بدءا من الهضبة الإثيوبية حتى مضيق باب المندب. ومن ثمّ، يتطلب التعامل مع هذا الواقع اعتماد مقاربة متعددة المسارات تجمع بين التحرك الدبلوماسي والقانوني والأمني والاقتصادي، بما يحافظ على مكانة مصر كفاعل إقليمي محوري قادر على موازنة التفاعلات المتشابكة في الإقليم.
  1. المسار الدبلوماسي: في ظل البيئة الإقليمية المتقلبة التي تحكمها اعتبارات المصلحة لا الثوابت، يصبح الرهان على تحالفات تقليدية رهانًا محفوفًا بالمخاطر. فالقوى الخليجية، وفي مقدمتهاالسعودية والإمارات، قد تتجه إلى مواقف حيادية، أو برجماتية متعاونة مع إثيوبيا؛ إذا اقتضت مصالحها الاقتصادية ذلك. وعليه، يتعين على القاهرة انتهاج سياسة موازنة دقيقة، ترتكز على إدارة التباينات للتفاعلات المتصاعدة، بدلًا من التعويل على التحالفات الثابتة. وهو الأمر الذي يتطلب:
  2. تعزيز الانفتاح التكتيكي على الصين باعتبارها قوة ذات حضور متنامٍ في الموانئالاستراتيجية وممرات التنمية الإفريقية.
  3. بناء تفاهمات عملية مع السودان، حال نجاح الآلية الرباعية في حلحلة الأزمة في السودان، ووقف إطلاق النار بين طرفي الصراع، ومعوجيبوتي لضمان استمرار دور مصر ونفوذها في الإقليم.
  4. تفعيل التفاهمات مع أريتريا، بناء على التحالف معها، حال اندلاع مواجهات عسكرية بينها وبين إثيوبيا حول ميناء «عصب»
  5. تفعيلأطر التعاون العربي والإفريقي، لا سيما «مجلس البحر الأحمر وخليج عدن» لترسيخ دور مصر كضابط لتوازن الأمن البحري وقادر تحفيز دول الإقليم للتجاوب معه.
  6. تكثيف التحركات الدبلوماسية داخل المحافل الدولية والإقليمية وداخل المنظمات الإفريقية، وفي مقدمتها الهيئة الحكومية للتنمية إيجاد (IGAD)
  7. المسار القانوني: يمثل القانون الدولي للبحار أداة فعّالة يمكن توظيفها في تحجيم الطموحات الإثيوبية ومنع شرعنتها؛ قبل أن تصبح مثلا يحتذى لبقية الدول الإفريقية الحبيسة الأخرى، خاصة أنه، إذ تحققت هذه الطموحات الأثيوبية، فسوف يؤدي ذلك إلى حالة من عدم الاستقرار الإقليمي والقاري. لا سيما أن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار،لعام 1982م، نصت على انه لا يجوز لأي دولة حبيسة، مثل إثيوبيا، إنشاء وجود بحري ذي طابع عسكري أو سيادي في إقليم دولة أخرى دون موافقة حكومتها الشرعية.
وبناءً على ذلك، يمكن لمصر أن تقود تحركًا قانونيًا استباقيًا عبر تفعيل المسار الدبلوماسي داخل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية «إيجاد» لإبطال أي اتفاق قد تبرمه إثيوبيا مع كيانات غير معترف بها، مثل إقليم «صومالي لاند» خاصة في ظل زيادة مؤشرات الاعتراف الأمريكي المحتمل به. كما يمكن إعداد ملف قانوني مصري–عربي مشترك يهدف إلى وضع ضوابط ملزمة للوجود العسكري الأجنبي في البحر الأحمر، استنادًا إلى مبدأ الحياد الملاحي ومنع عسكرة الموانئ. والعمل على ربط أي تفاهمات بحرية تخص إثيوبيا بمسؤولياتها القانونية في ملف السد، بما يحد من توظيف موارد المياه كورقة ضغط سياسي أو أمني.
  1. المسار الأمني والعسكري الوقائي: في حال تصاعد التوتر بين إثيوبيا وإريتريا حول المنافذ البحرية، تصبح الحاجة ملحّة إلى استراتيجية ردع مرنة تحافظ على استقرار الإقليم دون الانخراط في مواجهة مباشرة. وتتضمن هذه الاستراتيجية تفعيل قنوات الاتصال الاستخباراتية والعسكرية مع أسمرة،وفقا للتحالف معها، لتنسيق المواقف الميدانية وتبادل المعلومات. وتقديم دعم فني ولوجستي يرفع من قدرة إريتريا على ضبط حدودها وتأمين سواحلها دون انزلاق إلى صراع مفتوح.
أما في حال اقتراب اندلاع مواجهة بحرية، يمكن لمصر التحرك عبر محورين متكاملين، محور سياسي يتمثل في تعبئة موقف إفريقي ودولي يحمّل إثيوبيا مسؤولية التصعيد ويمنع شرعنة وجودها البحري، ومحور عملياتي يتمثل في تكثيف الوجود البحري والاستخباراتي في نطاق باب المندب–إريتريا، بما يضمن مراقبة التحركات الإثيوبية ومنع فرض أمر واقع جديد.
  1. المسار الاقتصادي والتنموي: تظل أدوات الاقتصاد والتنمية من أهم وسائل النفوذ غير المباشر في القرن الإفريقي. ومن ثم، فإن تعزيز دور مصرالاقتصادي دول الساحل الغربي للبحر الأحمر يمثل ضرورة استراتيجية لتقليص هامش النفوذ الإثيوبي. ويتطلب ذلك توسيع المشروعات اللوجستية وتطوير الموانئ المشتركة مع السودان وجيبوتي وإريتريا. كما يتطلب الأمر دعم برامج التنمية والبنية التحتية في دول الإقليم، بما يعزز ارتباطها بالمصالح المصرية. كذلك العمل على توظيف أدوات التعاون الاقتصادي كرافعة دبلوماسية لترسيخ الدور المصري كفاعل تنموي لا كمنافس عسكري. خاصة أن مصر أنشأت الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، لتعزيز وتطوير التعاون مع الدول الأفريقية. في نقل الخبرات وبناء القدرات في إدارة الموارد المائية، والأمن، والاستثمار
خامسًا، التقدير:
يتضح مما سبق أن التحركات الإثيوبية في البحر الأحمر ليست مجرد محاولة للحصول على منفذ بحري، بل تمثل تحولًا استراتيجيًا يهدف إلى إعادة صياغة توازنات القوة في الإقليم عبر توظيف عناصر الجغرافيا والسياسة والمياه معًا. وأن أدوات المواجهة لا يمكن أن تكون أحادية البعد، بل تتطلب مقاربة شاملة تمزج بين الردع الدبلوماسي والقانوني والأمني والاقتصادي، في إطار من التنسيق العربي والإفريقي. ومن ثم فإننا نوصي بالآتي:
  • بلورة استراتيجية مصرية متكاملة للبحر الأحمر تجمع بين البعدين المائي والبحري في إطار واحد للأمن القومي.
  • تكثيف التنسيق بين وزارات الدفاع والخارجية والاستخباراتوجميع الأجهزة المعنية الأخرى.
  • تكثيفجميع مستويات التحرك القانوني الرامي على تقويض أي اتفاق بحري إثيوبي يخالف القانون الدولي وبتعارض مع مبادئ السيادة الإقليمية ووحدة الأراضي الصومالية.
  • تكثيفالوجود البحري والاستخباراتي المصري في الممر الجنوبي للبحر الأحمر لتأمين خطوط الملاحة ومراقبة التحركات الإقليمية.

اترك تعليقا

2 تعليقات

عبدالله ناصر 08/11/2025 - 11:50 م

تقدير موقف محترم ينم عن رؤية واسعة للاحداث

رد
نهى محمد 29/11/2025 - 3:29 م

رؤية تحليلية شاملة ، استمتعت جدا بالقراءة

رد