التصدير الاستراتيجي للثورة الإيرانية
بواسطة :
ومن ثم، لجأت إيران إلى القوة الناعمة التي وصفها «جوزف ناي» في كتابه بأنها «القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية أو الاستمالة بالمساعدات، بدلا من الإرغام. بما يعني أن تجعل الآخرين يعجبون بك ويتطلعون إلى ما تقوم به، فيتخذون موقفًا إيجابيًا من قِيَمك وأفكارك وبالتالي تتفق رغبتهم مع رغبتك( )
وفي هذا الإطار نجحت إيران في تصدير تعاليم المذهب الشيعي وقيمها الثقافة في صورة أهداف ثورية، أو ما يمكن أن نسميه «التصدير الاستراتيجي للثورة» عبر عدة مسارات متوازية، منها: بناء سياج طائفي يحيط بحدود إيران الجغرافية من كل الاتجاهات الاستراتيجية، وفتح آفاق دعوية جديدة بالقارة الأفريقية، وخلق كيانات شيعية متماسكة ومنظمة داخل الأوساط السنية الكبيرة، أو داخل المناطق غير الإسلامية خاصة بالدول الغربية. ولعل كل هذا يمثل بحد ذاته إشكالية هذه الدراسة.
تساؤلات الدراسة
تتفرع عن إشكالية الدراسة جملة من التساؤلات الأخرى، التي تحاول الدراسة الإجابة عنها، أهمها:
1. ما المنطلقات التاريخية والنظرية والقيمية التي قامت عليها استراتيجية إيران لتصدير ثورتها؟
2. ما المكونات التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية؟
3. ما دوائر الاهتمام التي استهدفتها الاستراتيجية الإيرانية؟
4. ما الآليات التي اعتمدتها هذه الاستراتيجية لتصدير الثورة؟
تقسيمات الدراسة:
تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاث مباحث، هي:
منطلقات التصدير الاستراتيجي للثورة الإيرانية
مكونات التصدير الاستراتيجي للثورة الإيرانية
آليات التصدير الاستراتيجي للثورة الإيرانية
وأخيراً أتمنى أن يوليني القارئ الكريم بعض حلمه ورحابة صدره، حتى إذا ما تأمل طبيعة هذه الدراسة وتفاصيل مادتها، أن يرى هفواتها أهلا لمغفرته؛ لأن الباحث يدرك تماما أن المتصفح لأي دراسة أبصر بمواقع الخلل فيها من منشئها.
الدكتور سيعد الصباغ
منطلقات التصدير الاستراتيجي للثورة الإيرانية
تقوم استراتيجية إيران لتصدير ثورتها ونشر مذهبها الشيعي، باستخدام القوة الناعمة، على ثلاث منطلقات: تاريخية، ونظرية، وقيمية. نتناولها بنوع من الإيجاز على النحو التالي:
أولا: المنطلقات التاريخية:
من المعروف أن قيام الدولة الصفوية، عام 1501م، يُعد في حد ذاته نقطة تحول جذري في تاريخ إيران، منذ دخول الإسلام إليها؛ ليس لأن مؤسسها «إسماعيل الصفوي» فرض المذهب الشيعي عنوة على الإيرانيين وأجبرهم على ترك مذهبهم الشافعي، وحسب. بل لأن حكم الصفويين، الذي دام لأكثر من قرنين (1501 – 1736م) أسفر عن تطور تاريخي على المستوى المذهبي، تجسد في قيام حكومة شيعية، في ظل غيبة الإمام الثاني عشر، ولكن مع خضوع جميع تفاعلاتها السياسية لمعايير الاجتهاد والتقليد( ) وتطور آخر على المستوى الاجتماعي، تمثل في انتقال المجتمع الإيراني إلى زاوية المجتمعات الدينية المنغلقة التي لا تماثل مجتمع إسلامي آخر؛ بحيث أصبح مختصا بمجموعة من القيم النقلية، التي تبلورت أطرها النظرية على دعائم من التراكم التاريخي الموروث الذي لم يخضع لأي جرح أو تعديل. وقد أدى ذلك إلى خلق مجتمع مذهبي متجانس يصبح معلماً جوهرياً للقومية الإيرانية المتعددة العرقيات واللغات، وتجسيدا لكينونة إيران الشيعية وهيبتها الخارجية في مقابل قوة الدولة العثمانية السنية وهيبتها والإسلامية.
وهنا برز دور فقهاء الشيعة، الذين زودتهم تجربة الإنتاج الفقهي خلال العهدين «البويهي» (932– 1056م) و«الايلخاني» (1256–1335م) بمنظومة علمية واسعة في علوم الفقه الشيعي وأصوله. أسهمت في بلورة مفاهيم «المرجعية» بـ «الحوزرة» العلمية في النجف وكربلاء وقم، التي أخذت تكتسب طابع المؤسسة المستقلة عن الدولة وبل الموازية لها بمرور الوقت. خاصة أن «التقليد» كان هو الغالب النافذ الذي تنجذب إليه القواعد الشعبية في المجتمع الشيعي. وفي هذا الإطار باتت هذه الحوزات تهيئ لبروز مراجع نافذة ومؤثره على مر تاريخ إيران السياسي( )
وتري بعض المصادر الإيرانية أن «قم» هي المركز الأقدم للحوزات العلمية بإيران ( ) خاصة أن طابعها المذهبي برز خلال العهد الصفوي، ببناء المدارس وتخصيص الأوقاف التي تكفلها ماليا( ) وتدفعها نحو التطور في تدريس علوم الفقه الشيعي. وتأكد أيضا خلال العهد القاجاري (1779 1925م) بإنشاء المزيد من المدارس وانتقال كبار الفقهاء إليها، من أمثال آية الله «عبد الكريم حائري يزدي» (1859-1936م) المؤسس الحقيقي لحوزة قم العلمية في العصر الحديث.( )
وقد ضمنت الأسس الاقتصادية التي قامت عليها الحوزة القوة لمراجع التقليد وأفسحت لهم المجال لتوثيق صلاتهم بالحياة الاقتصادية والاجتماعية على نحو حقق لهم النمو الاقتصادي المستقل عن الدولة( ) من خلال الموارد المالية الخاصة التي تدفقت عليهم، سواء من خلال الرصيد الضخم والمتراكم عبر السنين من الأوقاف الموقوفة على المساجد والمدارس والأضرحة والمزارات الشيعية، أو من أنصبة الزكاة وأموال الخمس والتبرعات والهبات والنذور التي توجد لها صناديق خاصة بجميع المزارات الدينية المنتشرة في أنحاء إيران( )
كما مثلت العوامل السياسية قوة دفع لأن يتخطى الفقهاء دورهم الديني إلى الدور السياسي، خاصة في ظل السيطرة الأجنبية على إيران، خلال القرن التاسع عشر.( ) فبرزت شخصيات دينية مؤثرة في الحياة السياسية الإيرانية، بدءاً من آية الله «محمد حسن شيرازي» (1815 ـ 1895م) وصولاً إلى آية الله «فضل الله نوري» (1843 ـ 1909م) مروراً بآية الله «حسن مدرس» (1870 ـ 1937م) وقد حدث هذا، في وقت كان من المفترض أن يخضع الحاكم لإرشادهم، مثله مثل رعيته، وأن يجعل من الحكومة ذراعاً تنفيذيا لسلطتهم الروحية. غير أن هذا الافتراض المثالي ظل بعيد المنال؛ الأمر الذي أوجد درجة معينة من التوتر متأصلة في العلاقة بين الفقهاء والسلطة السياسية التي تنظر بعدم الارتياح لنفوذهم وإمكاناتهم المالية الكبيرة. في وقت كانت خزينة الدولة تعاني عجزاً مستمراً، قبل ظهور الموارد النفطية الضخمة فيما بعد ( ).
وبالتالي، باتت قيادة الدولة في إيران تعاني من الازدواجية؛ نظراً لأن القيادة المعترف بها في المجتمع الشيعي ترتبط أساسا بإمام الزمان «السلطة المذهبية» وليس برئيس الدولة «السلطة السياسية» وهذا ما كان يشكل معضلة لأي مسئول؛ يصبح ولياً لرعايا لا يقلدونه ولا يعطونه زمام أمورهم؛ باعتبار أن ولي الأمر الفعلي هو «المرجع» ولعل آية الله «شيرازي» الذي ألغى بجملة منه عام 1891م، مرسوما ملكيا لـ «ناصر الدين شاه قاجاري» (حكم1848– 1896م) بمنح امتياز استغلال التبغ لإحدى الشركات الأجنبية، قد جسد هذه الازدواجية، عندما أفتى بتحريم تعاطى التبغ بكل صوره وأشكاله.( )
ثم بلغ دور الفقهاء السياسي طور التقنين، بعد الثورة الدستورية عام 1906م، إذ نص أول دستور للبلاد على تشكيل لجنة خماسية عليا بمجلس النواب، من كبار الفقهاء، للنظر في كل تشريع جديد يصدره المجلس، قبل أن يتخذ صيغته النهائية وفقا للشريعة الإسلامية وروح المذهب الشيعي( ) وعلى الرغم من هذا، لم يحدث أي تغيير في هيكل السلطة لصالحهم. ولعل هذا ما أدى بدوره إلى انحسار نفوذهم خلال العهد الپهلوی (1925– 1979م) خاصة أنه انتهج سياسة تحديث تقوم على إنشاء المؤسسات التعليمية والعلمية المدنية، بدءاً من المدارس وصولاً إلى الجامعات في كل المدن الكبرى، مرورا بتأسيس المعاهد النوعية العليا والمتوسطة. واعتماد مناهج تعليمية تستهدف تعميق البعد القومي وتقليص التعليم الديني؛ لإفساح المجال لدخول قيم جديدة للمجتمع، لا تسمح بانفراد الفقهاء بالتعليم. هذا فضلا عن اعتماد سلسلة من التشريعات الجديدة التي أدت إلى تقليص دورهم بالسلطة القضائية أيضا.( )
وعلى الرغم من هذا، برز دور الفقهاء سياسيا مرة أخرى على يد آية الله «كاشاني» عندما شارك في حركة تأميم النفط بزعامة «محمد مصدق» مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، لدرجة أنه كان بإمكانه تحريك مئات الآلاف من المتظاهرين في شوارع طهران والمدن الأخرى في وقت وجيز للغاية.( )
لكن الظهور الأقوى كان على يد آية الله «الخميني» الذي تزعم انتفاضة شعبية ضد برامج «الثورة البيضاء» التنموية؛ لدرجة أنه نُفي في إثرها إلى لخارج، عام 1963م، خاصة أن هذه الانتفاضة كانت تمثل أعنف صدام بين السلطتين الدينية والسياسية، والذي دفع فقهاء المؤسسة الدينية للعمل السري المناويء للسلطة السياسية، حتى قيام الثورة الإسلامية عام 1979م؛ التي تُعد بدورها أضخم إحياء شيعي على الإطلاق منذ قيام الدولة الصفوية، وتجسيدا لمفهوم الفقهاء في ممارسة السلطة السياسية. خاصة أنهم جعلوا من ولاية الفقيه أساسا ومنطلقا لحسم ازدواجية الولاء بالمجتمع، عبر تكريس السلطة السياسية بأيديهم وإخضاع جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها لسلطتهم، وإنشاء جيش «الحرس الثوري» لحماية نظام الثورة الإسلامية، وتصدير الثورة نصرة للمستضعفين وتمهيدا لعودة المهدي المنتظر.
ثانيا: المنطلقات النظرية:
ارتبط مفهوم ولاية الفقيه بآية الله الخميني، الذي استخرجها من بطون كتب الفقه القديمة، وقدم لها تفسيرا جعل منها محوراً للثورة ضد السلطة السياسية وأساسا لبناء نظام ثيوقراطي. وترجع جذور ولاية الفقيه إلى القرن الثالث الهجري، عندما طرحت غيبة الإمام الثاني عشر على منظري الشيعة الأوائل مسألة مفادها: لمن سيكون الحكم والولاية على الناس أثناء هذه الغيبة؟ خاصة أنه ربما تنقضي مئات أو آلاف السنين قبل أن يأذن الله بظهوره. ومن ثم، أولى هؤلاء المنظرين اهتماماً كبيراً بهذه المسألة بأُطروحاتهم الفقهية، حتى توصلوا في بادئ الأمر إلى أن الحل يكمن في وجود «فقيه» مستوف لشروط العدالة والعلم والعقل والبلوغ لتبوء هذه «الولاية» على أن تكون ولايته «ولاية خاصة وليست عامة» أي أن تقتصر هذه الولاية، أو الحاكمية منصبي القضاء والإفتاء، أما الحكم والسلطة الزمنية فإنها لا تدخل في صلاحياته.
وقد ساد هذا الرأي المحافل العلمية الشيعية فترة طويلة، حتى تعرض لتمحيص فقهاء آخرون، رأوا أنه يمكن أن تكون الولاية على الناس ولاية عامة بما فيها الحكم. أي أنه يمكن أن يكون للفقيه الحق في ولاية السلطة السياسية. ومن بين من قالوا بهذا العلامة «الحِلّي» (ت1325م) و«شمس الدين العاملي» (ت1384م) والعلامة «النراقي» (ت1829م) الذين لقيت آراؤهم أصداءً واسعة بين فقهاء الحوزة. كان أهمها على الإطلاق تمسك أية الله خميني بها، خلال دروسه التي كان يلقيها بالنجف تحت عنوان «الحكومة الإسلامية» والتي شرح فيها رأيه حول مسالة ولاية الفقيه، على نحو عكس إيمانه الشديد بهذه الآراء. خاصة أنه أضفى عليها طابعاً سياسياً، ودعم شمولية هذه الولاية بنوعين من الأدلة النقلية والعقلية. ( )
أما الأدلة النقلية، فقد استند فيها الخميني إلى آيات قرآنية مؤولة على المذهب الشيعي، إلى جانب الأحاديث النبوية ذات الرواية الشيعية. إضافة إلى الأدلة المنقولة عن الأئمة المعصومين التي تعطي أحقية الولاية العامة للفقيه. بينما أدخل أدلتها العقلية في باب الضرورة. أي ضرورة وجود حكومة تطبق شرع الله أثناء غيبة المهدي المنتظر؛ لأن الشريعة الإسلامية لا تختص بزمن دون آخر. وأن الفقهاء، باعتبارهم حملة الشرع، هم أقدر من يقوم بذلك. ناهيك عن أن العقل يلزم العدول منهم بتحين الفُرص لتشكيل حكومة تتولى تطبيق شرع الله وإقرار نظامه العادل. وتكمن أهمية آراء الخميني ورؤاه حول ولاية الفقيه في أنها حولتها إلى نظرية سياسية تم تطبقها في دولة معاصرة ذات مؤسسات حديثة( ).
ويقوم منطق الخميني في ولاية الفقيه على أن الحاكمية لله، ومنها تستمد الولاية الأرضية شرعيتها. وأن هذه الحاكمية تجلت على الأرض في ثلاثة أركان: ركن «النبوة» الذي جاء بموجب «النص» وركن «الإمامة» الذي جاء امتدادا لركن النبوة بـ«العصمة» وركن «ولاية الفقيه» الذي جاء امتدادا للإمامة. أي أنه إذا كانت النبوة منصوص عليها بالاسم ومعصومة وأوحي إليها، فإن الإمامة منصوص عليها أيضا بالاسم ومعصومة، ولكن لا يوحى إليها. أما ولاية الفقيه فلا نص عليها بالاسم ولا هي بمعصومة، إلا أن مواصفاتها وشروطها التي تثبت لها ـ«المنزلة» واردة بسنة الأئمة.
وبعبارة أخرى، إذا قلنا إن النبي هو حامل الرسالة باصطفاء الله له وبنزول الوحي عليه، فإن الإمام هو المستودع الرباني لهذه الرسالة. أي أن النبي والإمام مُعيّنان من الله تعييناً بشخصهما. أما الفقيه الولي فهو مُعيّن تعييناً نوعياً من الأمة، وفق شروط عامة. أي أنه بنفس المنطق الذي شرّع الله به القوانين للبشرية عن طريق نزول الوحي على من اصطفاه من رسله فإنه اختار أيضا الإمام ولياً لأمر المسلمين وقائدها سياسيا لهم. وأن الدليل الموجِب لوجود الإمام هو نفس الدليل الذي استدعى بعث الأنبياء والرسل. وأنه نظراً لغيبة الإمام، فقد بدأت المرحلة التالية للإمامة، وهي مرحلة «النيابة الخاصة» ثم «النيابة العامة» التي تتجسد في ولاية الأمر وقيادة المجتمع الشيعي من خلال الفقيه الجامع للمواصفات والشروط.
ومن هذا المنطلق، تعد الحكومة هنا بمثابة الذراع التنفيذي للولي الفقيه؛ على اعتبار أن الإسلام بوصفه نظاماً شاملاً لا يمكنه أن يتخطى حدود النظرية نحو التطبيق، دون الاعتماد على مؤسسات تضمن بسط شرع الله بين الناس. أما فيما يخص مساحة ممارسة الفقيه للولاية فإنها تشمل جميع المجالات التي كان يمارس فيها الإمام ولايته. وفي هذا الصدد يقول الخميني: «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا. وأن يُمكّن هذا الفقيه، بوصفه الحاكم، من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلى ما كان يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة».
وقد منح تطبيق نظرية ولاية الفقيه آية الله خميني مكانة بارزة؛ بوصفه زعيماً لثورة شعبية عارمة أطاحت بأعتى العروش وأقامت نظام حكم «إلهي» وأول مرجع ديني يصبح ولياً للأمر نيابة عن الإمام الغائب. ومن ثم اختصه الشيعة في العالم بلقب «الإمام» الذي لم يكن يحظى به من قبل إلا الأئمة الاثني عشر. خاصة أن نسبه يصل إلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب. كما اختصه الدستور، وكل ولي بعده، بقمة هرم السلطة؛ بوصفه المُخوّل الوحيد بتحديد السياسات العامة، والوصي على أداء السلطات الثلاث.
وعلى هذا، أصبح الـ «مرشد الأعلى للثورة» مشرفا، عبر مُمثليه، على جميع الهيئات والمؤسسات التي تضطلع بتصدير الثورة ونشر المذهب الشيعي في العالم. مثل: مؤسسة الشهيد، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، ورابطة الثقافة والاتصال الإسلامي، والمنظمة العالمية للحوزات والمدارس الإسلامية، ومؤسسة الدعوة الإسلامية، مؤسسة المستضعفين، وهيئة الأوقاف والشئون الخيرية، وجامعة المصطفى العالمية، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والمجمع العالمي لأهل البيت. إضافة إلى الحرس الثوري الذي يضطلع بدعم وتدريب الفصائل والجماعات الراديكالية بمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأفريقيا، وتنفيذ عمليات التصفيات الجسدية لمعارضي النظام ( ) وتدريب الميلشيات الشيعية العربية على أساليب القتال وحرب الشوارع والعمليات القذرة( ). ناهيك عن المجلس الأعلى للثورة الثقافية، الذي نجح في إعادة هيكلة جميع المؤسسات التعليمية والثقافية والفنية، على نحو أخضع الأكاديميين والكتاب المفكرين والمثقفين والمعلمين والفنانين لسلطة الولي الفقيه، وأعادة صياغة المكون الثقافي والفكري، على نحو أسفر عن تكوين أجيال جديدة مؤمنة بولاية الفقيه وبعالمية الإسلام الثوري. وإدارة جميع الأنشطة والفعاليات الثقافية والمذهبية داخل كل دائرة من دوائر اهتمام إيران الخارجية. وتعزيز حضورها الثقافي والثوري على الساحة الدولية( )
ثالثا: المنطلقات القيمية:
قدمت الثورة الإيرانية مجموعة من القيم الخاصة التي صاغت هويتها الدينية، وجعلت منها معياراً للحكم على مدى الولاء لها والاستجابة لأهدافها، وغطاء لتمددها الخارجي. ومن أهم هذه القيم: نُصرة المُستضعفين في الأرض، والمظلومية المذهبية، والوحدة الإسلامية. والتي تميزت بالشحن المعنوي الذي يستهدف التأثير في وجدان الجماهير، واستثارة انفعالاتهم بالدرجة التي تحقق للثورة جميع أهدافها.
وقبل أن نعرض لهذه القيم التي استندت إليها إيران في بناء الصورة الذهنية لثورتها، يجب أن نشير أولا إلى أن فقهاء الشيعة، وعلى رأسهم الخميني، عمدوا إلى تفكيك مفهوم الإسلام الذي يؤمن به مسلمو المعمورة؛ ليقدموا له تعريفا ثورياً جديدا؛ يفرق بين إسلام أهل السنة الذي وصمه الخميني بـ «الإسلام الأمريكي» ووصفه بـ «إسلام الرفاهية والمظهرية» ولا يعتنقه إلا أهل الدعة والاستكبار والظلم، ومن أبرموا صلحا منفردا مع إسرائيل. وبين إسلام أهل الشيعة الذي وصفه بـ «الإسلام المحمدي الأصيل» الذي هو «إسلام المحرومين والمستضعفين والمظلومين» وانطلاقاً من هذا المفهوم الخاص للإسلام، دعا الخميني الشيعة في كل مكان إلى مقاومة الهيمنة والاستبداد، كما دعاهم إلى العمل على تحرير القدس الشريف ( ).
على كل، اعتمدت الثورة الإسلامية أساليب متعددة لبناء صورة مثالية لإيران. منها استخدام شعارات تصادمية استهدفت ملء الفراغ السياسي بالمنطقة، مثل: «الله أكبر.. الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود» إضافة إلى مجموعة من القيم الخاصة ذات الدلالة الدينية، التي تستهدف استدراج الرأي العام الإسلامي إلى نقطة التماهي مع أهدافها وتصوراتها الاستراتيجية ومن ثم التأثير عليه، مثل:
نُصرة المستضعفين: التي أسهمت في بناء قاعدة جماهيرية عريضة من الفقراء والمحرومين والمظلومين، مساندة للثورة الإسلامية في الداخل. واستهدفت الثورة منها بناء صورة ذهنية برّاقة تؤكد على:
أ. أن الثورة منحازة لهذه الطبقة، ومصرّة على الاحتفاظ لها بمكانة خاصة في قلب المعادلة الاجتماعية، التي فرضتها، تحقيقاً لما ورد في الآية 26سورة من سورة الأنفال ﴿وَاذْكُروا إذْ اَنْتُم قَليلُ مُسَتضعفون فِي الأرض تَخافون أَنْ يَتَخطَّفكَمُ النَّاس فَآوىٰكُم وأيّدكُمْ بِنَصْرهِ وَرزَقكُم مِنَ الطَّبيَّاتِ لَعَلّكُم تَشْكُرُون﴾.
ب. أنها استقطبت هذه الطبقة الواسعة إلى جانب الثورة لتعينها خلال الأزمات والمراحل المصيرية. سواء حال قيام تمرد على الثورة أو نشوب صراع على السلطة، مثلما حدث خلال الأشهر الأولى للثورة، أو حال نشوب صراع مسلح، مثلما حدث خلال الحرب مع العراق 1980ـ 1988م.( )
ومن ثم، نجحت الثورة في تكوين هياكل تنظيمية فاعلة من هؤلاء المستضعفين، مثل: «أنصار حزب الله» و«البسيج» و«الحرس الثوري» و«اللجان الثورية» الأخرى الذين تمكنوا من القضاء على أزلام النظام الملكي «الطاغوتي» السابق، وسحق معارضي الفقهاء من «المنافقين» و«الملحدين» و«أعداء الثورة» وخاضوا حرب شرسة ضد النظام «البعثي الكافر» بالعراق «عميل قوى الاستكبار العالمي» وبالقدر الذي حققه هؤلاء المستضعفين لصالح الثورة، ازدادت مكانتهم الاجتماعية والسياسية، بطريقة بدت كما لو أن ثمة صفقة ناجحة عقدتها الثورة معهم لتحقيق مصالحهما المتبادلة على المستوى الداخلي.( )
ومن ناحية أخرى، أصبحت نُصرة المستضعفين تمثل الواجهة الإنسانية للثورة الإسلامية خارجيا، والقاسم الوجداني المشترك مع جماعات الإسلام السياسي، والمدخل المناسب لتقديم قيم هذه الثورة ومذهبها الشيعي؛ وتوجيه أولويات آحاد المسلمين وتغيير انتمائهم المذهبي، أو على أقل تقدير كسب احترامهم. ومن ثم تحقيق موقعً أفضل لدى عامة المسلمين، بل ولدى كل من استقر في وجدانه أنه مستضعف.( ) خاصة أن الدستور الإيراني نصب إيران داعما وحيدا لجميع مستضعفي العالم، وحصر لها الحق في تعريف المستضعف والمستكبر، وفق رؤيتها ومصالحها الخاصة. على نحو يخول لها التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. فقد ألزمت المادة الثانية منه نظامها بتوفير «الحماية الكاملة لمستضعفي العالم» و«دعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم» (وفقا للمادة 154)( )
المظلومية المذهبية: تُعد من القيم الثابتة في المذهب الشيعي، التي يتم تناقل تفاسيرها التاريخية وتوظيفها، منذ العصر الصفوي وحتى اليوم، على نحو يؤصل لأيقونة «الاضطهاد الديني» التي يتم تصديرها للرأي العام الإسلامي، وتأكيدها لدى الشيعة بوصفهم «مستضعفين» في مجتمعاتهم. وبالتالي، فإن ثبات المظلومية بهذا الشكل من شأنه أن يُرسِّخ بشكل تلقائي فكرة الانتقام من السلطة المُستكبرة الظالمة والخروج عليها، والانتقام أيضا ممن استلب الحكم من الإمام علي وأئمة آل البيت.
وتبدأ المظلومية عند الشيعة تاريخيا من «مظلومية الزهراء» وابنها الحسين أما مظلومية الزهراء فهي التي وقعت لفاطمة بعد وفاة النبي؛ بعد خلافها مع أبو بكر الصديق حول أرض «فدك» التي كانت تعدّها ميراثها الشرعي عن أبيها، ومنعه عنها أبو بكر؛ لأنه كان يرى أن الأنبياء لا يُورّثون. أما «مظلومية الحسين» فهي الأكثر تأثيراً في وجدان الشيعة على الإطلاق. خاصة بعد أن صاغ منها منظرو المذهب أيقونة للتضحية والفداء ومعينا ثورياً لا ينضب ضد الظلم والطغيان. ( )
وفي هذا السياق، نقلت الثورة الإسلامية الشيعة من حيز الاستضعاف إلى قمة السلطة السياسية، عندما صاغت من المظلومية استراتيجية لحشد الأقليات الشيعية بالعالم نحو الظهور الاجتماعي والسياسي؛ بدعوى استعادة حقوقهم الدينية عبر مواجهة أحفاد من ظلموهم، لتحقيق المصالح الإيرانية الخاصة، منها:
1. خلق مكونات معرفية ووجدانية وسلوكية واحدة لدى الشيعة، وربطهم عقيدياً وتنظيميا وسياسيا بالولي الفقيه، بوصفه ولي أمر الإسلام والمسلمين؛ كي يكونوا بمثابة قواعد دعم جماهيرية للمواقف الإيرانية.
2. بناء درع دفاعي مذهبي حول إيران، يضمن لها أمنها القومي، ويعزز نفوذها الإقليمي.
3. تبرير اللجوء لأعمال العنف الطائفي الذي يقوم على مخزون متراكم من الكراهية للآخر، تبريرا دينيا، من شأنه أن يغطي على سلوكيات إيران الخارجية القائمة على التوسع وتعزيز النفوذ.
ومن ناحية أخرى، اقترنت المظلومية ببعد آخر تمثل في غرس قيمة فرعية أخرى وتكريسها هي قيمة المقاومة والاستشهاد بين جموع الشيعة في الداخل والخارج، استناداً إلى مركزية المظلومية في المذهب. ومن ثم يمجد النظام الإيراني، في كل مناسبة، معاناة واستشهاد المؤمنين، وذلك في توظيف واضح لدماء الشهداء في تعزيز مكانته الروحية بوصفه نظاماً إلهياً مقدساً، يعتمد الاستشهاد لمواجهة العدو. وبناء على ذلك فإن نشر ثقافة الاستشهاد بين عموم الشيعة هو أفضل استراتيجية للمواجهة؛ بوصفها التزاماً دينياً يتقرّبون به إلى الله؛ وثقافة أصيلة تجسدها ثورة الحسين وتستلهم منها لحظة استشهاده( )
وفي هذا الإطار يتم تصوير إيران أحياناً على أنها دولة «غير قابلة للردع» مع عتبة ألم عالية مدفوعة بأوامر المذهب المطلقة، وليس بالاهتمامات المتعلقة بالقدرة السياسية على إدارة الدولة. والافتراض الداعم لهذا المفهوم هو أن التشيع الانتفاضي أصبح طابعا لنظام لن يبقى حياً ما لم تحيا جمهورية إيران الإسلامية. وبالتالي فإن الحفاظ على هذه الجمهورية أصبح ذا قيمة دينية مطلقة لدى عموم الشيعة في العالم( ).
الوحدة الإسلامية: يأتي تبني إيران لهذه الوحدة في إطار العمل على نمذجة صورتها الذهنية لدى الرأي العام الإسلامي، لتحقيق هدفين، الأول: هو تجاوز حاجز الرفض الإقليمي لتوجهات إيران الطائفية. والثاني هو الالتفاف على أنظمة الحكم بالمنطقة والتأثير على شعوبها، والانفراد بتقديم تعريفاتها الخاصة لجميع المفاهيم السياسية والدينية وفق قيمها الطائفية، بما يؤدي إلى تغيير انتمائها المذهبي. ومن ثم تقديم البديل السياسي لهذه الشعوب على نحو يسهم في تنمية قدرتها على تغيير المعادلة في أوطانهم؛ لتكون في صالح إيران.
وقد اختص الدستور الإيراني الوحدة الإسلامية بعدد من المواد التي تحض على الوحدة بين المسلمين، إذ نصت المادة الحادية عشرة على أنه: «بحكم الآية الكريمة إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون يُعد المسلمون أمة واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياستها العامة على أساس التضامن بين الشعوب الإسلامية ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي» ولهذا حضّت الفقرة الخامسة عشرة من المادة الثالثة على «توسيع وتعزيز الأخوة الإسلامية والتعاون الجمعي بين الناس كافة» كما أوجب الدستور عليها أيضا، بنص الفقرة السادسة عشرة من نفس المادة، أن يكون «تنظيم السياسية الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم». كما حضها، في المادة الثانية والخمسين بعد المائة، على «الدفاع عن حقوق جميع المسلمين».( )
وفي هذا الإطار، تبنت إيران مناسبة رسمية أطلقت عليها «أسبوع الوحدة الإسلامية» كي تبرهن أمام العالم أن نظامها الإسلامي يدعو للوحدة بين المسلمين وللتقريب بين مذاهبهم. وبنفس القدر، إعطاء انطباع بأن إيران الشيعية تمد يد التسامح والتفاهم مع أهل السنة سواء الموجودين في إيران أو خارجها( ). ومن ثم أحيت فكرة التقريب بين المذاهب وأعطتها بُعدا استراتيجيا في تعاملها مع العالم الإسلامي( )، وأسست مجمعاً عالمياً للتقريب بين المذاهب الإسلامية.( ) أحياء لروح جماعة التقريب، التي سبق أن أُسست في القاهرة، واستكمال رسالتها ونهجها. ولكن ضمن استراتيجية إيران لتصدير ثورتها هذه المرة( ).
مكونات التصدير الاستراتيجي للثورة الإيرانية
تكشف استراتيجية إيران لتصدير ثورتها، عن مدى قدرتها على رسم أجندة ثقافية، تسهم في تحويل طهران إلى مركز لتغيير انتماءات الشعوب الإسلامية، بوصفهم مستضعفين، يجب نصرتهم، وإعادة ترتيب أولويات اهتماماتهم. عبر تقديم تفسير لواقعهم الاجتماعي والسياسي والديني، على نحو يخلق لديهم انطباعات وأحكام، يمكن أن يؤسسون بها معان وأنساق معرفية مشتركة مع الجمهورية الإسلامية. مؤداها النهائي تماهي هؤلاء المستضعفين مع الثقافة الإيرانية، أو أن يغيروا انتماءاتهم إلى المذهب الشيعي.
وفي إطار إيمان النظام الإيراني بأن «تصدير الثورة هو تصدير للإسلام، كما ورد على لسان الأئمة المعصومين» ( ) تنهض مجموعة من المؤسسات بتنظيم المكونات الرئيسية لتصدير الثورة، على المستوى الثقافي والدعوي والتعليمي والإعلامي. فضلا عن الآليات التي اتبعتها في تحقيق أهدافها المرجوة.
أولا: المكون الثقافي:
مكون استراتيجي، يسهم في إبراز القيم المعرفية للنظام الإيراني ثقافياً وفكريًا وسياسيا. ويمثل هذا المكون بعدًا مهما في تكوين صورة مثالية عن إيران وتاريخها حضارتها وثقافتها. بما يسهم في وضعها على خريطة الثقافة العالمية. وتضطلع بهذا المكون «رابطة الثقافة والاتصال الإسلامية» الخاضعة قانونا لمكتب المرشد الأعلى للثورة. والتي تأسست، عام ١٩٩٥م، بوصفها شخصية اعتبارية مستقلة تابعة إدارياً لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي. وتتجلى أهميتها في كونها الجهة المخولة بتخطيط وهندسة ونشر الثقافية والفكر الشيعي في العالم، بالتعاون مع المؤسسات الأخرى.( ) وكذا إدارة الأنشطة والفعاليات ذات الصلة، عبر الممثليات والمراكز الثقافية الموجودة بأكثر من ستين دولة، تقع جميعها داخل ثلاث دوائر، هي:( )
دائرة آسيا والمحيط الهندي، وتضم إلى جانب تركيا، دول منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى (أذربيجان وجورجيا وارمينيا وطاجيكستان واوزبكستان وقرغيزيا وتركمنستان وروسيا) و(الهند والصين وباكستان، وبنجلادش وافغانستان) وبعض دول جنوب شرق آسيا (ماليزيا وإندونيسيا وسريلانكا وتايلند الفلبين).
دائرة أفريقيا والدول العربية، وتضم دول مناطق شرق أفريقيا (السودان وأثيوبيا وكينيا وتانزانيا) وغرب أفريقيا (السنغال وغينيا وسيراليون ونيجريا) دول جنوب أفريقيا (زيمبابوي وزامبيا وجنوب أفريقيا) ومن الدول العربية (مصر وتونس والجزائر والمغرب واليمن ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر والكويت وسوريه ولبنان)
دائرة أوروبا وأمريكا، وتضم: دول منطقة أوربا الشرقية (اكرانيا وألبانيا وبلغاريا وصربيا وكرواتيا والبوسنة) وجنوب أوروبا (إيطاليا واليونان واسبانيا) وشمالها (السويد والنمسا وألمانيا وبريطانيا وفرانسا) فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا.( )
وتتولى رابطة الثقافة والاتصال مسئولية الترويج العلمي المدروس للثقافة الإيرانية بأبعادها العقيدية والفقهية والقيمية، وتعزيز علاقاتها بالمؤسسات العلمية والتعليمية والمحافل الثقافية المختلفة بالعالم. وذلك من خلال عدد من الإجراءات، أهمها: إبرام اتفاقيات التبادل العلمي والتعليمي وبرامج التعاون الثقافي والفني والإعلامي، وتقوية صلتها برموز الفكر والثقافة والفن والإعلام والدين، وإلقاء الضوء على كل مثقف موالٍ أو مفكر متعاطف أو إعلامي مساند لتجربة الثورة الإيرانية. فضلا عن المشاركة الفعالة في الملتقيات الفكرية والثقافية والدينية الإقليمية والدولية، بوصفها فرصة للتعريف برموز الفكر والثقافة الإيرانية وبمؤلفاتهم. وعقد الندوات العلمية والمهرجانات الفنية والفعاليات الثقافية، التي تدعو إليها الرموز الثقافية والدينية المشهورة، وإقامة والمعارض والأسابيع الثقافية التي تعرض للفنون الفارسية والصناعات اليدوية وتُعرِّف بالمعالم والمزارات والأضرحة والآثار التاريخية الإيرانية.( )
ويعمل تحت مظلة رابطة الثقافة والاتصال مؤسستان مهمتان، هما «مؤسسة الفكر الإسلامي» المعنية بنشر الفكر الشيعي وقيمه ونظرياته ومفاهيمه المذهبية، عبر عدد من الأنشطة والفعاليات، من بينها إصدار الكتب المجلات والدوريات والمطبوعات ذات الصلة، باللغات الدارجة بالدول الواقعة داخل دوائر اهتمام رابطة الثقافة (العربية والفارسية والأوردية والإنجليزية والفرنسية والألبانية والإسبانية والروسية والسواحيلية والهوساوية) فضلا عن النشر والترويج الاليكتروني، الذي يستهدف استقطاب الشباب والشابات والأطفال بوصفهم فئات اجتماعية يمكن التأثير على انتماءاتها الدينية والفكرية بسهولة. ( )
أما المؤسسة الأخرى، فهي «مركز حوار الأديان والحضارات» الذي يعمل على ترسيخ صورة ذهنية سمحة لإيران، بوصفها مهدا للتعايش السلمي بين أتباع المسيحية واليهودية والبوذية والزرادشتية. عبر الحوارات التي تجري بين مفكري المذهب الشيعي وفقهائه وبين نظرائهم في المذاهب والأديان الأخرى، أثناء الندوات ومؤتمرات الحوار التي يعقدها هذا المركز بهدف إبراز مبادئ الفكر الشيعي ومصادره وأصوله الفكرية والثقافية، أمام المراكز والمحافل الدينية الأخرى ( ).
وفي هذا السياق، تجري رابطة الثقافة والاتصال الدراسات والبحوث العلمية الرصينة في مجال مقارنة الأديان والمذاهب والفرق، وثقافات الشعوب، والتيارات الثقافية السائدة بمختلف المجتمعات. ويمكن التمييز بوضوح بين نوعين من هذه الدراسات: دراسات استكشافية، تُجرى حول التيارات الثقافية والدينية بمختلف المجتمعات، وسبل تعزيز القواسم الثقافية المشتركة مع هذه المجتمعات؛ لتحديد اللغة المناسبة للتعريف بالثقافة الإيرانية، وتحديد الوسائل الملائمة لنشر وترويج الفكر الشيعي. ودراسات تخطيط، تُجرى في ضوء التقارير التي ترسلها الممثليات والمراكز الثقافية الإيرانية بالخارج. إضافة إلى البحوث التي يجريها الباحثون والمختصون حول سبل نشر المذهب الشيعي في الدول المستهدفة( ).
وبناء على هذا، تقوم رابطة الثقافة بإعداد وطبع وترجمة ونشر وتوزيع عدد هائل من الكتب والدوريات والمجلات والإصدارات العلمية والفكرية والمطبوعات الإعلامية المناسبة لكل دولة، للتعريف بمكونات الثقافة الفارسية والمذهب الشيعي بين أبناء الدول الواقعة ضمن دائرة نشاطها. وقد أسست لهذا الغرض عددا من المؤسسات والمراكز الثقافية والفكرية مثل: مركز تنظيم ترجمة ونشر المعارف الإسلامي والإنسانية ( ) ومجموعة الهدى للنشر والتوزيع الدولي ( ) التي تُعنى بإقامة شبكة توزيع عالمية إلى جانب المشاركة بالمعارض الدولية للكتاب. ونشرت أكثر من ألفي عنوان في الفقه الشيعي والفلسفة الإسلامية وتاريخ إيران وحضارتها وفنونها وآدابها، بأكثر من 25 لغة( ) كما أصدرت 165 مجلة وصحيفة ودورية ومطبوعة معنية بنشر المذهب الشيعي بأكثر من 20 لغة (منها 16 إصداراً للعرب والناطقين بالعربية) و(9 للناطقين بالفارسية في أفغانستان) و(6 للناطقين بالإنجليزية) و(6 للناطقين بالروسية في روسيا وطاجيكستان) و(5 للناطقين بالألبانية) و(3 للناطقين بالأوردية في باكستان والهند) و(3 للناطقين بالبنجالية) وإصداران بكل من التركية والآذرية والقرغيزية والألمانية والإسبانية، وإصدار واحد بكل من التشيكية والبوسنية والأوزبكية والتاميلية والتايلندية واليونانية والفرنسية. ( )
وتدور الموضوعات التي تُعنى بنشرها مجموعة الهدى حول التراث الثقافي الشيعي، وأعمال كبار الفقهاء والمفكرين والأدباء والعلماء والمثقفين والباحثين الإيرانيين، والمسائل الفقهية، والقرآن وتفسيره وترجماته، والأحاديث النبوية ذات الرواية الشيعية، التي تؤكد أهمية الإمامة والولاية، وتسرد مظلومية آل البيت. فضلا عن المراثي والأدعية المذهبية، والمسائل التي تعالج الفرق بين المذهبين السني والشيعي. إلى جانب دواوين الشعر المذهبي والعرفاني، وخطب آية الله الخميني والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وتاريخ الثورة الإيرانية ورموزها وشهدائها. التي تعد منطلقا توعويا مهما لترسيخ قيم ومفاهيم المظلومية والاستشهاد ونشر ثقافة المقاومة. فضلا عن كتب تعليم اللغة الفارسية والمعاجم ثنائية اللغة، التي من شأنها جميعا وضع الثقافة الإيرانية بمحتواها المذهبي والفكري والأدبي واللغوي ضمن خريطة ثقافات العالم. ( )
كذلك اهتمت رابطة، الثقافة بالإعلام والنشر الإليكتروني، حتى يمكن القول إنها تمثل نموذجا متميزا في استغلال شبكة المعلومات الدولية الأمثل في تصدير قيم للثورة الإسلامية وثقافتها الشيعية، وبناء صورة مثالية للنموذج الثوري الإيراني بوصفه النموذج الإلهي والاستشهادي الذي لا يتوانى عن نصرة المستضعفين. إذ نجحت الرابطة في تجسير العلاقة التبادلية بينها وبين الممثليات والمراكز الثقافية التابعة لها في الخارج عبر شبكة المعلومات الدولية، إنشاء قاعدة بيانات ومعلومات علمية متكاملة، في ضوء المعلومات والدراسات العلمية والتقارير الواردة إليها من هذه الممثليات والوزارات والمؤسسات والمراكز المتعاونة معها. ومن ثم إعداد المحتوى الثقافي والفكري والمذهبي الذي يكرس ارتباط شيعة العالم بإيران عبر المواقع المختلفة. التي من أهمها:
موقع إرفاد المحتوى الثقافي والفني للممثليات الثقافية الإيرانية بالخارج، وهو موقع مدون بسبع لغات هي: الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والأوردية والروسية، ويُعنى بتزويد الممثليات والمراكز الثقافية الإيرانية بالخارج، بالدراسات والتقارير والمقالات التي تعالج موضوعات الصحوة الإسلامية (الشيعية) والمناسبات المذهبية المختلفة مثل عاشوراء، والوطنية مثل ذكرى انتصار الثورة الإسلامية. وبأهم المعارض والمهرجانات الثقافية الإقليمية والدولية المختلفة، والأسابيع الثقافية والمهرجانات السينمائية الإيرانية( )
موقع الإمام الخميني، وهو موقع مدون بخمس لغات هي: الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية والتركية العثمانية. ومتخصص في محورة شخصية الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية في ذهن المتلقي؛ بوصفه نموذجا للفقيه الثائر. وذلك بالتعريف بترجمته الشخصية وأبعاد شخصيته، وأفكاره وآراءه ورؤاه الدينية والسياسية والفكرية، لا سيما التي تتعلق بمسألة ولاية الفقيه، فضلا عن إتاحة نسخ بصيغة pdf لمؤلفاته وفتاويه، وكل ما كُتب أو قيل عنه لإبراز مكانته العالمية.( )
موقع الثورة الإسلامية، وهو موقع مدون بخمس لغات هي: الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية والتركية العثمانية، ومتخصص في تقديم الثورة الإيرانية بوصفها نموذجا يحتذى به أمام الشعوب الأخرى، من حيث التعريف بها وبأسباب قيامها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، واستعراض آراء المفكرين والشخصيات العالمية حولها، والتعريف برموزها ومنجزاتها، وكذلك المؤامرات التي حيكت ضدها.( )
موقع مؤسسة الفكر الإسلامي، وهو موقع مدون بأربع لغات هي: الفارسية والعربية والإنجليزية والفرنسية، ويُعنى بنشر المحتوى الفكري للمذهب الشيعي، ومحصلة جهود المفكرين والمثقفين الإيرانيين بصيغة pdf، فضلا عن استعراض أنشطة المؤسسة وفعالياتها والترويج للمزارات والأضرحة والمناسبات الشيعية في إيران( )
وفضلا عما سبق، يمكن الإشارة إلى أن رابطة الثقافة والاتصال الإسلامية، تهتم بتوجيه خطابها إلى: المرأة، عبر معالجة شئونها وقضاياها في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، وإبراز دور المرأة الشيعية في بناء المجتمع الشيعي( ) والشباب على اعتبار أنهم فئة يمكن أن تقبل بسهولة بالمعطيات الإيرانية ويسهل استقطابها وتغيير انتمائها المذهبي والفكري. كما لم يغفل الخطاب الثقافي أيضا العناية بإيرانيّ المهجر؛ بغرض ربطهم بوطنهم الأم والمحافظة على هويتهم من الذوبان بالمجتمعات التي يقيمون فيها، والحيلولة دون تحولهم إلى معادين لنظام الثورة، بل وتحويل قطاع كبير منهم إلى قوة دعائية له، والاستفادة منهم في تكوين قاعدة معلومات صحيحة عن الفئات الاجتماعية المؤثرة التي يمكن أن تستجيب للمشروع الثقافي الإيراني.( )
ثانياً: المكون الدعوي:
وهو المكون الذي يعني ببث القيم الروحية للمذهب الشيعي ونشر تعاليمه وأصوله الفقهية وتاريخه، فضلا عن قيم الثورة الإسلامية وأسسها القائمة على ولاية الفقيه. وذلك بما يؤدي إلى خلق طوائف من الشيعة «المستبصره» داخل نسيج المجتمعات الأخرى، تظل مرتبطة بالمرجعيات الإيرانية سياسيا ودينيا.
وتضطلع بهذا المكون ست مؤسسات رئيسية، بالتعاون مع عدد من المراكز المؤسسات الدينية والأمنية ذات الصلة. والتي تعمل جميعا ضمن منظومة متكاملة على استقطاب آلاف الطلاب من جميع أنحاء العالم إلى إيران؛ بوصفها «مجتمع رسولي» وتأهيلهم وتحويلهم إلى المذهب الشيعي، ومن ثم إعادة إيفادهم مرة أخرى للدعوة للمذهب الشيعي في مجتمعاتهم أو في المجتمعات المجاورة لهم، بوصفها «مجتمعات رسالية» فضلا عن إيفاد عشرات الدعاة الإيرانيين لمساندتهم. وعقد المؤتمرات السنوية لتدارس أوضاع الشيعة في الدول الموفدون إليها وسبل تعزيز هويتهم المذهبية داخل مجتمعاتهم، من ناحية. وبحث سبل دعم ومساندة الدعاة ماديا ومعنويا وعلميا وثقافيا، واستخلاص نتائج تجاربهم الدعوية للاستفادة منها في تطوير الدعوة.
وفي هذا السياق سوف نتناول بإيجاز المؤسسات الست المضطلعة بهذا المكون، على النحو التالي:
مؤسسة الدعوة الإسلامية، هي بمثابة المركز العالمي للدعوة ونشر المذهب الشيعي، التي تخضع بحكم القانون لمكتب المرشد الأعلى للثورة، وتُعد إحدى المؤسسات المتعاونة مع رابطة الثقافة في مجال الدعوة بالخارج. وتضطلع بتخطيط وتنظيم الأساليب الدعوية على المستويين التربوي والتثقيفي؛ كي تتناسب مع طبيعة كل مجتمع من المجتمعات الخارجية، في ضوء البحوث والدراسات التي تُجريها في هذا الشأن. كما تضلع بمهمتين أساسيتين، تتركز الأولى على تأسيس وإدارة مراكز تدريب وتأهيل الدعاة والوعاظ، عبر الإشراف على شبكة واسعة من الحسينيات ومراكز نشر المذهب بالعالم، وتقديم الدعم الذي يكفل لها تحقيق أهدافها، سواء بتزويدها بالمكتبات الكاملة أو بالمجلات والدوريات والمطبوعات المختلفة، أو إرفادها بالدعاة المؤهلين ومحفظي القرآن ومنشدي المراثي والأدعية الشيعية. بينما تتلخص مهمتها الأخرى، في صيانة الهوية الشيعية للمجتمع بالداخل وللتجمعات الشيعية بالخارج وصناعة وعي جمعي مساند للثورة الإسلامية. سواء من خلال التبليغ المنظم والوعظ المباشر، أو توزيع الكتب والمطبوعات. فضلا عن الاستخدام الأمثل لمنصات التواصل الاجتماعي، والمواقع الاليكترونية المُصممة خصيصا لهذا الغرض. ( )
المنظمة العالمية للحوزات والمدارس الإسلامية، وهي منظمة تعليمية تربوية بحثية خاضعة لإشراف المرشد الأعلى للثورة، وتنهض بتحقيق هدفين أساسيين، الأول: تعليم وتدريب الدعاة والباحثين، غير الإيرانيين، في العلوم والمعارف الشيعية بدولهم، وتقدم المنح الدراسية لهم لاستكمال دراستهم بالحوزة العلمية بشيراز لتأهيلهم للقيام بالدعوة. والثاني تأسيس الحوزات العلمية والمراكز الدعوية بالخارج والإشراف عليها ( ) خاصة التي أسستها في كل أهم المدن العراقية، مثل: المدائن، والكوفة، والبصرة، والحِلّة، وبغداد، وكاظمين، وسامراء. فضلا عن إدارة حوزة حلب العلمية بسوريا، وحوزة جبل عامل بلبنان، والحوزة العلمية بلندن. وتصدر هذه المنظمة مجلتين فصليتين متخصصتين باللغة العربية هما: «الحياة الطيبة» و«الكلمة الطيبة» ( )
مراكز إيفاد الدعاة، وينهض بثلاث مهام أساسية، الأولى استكشاف المناطق الدعوية الجديدة، سواء داخل البلاد أو خارجها، ورسم الأهداف الدعوية لكل منطقة بمديات زمنية مختلفة، وفق مقتضيات الحاجة. أما المهمة الثانية، فهي تمويل العمل الدعوي ودعمه، وانتقاء الدعاة البارعين وإرشادهم ومتابعة أدائهم الدعوي، وتوفير جميع الخدمات العلمية والمعلوماتية لهم، وربطهم بشكل مستمر بالمجامع والمراكز الدعوية والثقافية الأخرى في العالم ( ). بينما تتلخص المهمة الثالثة في تنظيم ودعم جهود شبكة دعوية إيرانية قوامها إحدى عشرة مؤسسة أخرى تضطلع بالدعوة للمذهب الشيعي.( )
المجمع العالمي لأهل البيت، هو أحد المراكز المتعاونة مع رابطة الثقافة في مجال تطوير مكانة الأقليات الشيعة في العالم ورفع مستواها العقيدي والفكري داخل مجتمعاتها، وترسيخ انتمائها المذهبي، وتعزيز ارتباطها السياسي بإيران؛ بوصفها محور ارتكاز ولاية الفقيه في العالم. وذلك من خلال تزويد هؤلاء بالقيم المذهبية والمعارف العقائدية والعلوم الفقهية.( )
مجلس تنسيق الدعوة الإسلامية، هو الجهة المعنية بتنسيق جهود أكثر من 20 وزارة ومؤسسة وهيئة وإدارة ومركزا، تُسهم جميعا في ترسيخ القيم المذهبية والوطنية والإنسانية الخاصة بالثورة الإسلامية( ) والترويج لشعاراتها السياسية والدينية من خلال إقامة ثلاث عشرة مناسبة وطنية ودينية داخل إيران وخارجها، التي من شأنها تكريس رسالة نظام ولاية الفقيه. وإظهار قدرته على الحشد الشعبي المساند له، على نحو يوحي للعالم مدى هيمنة القيم الثورية على مختلف الطبقات، لاسيما الشباب منهم. وذلك بغرض توظيف الطاقات الشعبية في دعيم أركان النظام. ومن بين هذه الاحتفالات إحياء الذكرى السنوية للثورة، ويوم الشهيد، واليوم الوطني لمكافحة الاستكبار العالمي، واليوم العالمي للقدس( )
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ويضطلع، بالتعاون مع رابطة الثقافة والاتصال، بإظهار الوجه المتسامح للثورة الإسلامية، من خلال رفع شعار «وحدة الأمة الاسلامية» التي يتطلع إليه مسلمو العالم، والتركيز على القواسم المشتركة بين المذهب الشيعي والمذاهب الإسلامية الأخرى. وهو أمر تُعول عليه إيران في اختراق المجتمعات الإسلامية والتأثير عليها. خاصة التي تكثر فيها الجماعات الصوفية وجماعات الإسلام السياسي. واستقطابها نحو استلهم تجربة الثورة الإسلامية القائمة على الجمع بين السلطة السياسية والدينية ( ) وينشر هذا المجمع رسالته عبر مجلة شهرية يُصدرها بعدة لُغات، وعبر وكالة أنباء خاصة به( ).
ثالثا: المُكون التعليمي:
وهو الكون الذي يسهم بناء معاني ومفاهيم وحقائق علمية؛ تؤدي إلى تعزيز العلاقة مع الثقافة الإيرانية، بما يسهم في تكوين أفراد ترتبط مصالحهم بإيران، ويؤمنون بقيم ثورتها، ويرفعون شعاراتها. وتنهض بهذا المكون مجموعة من الجامعات والمؤسسات البحثية الإيرانية لتحقيق التواجد الفعال في المحافل العلمية والثقافية والمنظمات الدولية والإقليمية. نتناول أهمها على النحو التالي:
جامعة المصطفى العالمية، تعمل تحت إشراف مكتب المرشد الأعلى للثورة، بوصفها المركز العالمي للدراسات الشيعية، الذي يدمج بين أسلوبي التعليم الحوزوي والجامعي. والتي تأسست لتحقيق جملة من الأهداف، منها: تكوين أجيال متعاقبة من الدعاة والباحثين والمترجمين الأجانب المؤهلين علميا وتربويا، ولديهم القدرة اللازمة على تفكيك المفاهيم التقليدية لدى أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، ومن ثم تقديم المذهب الشيعي لهم بديلاً. فضلا عن تعزيز علاقتها بمراكز البحوث والدراسات والمؤسسات التعليمية والثقافية في العالم، وتوثيق عرى الترابط بين الدعاة الإيرانيين ونظرائهم الأجانب. إضافة لسعيها الدائم لنيل الاعتراف الرسمي بالشهادات التي تمنحها لخريجيها في مجال العلوم الدينية والدراسات الإسلامية ( ) والعلوم الإنسانية ( ) واللغات وآدابها ( ).
ويقع المقر الرئيسي لجامعة المصطفى بمدينة قم، وتتبعه خمسة أفرع أخرى في طهران، ومشهد وأصفهان وجرجان، وقشم. ويضم المقر الرئيسي عددا من المعاهد والمراكز التعليمية والبحثية، أهمها: المعهد العالي للدراسات الفقهية والمعهد العالي للعلوم الإنسانية ومعهد الإمام الخميني العالي للدراسات والبحوث والمعهد العالي لعلوم اللغة والثقافة الإسلامية ومعهد الفقه وعلوم القرآن والحديث ومعهد بنت الهدى للدراسات العليا (طالبات) ومركز الدورات القصيرة والمنح الدراسية ومركز المصطفى العالمي للدراسات والبحوث ومركز الدراسات والبحوث الإقليمية ( ) فضلا عن مركز المصطفى الدولي للترجمة والنشر، الذي تتبعه أربعة أفرع محلية أخرى في قم، ومشهد، وتهران واصفهان، وثمان فروع خارجية في سبع دول أجنبية (بريطانيا، وإندونيسيا، وماليزيا، ولبنان، والهند، وأفغانستان، وتايلند) وأصدر أكثر من 1200 كتاب من الكتب الشيعية المترجمة لأربعين لغة، منها: العربية، والتركية، والأوردية، والآذرية، والجورجية، والطاجيكية، والإندونيسية، والتاميلية، والصينية، والبنجالية، التائية، والمالايوية، البرتغالية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، والسواحلية، والهوساوية( ).
وتنهض جامعة المصطفى بنشاط علمي واسع في عدد من دول العالم، حيث نجحت في تأسيس وإدارة عشرة مراكز بحثية تابعة لها، في كل من: أفغانستان واليابان وسوريا ولبنان (مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي) وماليزيا، والهند، وألبانيا، وصربيا، والبوسنة والهرسك، وإندونيسيا. فضلا عن مجموعة مدارس «السبطين» التي شيدتها إيران في كل من العراق واليمن، إضافة إلى مدرسة الشهيد الصدر بالعراق( ). كما نجحت في تأسيس وإدارة أربعة عشر فرعا وكلية تابعة لها أيضا في بعض الدول الواقعة داخل دوائر الاهتمام الإيرانية، سواء في أوروبا أو آسيا أو أفريقيا( )
ويقدر عدد الذين التحقوا بهذه الجامعة في مراحلها التعليمية المختلفة، أكثر من أربعين ألف طالب وطالبة، ينتمون إلى قرابة المائة دولة( ) ممن سبق استقطابهم عن طريق الملحقيات الثقافية الإيرانية بالخارج، أو عبر موقع الجامعة الإلكتروني، أو بواسطة بعثات الاستقطاب الإيرانية التي يتم إيفادها سنوياً إلى مختلف دول العالم. وقد انخرط كل من تخرج فيها بالعمل الدعوي والتعليمي داخل المراكز العلمية والبحثية والثقافية الشيعية الموجودة في بلدانهم. ومن ناحية أخرى، تدرس أكثر من ألفي طالبة، من جنسيات مختلفة، بمدرسة «بنت الهدى العليا» و«جامعة الزهراء» و«مدرسة نرجس» الموجودة على الأراضي الإيرانية.( )
وفضلا عما سبق، فإن جامعة المصطفى توفر خدمة التعليم المجاني عن بُعد، عبر موقع متخصص لها على شبكة المعلومات الدولية، والذي تتيح عبره المقررات الدراسية المختلفة، فضلا عن آلاف الكتب والمجلدات والبحوث الدينية، لجميع طلابها من مختلف دول العالم، وتمنحهم شهادات تخرج معتمدة في مراحل الليسانس والماجستير، في تخصصات: اللغة الفارسية وآدابها، والمعارف الإسلامية، والفلسفة والعرفان الإسلامي( ) خاصة أنها أسست أربعة آلاف موقع إلكتروني موجه باللغات الدارجة في الدول التي يلتحق منها الطلاب، سواء في مقراتها الفخمة المُشيدة في إيران وخارجها، أو عبر موقعها المخصص للتعليم عن بُعد، مثل موقع «أهل البيت» الموجه لشيعة ألبانيا( )، وموقع الصين القرآني الموجه لشيعة الصين( )
جامعة أل البيت العالمية، أُنشئت عام 2001م، بمدينة قم، تحت إشراف جامعة المصطفى العالمية، لتكون بمثابة أول جامعة عربية بين الحوزات العلمية التقليدية المعنية باستقطاب الطلبة من الدول العربية خاصة، ومن دول العالم الأخرى عامة؛ بهدف تأهيلهم علمياً وتعزيز قدراتهم الدعوية. وتمنح خريجيها شهادات موازية للشهادات التي تمنحها الحوزة العلمية بمستوياتها المختلفة: الليسانس، والماجستير، والدكتوراه، ثم درجة الاجتهاد. وينخرط بالدراسة فيها أعداد قليلة مُنتقاة من الطلاب الذين ينتمون لخمسة وثلاثين جنسية، أوردها موقع الجامعة مرتبة حسب النسبة المئوية لعدد الطلاب من كل دولة: السعودية والعراق وباكستان والنيجر واليمن وفرنسا وكينيا ولبنان ونيجريا والهند والولايات المتحدة وأذربيجان والبحرين وبلجيكا وبنين وروسيا والسنغال والسويد والكويت ومدغشقر ونيوزيلندا والجزائر وتانزانيا وتايلند والسودان وسوريا وعمان وكولمبيا وجامبيا وماليزيا وهولندا وأفغانستان( ).
جامعة الأديان والمذاهب: جامعة أهلية تشرف عليها وزارة التعليم العالي، وتهدف إلى إعداد وتأهيل خريجي الحوزة العلمية من الإيرانيين، الذين يتقنون اللغات الأجنبيّة، في مجال الدراسات التطبيقيّة ومقارنة الأديان والمذاهب الإسلاميّة لتحقيق عدد من الأهداف، منها:
التعريف المنطقيّ والعلميّ بالمذهب الشيعي، والردّ على الشبهات المثارة حوله، والدفاع العلميّ والمنطقيّ عن فكرة التشيّع، مع إبداء الاحترام الظاهري لعقائد وتعاليم الديانات والمذاهب الأخرى
الدعوة للمذهب الشيعي بأسلوب منهجي مدروس يقوم على الحوار الناقد والتأثير على الآخرين.
تعزيز التواصل العلميّ والثقافيّ مع المراكز المناظرة داخليا وخارجيا.
تزويد المؤسسات والأجهزة الإيرانية بالبحوث والدراسات العلمية المتخصصة في الأديان والمذاهب المختلفة؛ للإفادة منها في تحقيق الأهداف الاستراتيجية العليا لتصدير الثورة.
وتضمّ جامعة الأديان والمذاهب ثلاث كلّيّات، تضم كل واحدة منها ثلاثة أقسام علمية متخصصة، يدرس فيها ما يزيد على خمسمائة طالب وطالبة في الأقسام المختلفة، هي: كلية الأديان، وتضم: قسم الدينات الإبراهيميّة (اليهوديّة والمسيحيّة) وقسم الديانات غير الإبراهيميّة (الهندوسيّة والبوذيّة وديانات إيران القديمة)، وقسم علم الأديان. وكلية المذاهب الإسلاميّة، وتضم أقسام: العرفان والتصوّف، والمذاهب الإسلاميّة والكلاميّة، والمذاهب الفقهيّة. ثم كلية المعارف الشيعيّة وتضم اقسام: علم الكلام الشيعيّ والفرق الشيعية ودراسات التاريخ الشيعيّ( ).كما يتبع هذه الجامعة مركزا لإجراء الدراسات والبحوث العلمية المُتخصصة، والذي يضم بدوره خمس وحدات:
1. وحدة المذاهب الإسلاميّة، المعنية بالبحث في فرق المذهبين الشيعي السني، والفرق الإسلامية الأخرى.
2. وحدة التصوّف والعرفان الإسلاميّ، وتُعنى بدراسة التصوّف وفرقه المنتشرة في العالم الإسلامي، ومقارنته بفكرة التصوف والعرفان في الأديان الأخرى.
3. وحدة الديانات الإبراهيميّة، وتُعنى بدراسة الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة على مستويات النشأة والأسس الفكرية والفلسفية والعقيدية والأخلاقية والروحية، والكتب والنصوص المقدّسة، والشرائع.
4. وحدة الأديان الشرقية، وتُعنى بدراسة ديانات الشرق الأدنى والأقصى، والديانات الإيرانيّة القديمة.
5. وحدة المعارف الدينيّة، وتُعنى بدراسة سيسيولوجيا الدين وسيكولوجيته وفلسفته( ).
وتعتمد جامعة الأديان والمذاهب لتحقيق رسالتها وأهدافها على قاعدة عريضة من الجامعات والمؤسسات والهيئات الإيرانية الأخرى ( ) وقد نجحت في إبرام أربع عشرة اتفاقية تعاون علمي مشترك مع جامعات وأكاديميات ومعاهد وأقسام علمية، في مجال دراسة الأديان والمذاهب، بأربع عشرة دولة( )
جامعة الإمام الخميني الدولية، يقع مقرها بمدينة قزوين، وقد تحولت من معهد فني، بعد الحرب العراقية الإيرانية، إلى جامعة تخضع لوزارة التعليم العالي، كي تجمع بين أساليب التعليم الفني والدعوي؛ بغرض توظيف العلوم والتكنولوجيا في نشر ثقافة العقيدة الشيعية في العالم. فضلا عن تخريج أجيال متخصصة تنقل تجربة إيران التقنية إلى جميع الدول الإسلامية، بوصفها نموذجا للدولة التي تعتمد على ذاتها علمياً وثقافياً. وقد نجحت هذه الجامعة في استقطاب المئات من الطلاب، وتحويلهم إلى المذهب الشيعي، من خلال اتفاقيات التعاون والتبادل العلمي، التي أبرمتها مع الجامعات والمراكز العلمية المناظرة في كل من: كوريا الجنوبية وروسيا وأذربيجان وكازاخستان وطاجيكستان وباكستان وتركيا والعراق وماليزيا وإيطاليا والصين وإسبانيا وبلغاريا وإثيوبيا.( )
مجمع اللغة والأدب الفارسي، يتبع رابطة الثقافة الإسلامية والاتصال، ويُعنى بنشر اللغة والأدب الفارسي، بوصفهما جسرا للتواصل مع المجتمعات الخارجية؛ لصناعة مستقبِل جيد للمفاهيم الثقافية والفكرية الإيرانية المختلفة بلغتها الأم. وينهض بدراسة أوضاع اللغة الفارسية في الخارج، بالتعاون مع الهيئات والإدارات المختلفة. ومن ثم تكوين قاعدة معلومات عن أقسام تدريس اللغة الفارسية بجامعات العالم، على مستوى المناهج والمقررات والأساتذة والمدرسين وتخصصاتهم الدقيقة وأعمالهم ومؤلفاتهم العلمية، فضلا عن أعداد الطلاب المتخصصين بها. ومن ثم تقديم الدعم اللازم لها، سواء في صورة مكتبات كاملة مزودة بجميع كتب ووسائل تعليم اللغة والأدب الفارسي، أو في صورة استضافة للأساتذة والباحثين المتخصصين لحضور الندوات والملتقيات الدولية حول اللغة والأدب الفارسي سيما المؤتمر الدولي لأساتذة اللغة الفارسية، أو عقد دورات تعليم مجانية متخصصة لرفع كفاءتهم اللغوية، واستقطاب دارسي اللغة الفارسية من غير الإيرانيين، وتقديم المنح الدراسية لهم ليواصلوا دراستها بالجامعات الإيرانية. إضافة إلى استقطاب المتخصصين في تعليم اللغة الفارسية وإيفادهم إلى مراكز تعليم اللغة الفارسية في الخارج.( )
ونخلص مما سبق، أن محصلة الجهود التي بذلتها الجامعات والمؤسسات التعليمية والبحثية الإيرانية، أسفرت عن تحقيق جملة من الأهداف المهمة التي رسمها صانع القرار الإيراني لتصدير الثورة، منها ما يلي:
1. فهم الأبعاد الدينية والمذهبية والفكرية للمجتمعات الواقعة بكل دائرة الاهتمام إيرانية، ومن ثم تحديد المناطق المستهدف نشر المذهب الشيعي فيها، واقتراح الآليات التي يمكن اعتمادها في هذا الشأن.
2. إجراء الدراسات وعقد المؤتمرات والندوات، التي تتناول أوضاع المناطق التي تتواجد فيها الأقليات الشيعية «المُستضعفة» بالعالم للوقوف على احتياجاتها التي يتعين على النظام الإيراني تلبيتها.
3. إجراء الدراسات التي من شأنها رفع المستوى المعيشي لهذه الأقليات وتقوية انتمائها المذهبي وتعظم دورها السياسي، من ناحية. وتوطد علاقتها بالنظام الإيراني والحوزات الدينية الإيرانية، من ناحية أخرى.
4. تكريس مكانة إيران الأدبية بالعالم، عبر توثيق الروابط الثقافية والأدبية مع المؤسسات التعليمية الخارجية
5. بناء قاعد معلومات علمية دقيقة حول الأقليات الشيعية ومستواها العلمي والتعليمي وتحديد آليات رفع مستواها بما يُسهم في الاعتماد عليها في نشر المذهب الشيعي داخل مجتمعاتها.
6. إعداد كوادر علمية تضطلع بالتواصل الفعال مع أتباع الديانات والعقائد والمذاهب الأخرى بالعالم.
7. المساهمة في إنشاء فروع للمؤسسات التعليمية والبحثية الإيرانية بالخارج، في إطار ترسيخ المكونات العلمية والفنية لدى أبناء الأقلية الشيعية في كل مكان.
رابعًا المكون الإعلامي:
يؤدي الإعلام دورا مهما في استراتيجية إيران لتصدير ثورتها، من حيث أنه المعني ببلورة الأنساق المعرفية والمفاهيم الثقافيةً للمذهب الشيعي لدى المتلقي؛ بما يفضي إلى تعزيز المخزون المعرفي المتراكم لديه، وتنمية معتقداته. إضافة إلى تشكيل صورة ذهنية مثالية عن إيران بوصفه نظاما إسلاميا، يقوم على منظومة فكرية مقدسة، وسياسية لا مثيل لها، وعقائدية صافية، مغايرة للواقع الإسلامي العام.
وفي هذا الإطار، ينهض جهاز إيران الدعائي، عبر التوظيف الأمثل للإمكانيات المتقدمة في عالم تقنية الاتصالات والبث الفضائي التي تتجاوز بدورها حدود الجغرافيا وحدود المستوى التعليمي، مهمة غرس وترسيخ الصورة الذهنية المثالية لإيران لدى المتلقي الخارجي، من خلال خطاب دعائي يحقق الأهداف الاستراتيجية المطلوبة. خاصة أنه يولي اهتمامه بمواقف إيران السياسية. ويتولى مسئولية غرس قيم المذهب الشيعي وتعاليمه وقضاياه لدى المتلقي. فضلا عن مخاطبة أتباع المذهب الشيعي بالعالم، ومحاجة مخالفيه بالحجج والشواهد التاريخية وإظهار منطق المعتقدات المذهبية، بما يؤدي إلى استثارة المتلقي وخلق اتجاه نفسي موحد لدى الطائفة الشيعية، وبلورة اتجاهات أخرى يمكن أن تكون مساندة لتصدير الثورة.
وتعتمد إيران في ذلك على ثلاث وسائل إعلامية: الإعلام التقليدي بما فيه القنوات الفضائية المختلفة والمحطات الإذاعية الموجهة التي تبثها هيئة الإذاعة والتلفزيون فضلا عن الصحف والمجلات والمطبوعات المُتخصصة التي تُصدرها المؤسسات المعنية، التي سبق ذكرها. والإعلام الإليكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي المواقع التي تُنشئها جميع الهيئات والمؤسسات والمراكز والمرجعيات المعنية عبر شبكة المعلومات الدولية. وهذا ما سوف نتناوله بإيجاز على النحو التالي:
الإعلام التقليدي: ويضم القنوات التي تبثها هيئة الإذاعة والتلفزيون، التابعة مباشرة للمرشد الأعلى للثورة، طبقا للمادة 157 من الدستور، والتي تؤدي دورا خطيراً في تصدير الثورة ونشر المذهب الشيعي في جميع أنحاء العالم، عبر شبكة واسعة من القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية الموجهة، التي تسهر على إلقاء الضوء على دور إيران ومدى تأثيره الخارجي، ورفع مستوى الوعي المذهبي وتعميق الايمان لدى أبناء الطائفة الشيعية في العالم سواء من الأطفال أو الشباب أو الشيوخ، ومعالجة أوضاعهم في البلاد التي يعيشون فيها.
وتتعاون هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية في هذا الشأن مع فيلق القدس، الذي يتولى بدوره مسئولية إدارة «وحدة الاعلام الخارجي» التابعة هيكلياً للهيئة المذكورة. وقد نجح فيلق القدس من خلال هذه الوحدة في اختراق الدول الواقعة في نطاق المجال الحيوي للمصالح والأهداف الإيرانية في كل من: آسيا اوروبا والاميركيتين. كما نجح أيضا في اختراق منظومة البث الفضائي العربي من خلال المؤتمر الدولي الأول للاتحاد العالمي للإذاعات والتلفزيونات الإسلامية، الذي دعا إليه «علي لاريجاني» رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون حينئذ، أواخر عام 2004م، لإيجاد القواسم المشتركة بين وسائل الإعلام الإسلامية المختلفة. خاصة التي تلتزم خط المقاومة والممانعة وخط الوحدة الإسلامية( ).
وقد حصد هذا الاتحاد لإيران هدفين مهمين، يتمثل الأول في تأسيس هذا الاتحاد في حد ذاته؛ بوصفه يشكل تطورا في أسلوب العمل الإيراني في التعامل مع مناطق نفوذه، أو المستهدفة بتوسيع هذا النفوذه مستقبلا أو المهيأة لمثل هذا النفوذ. أما الهدف الثاني، فقد تمثل في أنها ألقت بمسؤولية تصدير الثورة على كاهل مكاتب تمثيل الاتحاد الواقعة في لندن وبيروت بعيدا عن عاتق الإذاعة والتلفزيون الإيرانية( ).
وبناء عليه، نجحت إيران، من خلال هذا الاتحاد، في تأسيس «مركز التدريب الإعلامي» في بيروت ومؤسسة «الهداية» بمكاتبها الموجودة في أكثر من سبع دول عربية واسلامية، وتتركز أنشطتها في المجالات التقنية والهندسية وتقنيات البثّ عبر الأقمار الصناعية. إضافة إلى مركز آخر للرصد الاعلامي، وهو عبارة عن موقع على شبكة الانترنت للتبادل الإخباري المصوّر. كما أنشأت صندوقا، مموّلاً من أعضاء الاتحاد، لتمويل ودعم إنتاج المؤسسات الإعلامية الموالية لها، والتي تزيد على خمس عشرة محطة ناطقة بالعربية، وتحظى بحماية حزب الله، حيث تقع مكاتبها داخل منطقة «الجناح -بئر حسن» بضاحية بيروت الجنوبية الخاضعة لسيطرة الحزب ونفوذه؛ وتتمتع بموقعها القريب من المطار والعاصمة والضواحي الأخرى( ).
وتعد قناة «القدس» التابعة لحركة حماس، التي انطلقت من بيروت، التجربة الناجحة الأولى على صعيد عمل هذا الاتحاد. ثم تبعها انطلاق قناة أخرى تابعة لحماس هي قناة «الأقصى» ثم قناة «فلسطين اليوم» التابعة لحركة الجهاد الإسلامي. ثم توجت إيران هذا النجاح بإطلاق قناة «الميادين» كما نجحت، عبر هذا الاتحاد أيضا، في تفريخ ودعم محطات تلفزيونية شيعية أخرى مثل قناة «آسيا» التابعة لأحمد الجلبي، وقناة «بلادي» المقربة من إبراهيم الجعفري، وقناة «الفرات» الناطقة باسم المجلس الشيعي الأعلى العراقي بقيادة عمار الحكيم، وغيرها من القنوات التابعة للفصائل المتحالفة مع إيران أو التابعة لها( )
وفي ظل التطورات التي شهدها الساحة العربية منذ عام 2011م، خاصة اليمن والعراق ولبنان البحرين والسعودية التي تعتبرها إيران واقعة في نطاق مجالها الحيوي والاستراتيجي. دفعت إيران هذا الاتحاد نحو توسيع نطاق استهداف هذه الدول، من خلال تأسيس قنوات جديدة تمثل الجماعات التابعة لها بهذه الدول. ومن ثم تأسست قناة «المسيرة» الناطقة باسم حزب أنصار الله اليمني الحوثية، وقناة «الساحات» التي كانت تُغطي أخبار الثورة في اليمن. كما تأسس قناة خاصة بكتائب حزب الله العراق وأطلق عليها اسم «الاتجاه» فضلا عن قناة «النبأ» التي تهتم بأخبار المنطقة الشرقية في السعودية بشكل خاص، وذلك في إطار مشروع إيران لإثارة البلبلة واستغلال الكتلة البشرية التي تسكن هذه المنطقة من باب الانتماء المذهبي. أما مملكة البحرين، فكان نصيبها إطلاق قناة «اللؤلؤة»( ) وذلك ضمن جهود إيران لتأسيس ودعم شبكة واسعة من القنوات الشيعية الأخرى التي تيث إرسالها باللغة العربية على قمري عربسات ونايلسات لتعزز نفوذها الديني بالمنطقة العربية.( )
كما تقوم هيئة الإذاعة والتلفزيون ببث عدد لابأس به من القنوات الأخرى الموجهة بالعربية والفارسية والانجليزية والإسبانية والبوسنية والتركية والآذرية والفرنسية، مثل قناة «الكوثر» الناطقة بالعربية المعنية بنشر الثقافة الشيعية بالمنطقة العربية عبر برامج متنوعة تعالج مختلف المجالات الإنسانية والدينية والفكرية والاجتماعية، وقناة «العالم» الإخبارية التي تستهدف المشاهد العربي، على غرار قناتي الجزيرة والعربية، وقناة الافلام IFILM»» التي تبث بالفارسية والعربية والانجليزية، وقناة «PressTV» باللغة الإنجليزية. فضلا عن قنوات «جام جم» المعنية بمخاطبة المهاجرين الإيرانيين المقيمين بأوروبا وأمريكا، وقناة HispanTV»» الإخبارية باللغة الاسبانية والموجهة إلى إسبانيا ودول أميركا اللاتينية، مثل: فنزويلا، والأرجنتين، وكوبا، بوليفيا وشيلي والإكوادور وكولومبيا والمكسيك( ).
كما تمتلك هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية ثلاثين محطة إذاعية موجهة تبث إرسالها بثلاثين لغة منها: الإنجليزية والفرنسية والالمانية والإيطالية والاسبانية والبوسنية والالبانية والروسية والجورجية والطاجيكية والارمنية والاوزبكية والآذرية والفارسية والدرية والاردية والبنغالية والاندونيسية والصينية واليابانية والهوساوية والسواحيلية والعربية والعبرية والتركية والكردية( )
كذلك نجحت إيران في استكتاب مئات الكتّاب والصحفيين المنتمين لدول أخرى. وتوزيع كتاباتهم على المراكز والملحقيات الثقافية الإيرانية بالمجان، إضافة لعشرات المجلات المتخصصة، التي تتوفر لها نسخ رقمية على موقع خاص بشبكة الانترنت( ) وفي هذا الإطار، يُصدر مركز بحوث أل البيت فصلية دينية في داغستان بعنوان «کوثر» بينما تقوم مؤسسة الفكر الإسلامي بإصدار ثمان عشرة مجلة، موجهة للشيعة. أما المجمع العالمي لأهل البيت، فيصدر بدوره مجلة شهرية دعوية متخصصة بعنوان «رسالة الثقلين» ( )
الإعلام الاليكتروني: استطاع الجهاز الدعائي توظيف تقنيات الاتصال الالكتروني والتواصل الاجتماعي توظيفاً أمثل لتبليغ رسائل إيران الدينية والثقافية والسياسية، خاصة بعد أن امتلكت جميع القنوات الفضائية والمحطات الإذاعية الشيعية نوافذ للبث المباشر، ومواقع خاصة بها على محركات البحث بشبكة المعلومات الدولية، فضلا عن الصفحات الخاصة بمواقع التواصل ( ).
كما تمتلك جميع المؤسسات المنخرطة في التصدير الاستراتيجي للثورة مواقع ثرية على شبكة المعلومات الدولية، فضلا عن عشرات الآلاف من المواقع المذهبية الفعالة، التي تستهدف تعزيز التواصل مع جموع الشيعة في العالم على اختلاف لغاتهم وتباعد مناطقهم الجغرافية. وتتيح هذه المواقع نسخاً لآلاف الكتب والدراسات والبحوث الخاصة بالعقيدة الشيعية، ومشاكل الشيعة في العالم، وقضاياهم، والفتاوى والأحكام الخاصة بهم؛ كي يقلدوها من ناحية. ويتفقهوا في أمور مذهبهم من ناحية أخرى. هذا إلى جانب آلاف المواقع الخاصة بجميع أئمة المذهب، وجميع المرجع والفقهاء في الحوزة العلمية سواء الموجودة في مشهد أو النجف أو قم.
آليات التصدير الاستراتيجي للثورة الإيرانية
إذا افترضنا أن حوالي 40% من شيعة العالم يقطنون إيران، فعلينا أن ندرك أيضا أن استراتيجية تصدير الثورة جعلت من الدولة الإيرانية محورا لثلاث دوائر اهتمام تحيط بها، تضم كل دائرة كتلا استراتيجية مهمة. وأنها قد اختصت كل دائرة من هذه الدوائر بآلية محددة، تختلف من دائرة إلى أخرى. وفقا للتصنيف النوعي للأقلية الشيعية ولطبيعة البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشون فيها، وطبيعة الأهداف.
أولا: الدوائر المستهدفة
دائرة شيعة المحيط الجغرافي، وتضم أتباع الطائفة الشيعية بالدول المتاخمة للحدود الإيرانية، وتشتمل ثلاث كتل استراتيجية، الكتلة الأولى تضم المنطقة الجغرافية الممتدة من شمال غرب الحدود الإيرانية باتجاه حدودها الجنوبية الموازية لمياه الخليج (تركيا والعراق والكويت والبحرين وقطر والسعودية وعمان والإمارات وعمان) والكتلة الثانية تضم الدول الواقعة على حدودها الشمالية (أرمينيا وأذربيجان وتركمانستان) أما الثالثة فتضم الدولتين المتاخمتين لحدودها الشرقية (أفغانستان وباكستان)
دائرة شيعة الجوار الجغرافي: وتشتمل ثلاث كتل استراتيجية أيضا، الكتلة الأولى وتضم الدول الواقعة شرق البحر المتوسط (سوريا لبنان ولأردن وفلسطين) والكتلة الثانية يضم الدول الواقعة شمال وشرق إيران (روسيا وطاجيكستان وأوزبكستان والهند وبنجلاديش) أما الكتلة الثالثة، فتضم الدول المطلة على مياه المحيط الهندي وبحر العرب (اليمن وإريتريا والصومال وكينيا وتنزانيا وأوغندا وأوغندا وأثيوبيا والسودان وجزر القمر)
دائرة البؤر الشيعية حديثة النشأة: وهي الدائرة التي تدخل في طور التكوين والإنماء المستمر، والتي نستنبط منها الأبعاد السياسية للتحركات الإيرانية في تكوين هذه البؤر؛ تمهيدا لقيام حكومة المهدي العالمية. وتضم هذه الدائرة أربع كتل استراتيجية، الأولى تضم دول شمال أفريقيا (مصر وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا) والثانية تضم بعض الدول الواقعة بغرب ووسط وجنوب أفريقيا (نيجيريا وغانا والسنغال وسيراليون وزيمبابوي وجنوب أفريقيا) بينما تقع الكتلة الثالثة بجنوب شرق آسيا وتضم الدول الإسلامية تحديدا (إندونيسيا وماليزيا والمالديف، المناطق ذات الأقليات المسلمة بالصين وتايلاند وسيرلانكا والفلبين وبورما … الخ) أما الكتلة الرابعة فتضم بعض الدول الأوربية (ألبانيا وإسبانيا واليونان وإيطاليا وبلغاريا، وبريطانيا وفرنسا)
ثانيا: الفئات المستهدفة
تستهدف عملية تصدير الثورة الإسلامية، أربع فئات، لكل فئة منها آلية عمل مناسبة لها، هي:
شيعة الفعل السياسي والعمل الميداني، الذين يمكنهم أن يُسهموا تلقائيا في أي في حراك سياسي، أو عمل ميداني ضمن استراتيجية إيران الإقليمية، مثل: حزب الله اللبناني والفصائل الشيعية الموجودة بسوريا والمجلس الإسلامي الأعلى والحشد الشعيس بالعراق، وجماعة أنصار الله الحوثية باليمن.
شيعية التمويل المادي، الذين يتكفلون بدعم الفعاليات والأنشطة الدعوية داخل الدول أخرى، سواء بالهبات والتبرعات، أو يدفع أنصبة الزكاه والخُمس، مثل: شيعة الكويت والإمارات وكندا وبريطانيا وألمانيا. شيعية مُعبأة طائفيا، الذين يمكنهم أن يُصبحوا وقودا لأي صراع يمكن أن تكون إيران طرفا فيه، مثل: شيعة باكستان والبحرين وأفغانسان، وربما السعودية في المستقبل.
شيعية المهجر، وهم من أبناء الجاليات الإيرانية وغير الإيرانية، الذين يعيشون بدول أوروبا وأمريكا وكندا.
الشيعة المستبصرة، وهم الذين تم تحويلهم حديثا إلى المذهب الشيعي، وتتمتع إيران بنفوذ معنوي كبير لديهم على نحو يمكن تفعيله لتحقيق أهداف إيران وقت اللزوم. مثل التجمعات التي تكونت ببعض دول شمال وغرب ووسط أفريقيا والقرن الأفريقي ودول آسيا ودول آسيا الوسطى والصغرى والقوقاز.
ثالثا: آليات تصدير الثورة
يتمحور التصدير الاستراتيجي للثورة الإسلامية في الآليات التالية:
1. دعم جماعات الإسلام السياسي:
كان أحد أولويات الثورة الإسلامية، اعتقادا منها أنها الحامل القياسي للإسلام الثوري المناصر لجميع المستضعفين في الأرض، وأن مصير الأمة رهن بمدى قدرتها على التحول إلى قوة عالمية، يمكنها الدفاع عن مصالح هذه الأمة. وبناء عليه، قدمت إيران الدعم لجماعات الإسلام السياسي بالمنطقة، في إطار إعادة صياغة البيئة الإقليمية بطريقة تتجانس مع تصوراتها وأهدافها الاستراتيجية ( ) وبلورة البعد الانتفاضي لـ «الصحوة الإسلامية» لدى هذه الجماعات «المستضعفة» كي تستلهم النموذج الثوري الإيراني وتصوغ منه أهدافا متجانسة؛ لقلب أنظمة الحكم، ومجابهة الحكومات التي ترفض نموذجها الإسلامي في الحكم.( )
وقد بدأت أولى خطواتها في هذا الشأن برسم صورة أيديولوجية برّاقة للثورة الإسلامية، عبر خطاب ثوري، دغدغ وجدان عامة المسلمين، مفاده أن جذور هذه الثورة ممتدة إلى العهد النبوي، الذي لم تحدُّه حدود، أو تكبله قيود للانطلاق نحو العالمية. وأنها «استمرار لنهضة الأنبياء التي لم تقتصر على حيز جغرافي دون آخر؛ فالرسول كان من أبناء الحجاز ومع ذلك لم تقتصر دعوته على منطقة الحجاز ولا على الجزيرة العربية وحدها، بل تعداها إلى العالم أجمع»( ) ولهذا فإن «الثورة الإسلامية هي الومضة الإلهية التي سوف تُحدث انفجارا عظيما في أوساط الشعوب الواقعة تحت نير الظلم والاستبداد، وترتبط ببزوغ فجر ثورة حضرة بقية الله الأعظم»( ) ومن ثم أكد الخميني بقوله: «إننا سنعمل على نشر ديننا في كل الدول الإسلامية، بل في كل مكان يتواجد فيه المستضعفون والمحرومون، وسنأخذ بأيدي الإنسانية على هذا الدرب»( )
وفي المقابل، لقي البريق الأيديولوجي للثورة الإسلامية قبولاً واسعاً لدى جماعات الإسلام السياسي السنية الأوسع انتشارا بالعالم العربي، مثل جماعة الإخوان المسلمين، والجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر وحركة النهضة التونسية. خاصة أن الخطاب الإيراني كان يركز على كونه الثورة الإسلامية هي المشروع الإسلامي الوحيد القادر على حل مشاكل العالم الإسلامي، كما قدم التأصيل الديني لحتمية المواجهة بين «الاستضعاف» و«الاستكبار» على نحو عمق الانفصال الوجداني بين هذه الجماعات «المستضعفة والمحرومة» وبين أنظمة الحكم «الطاغوتية الجائرة».
جماعة الأخوان المسلمين: عبرت مجلة «الدعوة» الناطقة باسم هذه الجماعة، عن موقف التنظيم الدولي من الثورة الإسلامية عبر حوار أجرته مع «أبي الأعلى المودودي» قال فيه إن «ثورة الخميني ثورة إسلامية والقائمون عليها هم جماعة إسلامية وفتية تلقوا التربية في الحركة الإسلامية، وعلى جميع المسلمين عامة والحركات الإسلامية خاصة أن تؤيدها كل التأييد وتتعاون معها في كل المجالات» وفي هذا السياق، شارك «جابر رزق» عن إخوان مصر، ضمن وفد قوامه خمسة أعضاء ممثلا للتنظيم الدولي (مصر وسوريا والسعودية، والأردن) في زيارة لإيران، أكد خلالها هذا الوفد أن الحركات الإسلامية ستظل على عهدها في خدمة الثورة. بينما أكد الخميني في المقابل أن رصيد الثورة الإسلامية ليس في إيران فقط، وإنما في كل دولة إسلامية يتجبر حكامها على الإسلام ويتصدون لتيار حركته.( )
كما وصف التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الثورة الإسلامية بأنها ثورة أبهرت العالم وزلزلت أعداء الإسلام بالشرق والغرب وفرِحَت لها قلوب المؤمنين، كما نفى عنها المذهبية الضيقة، واعتبرها فرعا من الحركة الإسلامية العالمية. خاصة أنها لا تفرق بين سني وشيعي. ثم أن المرشد العام «عمر التلمساني» تبني مسألة التقريب بين المذاهب، وشدد على أن الخلافات الفقهية موجودة بين أهل السنة، مثلما هي موجودة بين السنة والشيعة، ودعا إلى ضرورة عدم استخدام هذه الخلافات لتفريق الأمة
كذلك لقب التنظيم الدولي الخميني بأنه «إمام مسلم لا شك، وفخر للإسلام والمسلمين» وتبنّى موقفا متشددا من الشاه المخلوع؛ وطالب الحكومة المصرية بتسليمه إلى شعبه وقضاته ليطبقوا شرع الله عليه. ثم أصدر بيانا حث فيه جميع الحركات الإسلامية لمؤازرة النظام الإسلامي الوحيد في العالم في صراعه ضد أمريكا. كما ألقى بثقله وراء إيران أثناء حربها ضد العراق، لدرجة أن الإخوان المسلمون وجه بيانات متتابعة تحرض فيها الجيش العراقي على العصيان والتمرد؛ جاء فيها نصا «اقتلوا جلاديكم فقد حانت الفرصة التي ما بعدها فرصة، ألقوا أسلحتكم وانضموا إلى معسكر الثور الإسلامية»( ) لم يقتصر تأثير بريق الثورة الإسلامية على جماعة الإخوان المسلمين فحسب. بل تعداه إلى اليسار الإسلامي المصري، لدرجة أن أحد رموزه «حسن حنفي» كتب بنفسه مقدمة للترجمة العربية لكتاب «الحكومة الإسلامية» للخميني.( )
جماعة الجهاد الإسلامي أثر بريق الثورة الإسلامية على التكتيك السياسي لعدد من الجماعات التي كانت تنتهج العنف والإرهاب، وعلى رأسها جماعة الجهاد الإسلامي، التي عملت على تكثيف تحركاتها بصورة أكبر داخل المجتمع المصري، بصورة أفضت في النهاية إلى اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر عام 1981م، على يد هذه الجماعة، في إطار محاولة القيام بثورة شعبية على غرار الثورة الإيرانية. وقد أدى ذلك بطبعة الحال إلى دحر الحكومة المصرية لهذه الجماعات المتطرفة.
وقد وصفت السلطات الإيرانية مواجهة السلطات المصرية للعمليات الإرهابية التي كانت تقوم بها هذه الجماعات بأنه «نضال بين المسجد والبلاط الفرعوني»( ) كما نشرت ترجمة لمؤلفات كتب «سيد قطب» مثل «في ظلال القرآن» و«معالم في الطريق» وأصدرت كتباً تؤرخ للعلاقة بين الإخوان المسلمين والشيعة، ولا سيما التي ألقت الضوء على زيارة «نواب صفوي» زعيم جماعة «فدائيان اسلام» لمصر، وكيف تأثر بالفكر الحركي لهذه الجماعة. كما أطلقت أسماء «سيد قطب» و«خالد الاسلامبولي» و«الشيخ كشك» على شوارع كبرى بطهران. وعمدت إلى إعطاء ثقل سياسي لبعض القيادات الإسلامية بمصر، عقب انتهاء حربها مع العراق، عندما اشترطت وساطة هذه القيادات في الإفراج عن الأسرى المصريين لديها( )
وفي المقابل، وجهت القاهرة اتهامات رسمية لإيران بالتورط في مساندة أعمال العنف والإرهاب التي تقوم بها الجماعات المتطرفة بمصر، ومحاولة تصدير ثورتها إلى الدول العربية والإسلامية، ثم طردت القائم بالأعمال الإيراني من القاهرة وسحبت نظيره المصري من طهران، عقب اتهام وزير الداخلية لإيران بتمويل وتدريب عناصر أصولية متطرفة.( )
ثم أخذت السلطات المصرية تكشف تباعاً عن ضبط تنظيمات سرية على اتصال تنظيمي بإيران، منها: تنظيم «حزب الله» بمحافظ الإسكندرية، الذي كان أعضاؤه يسعون لتحريض الجماهير للقيام بثورة شعبية. وتنظيم «طلائع الفتح» بمحافظة الشرقية بزعامة الفلسطيني «فتحي عبد العزيز الشقاقي» الذي بلغ تأثره بالثورة الإيرانية أن أصدر كتيبا بعنوان «الخميني الحل البديل» وكان هذا التنظيم مُكلفا بإعادة إحياء تنظيم الجهاد (رقم401/87 أمن دولة عليا)
كما ضبطت السلطات المصرية ثلاثة تنظيمات إرهابية شيعية تدعمها السلطات الإيرانية، هي: تنظيم رقم (341/88 أمن دولة عليا) الذي كان مكلفا بالترويج للمذهب الشيعي وإنشاء الحسينيات والعمل على إنشاء مجلس شيعي أعلى، وإغراق البلاد بالمطبوعات وأشرطة الكاسيت التي تستهدف ترويج الفكر الشيعي وتجنيد مجموعات جديدة. وكان قوام هذا التنظيم أربعة عراقيين من المقيمين بمصر واثنان من الطلبة الكويتيين وثلاث طلاب من البحرين وفلسطين وباكستان( ) وتنظيم (رقم 496/89 أمن دولة عليا) المؤلف من اثنين وخمسين فردا بينهم أربعة خليجيين وإيراني واحد. والتنظيم (رقم 861/96 أمن دولة عليا) والذي ضم أغلب المتهمين في القضايا السابقة بالإضافة إلى «حسن شحاته» إمام مسجد كوبري الجامعة. كما أغلقت السلطات المصرية داري نشر شيعيتان: «البداية» و«البلاغة» اللتان كانتا مكلفتين بنشر كتب المذهب الشيعي في مصر ( )
جبهة الإنقاذ الإسلامية حظيت جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية بدعم إيراني غير محدود؛ وخصّت زعيمها «عباّسي مدني» بزيارةٍ رسمية لطهران، حظي خلالها باستقبالٍ حار، عام 1989م، وشجعته على تكرار سيناريو الثورة الإيرانية بالجزائر، ووعدته بمنح جبهة الإنقاذ خمسة ملايين دولار إذا تمكنت من الوصول إلى السلطة، بعد أن فارزت بالانتخابات البلدية. وقد قابلت السلطات الجزائرية هذا الأمر باعتقال مدني عام 1991م، واستدعاء سفيرها لدى طهران؛ احتجاجا على التدخّل الإيراني في شئونها الداخلية. ثم أطاح انقلاب عسكري، في يناير 1992م، بنتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 ديسمبر 1991م، وحققت فيها الجبهة فوزاً كبيراً، الأمر الذي أدى لااغتيال الرئيس «محمد بو ضياف» بعد أشهر قليلة.
ومن جانبها، اعترضت إيران على اعتقال زعيم جبهة الإنقاذ الإسلامية، وأدانت إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية المذكورة، بوصفه إجهاض لانتصار الإسلاميين. كما أعلنت على لسان آية الله جنتي رئيس مجلس صيانة الدستور، خلال خطبة الجمعة في طهران، سرورها باغتيال «الطاغوت محمد بوضياف» وهو ما اعتبرته الجزائر تصرفاً دنيئاً.( )
وقد كشفت السلطات الجزائرية عن قيام مسئولين إيرانيين بإرسال جزائريين إلى لبنان لتلقي تدريبات شبه عسكرية بمعسكرات حزب الله، كما وجهت اتهاما رسميا لإيران بالتدخل في شئونها ودعمها لجماعات تمارس العنف، عقب فرض حالة الطوارئ. وبتدوير مساعدات مالية ضخمة للحركات الإسلامية المتطرفة في الجزائر وتونس والسودان، خاصة عقب استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد( ). كما شنت الصحافة الجزائرية حملة إعلامية مكثفة ضد ما أسمته بمؤامرة النخبة الثيوقراطية في طهران لزعزعة استقرار الجزائر ومحاولة الاستيلاء، بواسطة عناصر موالية لها، على السلطة. وأنها تنتهج نفس الأسلوب في بقية دول المغرب العربي بل في العالمين العربي والإسلامي. كما اتهمت قيادات شيعية إيرانية بتدبير اجتماعات داخل بعض مساجد المشرق العربي تجمع فيه عناصر متطرفة من لبنان والسعودية والبحرين والسودان والعراق وسوريا؛ وبناء عليه بادرت بطرد سبعة دبلوماسيين إيرانيين، من بينهم الملحق العسكري والثقافي بالسفارة الإيرانية، ثم سحبت سفيرها بعض مساعديه من طهران؛ بعد قيام إيرانيين بمحاصرة السفارة الجزائرية ومنزل السفير الجزائري، ثم قطعت علاقاتها تماماً، في مارس 1993م ( )
حركة الاتجاه الإسلامي/ النهضة: التي احتفت، بزعامة راشد الغنوشي، مثلها مثل الحركات والجماعات الأصولية الأخرى بالثورة الإسلامية في إيران، نظراً لأنها رأت أنها تُمثل نموذجا مُلهماً في استخدام العنف في مواجهة الحكومة التونسية وإسقاطها؛ الأمر الذي دفع السلطات التونسية إلى اتهام إيران عدة مرات في النصف الأول من الثمانينات بدعم «منظمات خمينية» في البلاد. كما كشفت في مرحلة تالية عن أدلة تشير إلى تعاون واتصالات مستمرة بين حركة النهضة والجماعات الأصولية الأخرى وبين إيران، مما شكل أحد دوافع حظر نشاط الحركة عام 1987م، وقطع العلاقات مع إيران. ومع أن هذه العلاقات اُستؤنفت بعد حوالي عام تقريباً، إلا أن بعض المصادر التونسية أشارت إلى أن إيران أجرت اتصالات برجال أعمال شيعة في الخليج لتنفيذ استثمارات في تونس ودول المغرب العربي بهدف دعم الحركات الأصولية فيها وفي دول أفريقيا الإسلامية الأخرى.( )
جبهة الإنقاذ الوطني وصلت علاقة إيران بجبهة الإنقاذ الوطني إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، عشية الانقلاب العسكري الذي قاده عمر حسن البشير، عام 1989م، وقد ساعدت على ذلك: التوجه الأيديولوجي المشترك، والعزلة الخارجية، والضغوط الأمريكية والغربية. فضلاً عن أن السودان كان يمثل لإيران مدخلا مواتيا لتصدير الثورة إلى الدائرة العربية والإفريقية. فقد وصف وزير الدفاع الإيراني «مصطفي محمد نجار» السودان بأنه حجر الزاوية في استراتيجية إيران تجاه القارة الإفريقية. وفي المقابل، رأت جبهة الإنقاذ إيران حليفاً استراتيجياً لها في وقت كان السودان يشهد فيه حصاراً سياسيا واقتصادياً، بعد إدراجه ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب( ) وقد عزز هذا التحالف المخاوف لدى مصر ودول المغرب العربي من تزايد النزعة الإيرانية المعلنة لدعم ومساندة الجماعات المتطرفة في هذه الدول عبر السودان؛ الأمر الذي ألقى بظلال سلبية على علاقات السودان العربية، خاصة مع مصر وتونس والجزائر، إذ شهدت تدهورا غير مسبوق، بلغ حد القطيعة مع تونس بعدما اتهمت الخرطوم بتقديم الدعم لحركة النهضة المحظورة.( )
2. مساندة حركات التحرر:
تمثل آلية مهمة في استراتيجية تصدير الثورة الإسلامية، وجسدتها المواقف والتصريحات الصادرة عن طهران، منذ قيام هذه الثورة. فقد صرح «هاشمي رفسنجاني» 1982م، بقوله: «إننا لن نتراجع عن مواقفنا من الوقوف إلى جانب حركات التحرر والشعوب المستضعفة، لأننا ننتصر دوماً للحق. وتصور الكثيرون خطأ أن الحرب [مع العراق] سوف تقلل من دعمنا للحركات الثورية في أفغانستان وللجماهير المسلمة في المناطق الأخرى من العالم… وكم كان من الممكن أن نسكت عن التدخل الروسي السافر في أفغانستان، ولكننا لم ولن نتنازل عن موقفنا المعلَن سابقا وهو لابد للروس أن يخرجوا من أفغانستان. كذلك الأمر بالنسبة إلى بقية حركات التحرر في أريتريا والفلبين والصحراء الغربية وفلسطين»( )
وسوف نكتفي هنا بإلقاء الضوء على دور إيران في مساندة حركات التحرر بفلسطين وأفغانستان. فلسطين: تعاملت إيران مع القضية الفلسطينية من باب المصلحة، على اعتبار أنها تمثل مدخلا مهما للقيام بدور مؤثر في المنطقة، يمكن استخدامه ورقة ضغط إقليميا ودولية لصالحها. وقد استندت في ذلك إلى ثلاثة محاور تفضي في النهاية إلى تصدير ثورتها إلى الدول العربية وتعزيز مكانتها الإسلامية.
أولا: تفكيك القضية الفلسطينية من ومكوناتها الوطنية وأبعادها العربية، وحصرها في البعد الإسلامي وفق تصوراتها الخاصة، بما يعزز قدرتها على الربط بين تصدير الثورة وبين القضية الفلسطينية. والترويج لقيم الاستضعاف والاستشهاد ولشعاراتها المعادية لإسرائيل، وحشد الفصائل الأصولية الرافضة للسلام حول تصوراتها لإدراة الصراع مع إسرائيل. وقد عبر وزير الخارجية الإيراني الأسبق «على أكبر ولايتي» عن هذا، بقوله: «إننا الدولة الوحيدة من خارج دول الطوق التي تقف على خط المواجهة مع النظام الصهيوني. وقد بادرنا بذلك لأننا نؤمن أن الحل الجذري للقضية الفلسطينية وكل أزمات الشرق الأوسط يكمن في أسلمة القضية … إن النضال ضد الاستكبار العالمي والصهيونية هو نضال طويل وشاق ومعقد ولن ينحصر بعد ذلك في أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية التقليدية؛ لأن هناك بعد آخر هو البعد الثقافي لهذا النضال، الذي لا يقل تأثيره عن هذه الأبعاد. ومن هنا فإن جمهورية إيران الإسلامية سوف تستخدم جميع إمكاناتها في هذا النضال، وتعلن أنها سوف تدعم، وبكل ما أُتيت به من قوة وإمكانيات ووسائل نضال، الشعب الفلسطيني المسلم وحقه المشروع؛ وصولا لعودته إلى أراضيه المحتلة ومحو مغتصبي أراضيه وتدمير النظام الإسرائيلي القائم على التفرقة العنصرية»( )
وقد اعتمدت التصريحات والمواقف الإيرانية في هذا الشأن على تكريس القواسم المشتركة بين ثورتها وبين القضية الفلسطينية، وتأكيد موقفها القائم على أن حلّ القضية الفلسطينية يكمن في إزالة إسرائيل من منطقة الشرق الأوسط. فقد «هاشمي رفسنجاني» بقوله: «نحن لا ننظر إلى القضية الفلسطينية من منظور أننا إيرانيون وهم فلسطينيون لأن الإسلام هو مظلتنا جميعا. ومثلما كنا مستضعفين فهم مستضعفون. وكما كنا نعاني من الاستعمار فهم يعانون منه أيضا». «إننا ننظر إلى إسرائيل على أنها بؤرة للمؤامرات الاستعمارية ضد شعوب المنطقة؛ ومنفذ الإمبريالية فيها، ومن هنا فإننا نرى أن استمرار وجود إسرائيل في المنطقة أمر خطير للغاية. وإننا نقولها كلمة واحدة: يجب أن ترحل إسرائيل عن هذه المنطقة».( )
ثانيا: رفض التسوية السلمية، بدءا من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وصولا إلى المبادرة العربية، مرورا باتفاق أوسلو، ورفض التعامل مع أصحاب مشروعات التسوية السياسية أو التفاوض مع إسرائيل. ومن المعروف أن الخميني كان قد صب لعناته على الرئيس السادات عندما وقع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979م، بقوله: «لعنة الله وعباده الصالحين على تلك اليد التي وقعت معاهدة المساومة مع إسرائيل» وأمر بقطع العلاقات مع مصر. كما هاجم بعنف مشروع السلام الذي كان قد طرحه الملك فهد ابن عبد العزيز عام 1981م، ووصفه بمشروع الإذعان والاعتراف بالمغتصب الإسرائيلي الذي ارتكب المجاز بحق مسلمي فلسطين ولبنان، كما وصف حكام السعودية بأنهم «إما جهلة أو أنهم واقعون تحت التأثير الأمريكي الصهيوني»( )
كما أعلنت إيران رفضها لاتفاقية الحكم الذاتي المعروفة باتفاقية غزة أريحا، ولمعاهدة وادي عربة عام 1994م( ) ولمبادرة السلام التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2002م، وعارضت جميع مؤتمرات السلام الدولية التي عقدت في هذا الشأن. خاصة مؤتمر شرم الشيخ الذي عُقد عام 1996م، بحضور تسع وثلاثين دولة.( ) الذي شنت عليه حملة إعلامية ضارية، لدرجة أن صحيفة «كيهان» المقربة من مكتب المرشد الأعلى للثورة وصفته بـ«مؤتمر الخيانة الذي يُعقد في إطار تحقيق الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، والذي لم يحظ بتأييد الاخوان المسلمين ولا سوريا ولا لبنان».( )
ثالثا: دعم الفصائل الإسلامية التي ترى طهران أنها ممثلة لمشروع الجهاد، وفق رؤيتها الخاصة وتصوراتها الاستراتيجية. وعلى رأسها «الجهاد الإسلامي» التي أسسها فتحي الشقاقي صاحب كتيب «الخميني الحل الإسلامي والبديل» عام 1984م، و«حركة حماس» التي تأسست عام 1988م( ) واللتان اعترفتا بتأثير الفكر الثوري الإيراني عليهما؛ لأنه «الفكر الذي شكَّل من القضية الفلسطينية قضية المستضعفين الأولى في الأساس والمنطلق» كما لم تنكرا إعجابهما بالنموذج الثوري الإيراني، ولم تُخفيا تلقيمها الدعم المادي والمعنوي من إيران؛ ولهذا هرولت حماس والجهاد نحوها لأنها «تمتلك بيئة داعمة ومؤيدة للقضية الفلسطينية» ( )
أفغانستان: تشترك مع إيران في حدود جغرافية تبلغ 940 كيلومتر، وتمثل مجالا حيويا للأمن القومي الإيراني، وحجر الزاوية في استراتيجيتها للتمدد شرقا نحو باكستان والهند والصين، وشمالا نحو جمهوريات آسيا الوسطى، ولا سيما طاجيكستان.
وقد أدت إيران دورا بارزاً في مساندة فصائل الجهاد الأفغاني منذ الغزو السوفييتي، عام 1979م، وحتى بعد انسحابه في فبراير عام 1989م، كما نجحت في وضع الفصائل الشيعة الموالية لها على خارطة مقاومة هذا الغزو مثل: «نصر» و«رعد» و«جيل الحضرة» و«حزب الله» و«منظمة الشعب الكادح» التي تلقت جميعا مساعدات عسكرية ودعما ماليا سخية منها ( ).
وعلى الرغم من هذا، تسبب استبعاد إيران من الترتيبات السياسية بأفغانستان، بعد انسحاب القوات السوفييتية، في إثارة قلقها، على نحو جعلها تعارض حكومة المجاهدين الانتقالية التي تشكلت في 24 فبراير 1989م، برئاسة «صبغة الله مجددي» والتقارب مع الرئيس «نجيب الله» الذي أسقطه المجاهدون نظامه. وبالتالي انتهزت إيران فرصة صراع المجاهدين السنة على السلطة لتعزز قدرة الفصائل الشيعية ومكانتهم داخل الدولة الأفغانية( ) ثم لم ترى غضاضة في مساندة الحرس الثوري للقوات الأمريكية للقضاء على نظام «طالبان» عام 2001م، لتجني مكاسب عدة أهمها: المشاركة في «مؤتمر بون» للمصالحة بين الفصائل الأفغانية ورسم مستقبل أفغانستان، في نوفمبر 2001م، وتمكين قبائل «الهزارة» الشيعية من السيطرة على مدينة «هراه» على الحدود المشتركة بين البلدين، والسيطرة على الأحياء الشيعية بكابل ( )
ثم تمكين الأقلية الشيعية من الحصول على أول اعتراف رسمي بها، بموجب الدستور الجديد، والتمثيل النيابي والحصول على مناصب بالسلطة التنفيذية.( ) كما أصبحت الأحزاب الشيعية ذات صفة رسمية، على الرغم من ضعفها مقارنة بمثيلتها السنية، مثل «الوحدة» و«حركة نصر» و«حركة الشورى والاتفاق» و«حرس الجهاد» و«الحركة الإسلامية» و«حزب الله« ( )
3. تصدير أعمال العنف والإرهاب:
نهضت بهذه الآلية أجهزة الأمن الإيرانية المختلفة لتحقيق عدد من الأهداف، أهمها:
أولا: تصفية عناصر المعارضة بالخارج، إذ نجحت، على سبيل المثال وليس الحصر، في تصفية كل من: «علي أكبر طباطبائی» الملحق الصحفي بالسفارة الإيرانية بواشنطن زمن الشاه، عام 1980م، و«شهريار شفيق» نجل الأميرة أشرف بهلوي، عام ۱۹۸۱م، والفريق «غلامعلی اويسی» عام 1984م، ورئيس الوزراء الأسبق «شابور بختيار» عام 1991م( ) فضلا عن تصفية بعض من رموز المعارضة الكردية بأحد مطاعم مدينة «میکونوس» عام 1992م، التي راح ضحيتها كل من «صادق شرفکندی» أمين عام الحزب الديمقراطي الكردي و«همايون اردلان» مدير مكتب الحزب بألمانيا، و«فتّاح عبدلی» عضو الحزب وممثلة بأوريا، و«نوری دهکردی» موظف الصليب الأحمر والناشط في مجال رعاية اللاجئين الإيرانيين بألمانيا.( )
ثانيا: الانتقام من أعداء النظام الإيراني، من خلال تنفيذ مجموعة من العمليات الانتحارية، مثل تفجير مقر السفارة العراقية في بيروت في 15 ديسمبر 1981م، بواسطة عناصر من حزب الدعوة الشيعي، والذي راح ضحيته السفير العراقي و61 شخصاً وجرح 110 آخرون( ) وتفجير مقر السفارة الأمريكية في بيروت، على يد عناصر حزب الله، في 18 أبريل 1983م، والذي أودى بحياة 63 شخصا ( ) واستهداف مبنى قوات المارينز الأمريكية في بيروت أيضا، والذي أودى بحياة 241 جنديا، ومعسكر قوات النخبة الفرنسية، الذي أودى أيضا بحياة 58 جنديا، فضلا عن ستة مدنيين واثنين من المهاجمين. بالإضافة إلى 75 جريحا، في 23 أكتوبر 1983م، فضلا عن تفجير مبنى السفارة الإسرائيلية والمركز الثقافي اليهودي في بيونس آيرس في الأرجنتين، الذي أدى إلى مقتل حوالي مئة يهودي في 17 مارس 1992م.( )
ثالثا: تهديد استقرار دول الخليج العربي، الذي بدأته عشية قيام الثورة الإسلامية، باتهام حكومات دول الخليج العربية باضطهاد الطائفة الشيعية الموجودة لديها ( ). كما تعالت مزاعمها بأن البحرين جزء لا يتجزأ من من أراضيها؛ بدعوى أن البرلمان الذي سبق وقرر التخلي عن حق إيران في البحرين كان برلماناً غير شرعي؛ لأنه اتخذ قراره هذا في ظل حكومة الشاه. وأن البحرين ستظل الإقليم الرابع عشر لإيران لحين اتخاذ البرلمان الجديد قراراً مغايرا ( ) ثم تطور السلوك الإيراني حيال البحرين إلى محاولات التهديد المستمر لاستقرارها، من خلا تأسيس ودعم تنظيمات شيعية تتبنى أعمال العنف والتخريب وتعمل على قلب نظام الحكم، مثل «الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين» و«حركة أحرار البحرين» والتي حاولت إسقاط حكم آل خليفة في 31 ديسمبر 1980م، ناهيك عن بث إذاعة موجهة هي إذاعة «تحرير البحرين والجزيرة» من طهران ( )
كذلك أسست منظمات إرهابية مماثلة بالكويت مثل «حزب الله الكويتي» الذي انبثقت عنه تنظيمات إرهابية أخرى مثل «صوت الشعب الكويتي الحر» و«حزب الدعوة «و«قوات المنظمة الثورية في الكويت» و«طلائع تغيير النظام للجمهورية الكويتية» التي تورطت جميعها في عمليات العنف والتخريب. من أشهرها محاولة تفجير موكب أمير الكويت الشيخ «جابر الصباح» في 25 مايو1985م، وعمليات تفجير وخطف الطائرات، التي أضرت بالمجتمع الكويتي. ناهيك عن قصف القوات الإيرانية إحدى النقاط الحدودية وبعض منشآت النفط الكويتية أثناء حربها مع العراق ( ).
وقد امتد خطر الإرهاب الإيراني إلى السعودية، سواء عبر إرسال متفجرات مع الحجاج الإيرانيين مثلما حدث أثناء موسم الحج 1986م، أو من خلال دفع هؤلاء الحجاج إلى ممارسة أعمال العنف مثلما حدث أثناء موسم الحج في عام 1987م ( ) وقد تزامنت هذه الأعمال الإجرامية مع حملة دعائية مُخططة طالبت فيها إيران بسحب إشراف السعودية على المقدسات الإسلامية بمكة والمدينة وإيلاء مسئوليتها لمجموعة من ممثلي الأمم الإسلامية ( ) كما امتد إلى العراق أيضا، بتحريض شيعية العراق للقيام بانتقاضة مسلحة بالجنوب، عام 1991م، ليكون كل هذا بمثابة الخطوة الأولي في مشروع إيران للهيمنة على المنطقة العربية كلها. خاصة أن الأعمال التي تورطت فيها بالدول العربية وغيرها كانت تُمثل تدخلاً غير مسبوق أو مبرر منها في الشئون الداخلية وتهديدا للاستقرار الإقليمي والدولي. وبالتالي وجهت كل من مصر والجزائر والأردن وتونس ولبنان والصومال وتركيا وأفغانستان والبوسنه والأرجنتين، لإيران اتهامات رسمية، عام 1992م، برعاية الإرهاب. ( ).
4. بناء سياج طائفي حول إيران:
تعد عملية بناء سياج طائفي داخل الجوار الجغرافي المحيط بإيران، جوهراً ثابتا في استراتيجية الحفاظ على بقاء نظام الثورة الإسلامية، وتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية والأمنية والأيديولوجية. وقد اعتمدت إيران على تضافر جهود شبكة واسعة من المؤسسات والأجهزة المعنية لاختراق جدار الرفض العربي والإسلامي لنظامها الطائفي. كما اعتمدت على استقطاب الطوائف الشيعية، مع ربطهم بقضايا أوطانهم التي تتعلق بتحرير أرض أو دفع عدوان خارجي، كي يثبتوا أمام أبناء وطنهم أنهم جزء أصيل منها، ويدرأون عن أنفسهم أي اتهام قد يُوجه إليهم بالولاء لإيران. عندئذ يمثلون رصيدا جماهيريا لمواقفها السياسية، بوصفها النظام الوحيد الداعم للمستضعفين والمقاوم للاستكبار. وقد استهدفت إيران من هذه الآلية الطائفية بطبيعتها والعدوانية بوسائلها والتوسعية في غاياتها، تحقيق الأهداف التالية
خلق عمق استراتيجي لها بمنطقة الشرق الأوسط لحماية أمنها القومي وتعظيم مصالحها الإقليمية. عبر تكوين قواعد جماهيرية مساندة لمواقفها السياسية، وفصائل شيعية مسلحة لخوض أي صراع نيابة عنها بالمنطقة. ومن ثم نجحت في تأسيس حزب الله اللبناني والفصائل والجماعات الشيعية المسلحة في العراق. ثم المليشيات التابعة لها بسوريا واليمن بعد ذلك.
نقل أي صراع محتمل مع أي طرف عربي، بعيدا عن الأراضي الإيرانية؛ منعا لتكرار تجربة حرب الثماني سنوات مع العراق.
تعزيز نفوذها السياسي والمذهبي داخل المجتمع الأفغاني والباكستاني، وتكوين شبكة واسعة من المقاتلين الشيعة، يمكن أن تقاتل لصالح إيران حال نشوب أي صراع بمنطقة الشرق الأوسط.
5. فتح آفاق دعوية في أفريقيا:
وهي الآلية التي تعتمدها إيران في دائرة الشيعة حديثة النشأة، لاستقطاب المؤسسات والجمعيات والإسلامية وجماعات الإسلام السياسي المتعاطفة مع إيران، والتجمعات الجماهيرية المستضعفة، مسيحية كانت أم مسلمة. كما تهتم أيضا بالمثقفين وزعماء القبائل المحليين وأصحاب الحضور الفاعل في وسائل الاتصال الجماهيري. وتعول إيران على أفريقيا عامة وعلى منطقة القرن الإفريقي خاصة لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والأمنية والأيديولوجية، ومحاولة خلق وجود بحري مؤثر لها بمنطقة باب المندب يمكن أن يجعل وصولها سهلا إلى ساحات المواجهة المركزية في الشرق الأوسط، كأن يمكنها مثلا تهريب الأسلحة والعناصر الإرهابية إلى قطاع، غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس، من السودان عبر الأراضي المصرية، وإلى اليمن عبر أريتريا والصومال وجيبوتي( )
تتولى شبكة المراكز الثقافية الإيرانية الموجودة في نيجيريا وكينيا وأوغندا وزامبيا وتنزانيا وأثيوبيا وزيمبابوي والسنغال وسيراليون وجنوب أفريقيا والسودان (أغلقت) والجزائر (أغلقت) وتونس، وغانا، مهمة تحقيق أهداف إيران الأيديولوجية في القارة كلها. إلى جانب المهام التي تتولى مسئولية تنفيذها: رابطة الثقافة والاتصال الإسلامية، وجامعه المصطفي العالمية، ومركز أهل البيت العالمي ومجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، ومنظمة الحوزات والمدارس العلمية بالخارج، ومؤسسة دار الهدى للنشر والتوزيع، وجامعة الإمام الخميني الدولية، ومكتب نشر آثار الإمام الخميني، ثم وزارة العلوم والبحث العلمي والتكنولوجيا، التي نجحت في نشر علم الإيرانيات وتأسيس كراسي تدريس اللغة الفارسية، واستقطاب أساتذة اللغة من القارة الأفريقية. إضافة إلى مكتب تمثيل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون بدولة جنوب أفريقيا، ومكاتب تمثيل الفقهاء الشيعة. وتتكامل جهود هذه المؤسسات جميعا نحو تحقيق عدد من الأهداف، التي تتلخص في( ):
1. العمل على إدماج الأقلية الشيعة بالمجتمعات التي يعيشون فيها.
2. الترويج للثورة الإسلامية بوصفها النموذج الملهم للجماهير الإفريقية في التعايش السلمي.
3. نشر الثقافة الإيرانية المذهب الشيعي بين مسلمي القارة.
4. ترسيخ الاعتقاد بالصحوة الإسلامية الشيعية، بالتزامن مع تشكيل فصائل مقاومة شيعية محلية.
5. الاستفادة من طاقة الديانات السماوية الأخرى الثقافية والحضارية في نشر المعتقدات الشيعية.
6. تكوين جيل أفريقي موال لإيران عبر تعزيز العلاقة مع الجامعات ومراكز التعليم العالي الأفريقية، وتوفير المنح الدراسية للطلاب الأفارقة للدراسة بالجامعات والمدراس الإيرانية والحوزات العلمية
7. تفعيل المواجهة الناعمة مع الاتجاهات المعادية لإيران داخل بعض دول القارة.
8. ربط الشيعة الأفارقة وجماعات الإسلام السياسي والجماعات الصوفية بالمراكز الإيرانية العاملة بإفريقيا.
وقد ساعد إيران على تحقيق أهدافها بأفريقيا انتشار الطرق الصوفية، فعززت علاقاتها بأقطابها بما لهم من تأثير بين مريديهم، ووجود الأقليَّات العرقية، فبنت علاقات قوية مع بعضها من باب دعم المستضعفين، واستمالت بعض زعماء القبائل وذوي النفوذ المحليين ( )بالهدايا وتقديم المنح الدراسية لأبنائهم. ناهيك عن وجود المهاجرين الشيعة من اللبنانيين والبلوش والشيرازيين والشيعة الاسماعيلية ببعض المجتمعات الإفريقية وقد تبلورت المساعي الإيرانية بهذا الشأن في عدة مسارات، منها ما يلي:
مسعر تعليمي، إذ أبرمت اتفاقيات مع الجامعات ومؤسسات التراث الثقافي الأفريقي لحفظ وحماية وفهرسة النسخ الخطية وتأسيس كراسي تدريس اللغة الفارسية وآدابها. إلى جانب عقد دورات مستمرة في تنمية مهارات الحاسب الآلي، ومحو الامية، وذلك على النحو الذي حدث في سيراليون وغانا( ).
مسار ثقافي، عبر عقد دورات تعليم اللغة الفارسية وتأسيس مكتبات شاملة باللغات المحلية الأفريقية مزودة بكتب تعليم اللغة الفارسية والمراجع الشيعية والتاريخية المختلفة، ودورات تنمية المهارات الفنية والأشغال اليدوية، وإقامة الندوات والفعاليات الثقافية، مثل معارض القرآن، والرسم وفنون الخط والنحت والتصوير الضوئية، والتروج للمواقع التاريخية والمزارات الدينية الإيرانية. فضلا عن إقامة أسبوع الفيلم الإيراني، والأسابيع الثقافية التي تروج للثقافة والفنون والآداب الإيرانية، والتي تمثل فرصة مواتية لتعارف النخب الأفريقية والإيرانية، بما يعكس الوجه المذهبي والثقافي المتسامح لإيران.
مسار إعلامي، عبر تزويد وسائل الإعلام الإفريقية؛ بالمطبوعات المختلفة التي تعرف بحضارة إيران وثقافتها وعقيدتها الشيعية. والتعاون الفني والتقني مع مؤسسات الإذاعة والتلفزيون الأفريقية، وإنشاء مواقع ثقافية متخصصة على شبكة المعلومات الدولية باللغات المحلية بغرض الارتقاء بالمستوى الثقافي والمعرفي للقضاء على الخرافات المحلية المنتشرة بين المسلمين، مثل السحر والشعوذة. إضافة إلى عقد الندوات والفعاليات المختلفة بالتعاون مع وسائل الإعلام المحلية لاستعراض منجزات الثورة الإيرانية.
مسار خدمي، والذي تتكامل فيه جهود مؤسسة المستضعفين ( ) ومؤسسة جهاد البناء وهيئة الامام الخميني للإغاثة( ) ومؤسسة الشهيد( ) وجمعية الهلال الأحمر، التي نجحت جميعا في تقديم خدماتها لبعض الدول. مثل الخدمات الطبية والعلاجية، فأنشأت عدد من المستشفيات والمستوصفات والمراكز والعيادات الطبية بالكونغو، وزيمبابوي وزامبيا وساحل العاج وتنزانيا والصومال. وعقدت دورات تدريبية تدريبية لأطباء من مالي والصومال وسيراليون والنيجر. وأرسلت شحنات أدوية للسودان والنيجر والصومال. ناهيك عن تأسيس فرع لهيئة الامام الخميني للإغاثة بجزر القمر، وافتتاح مكتب لجهاد الزراعة بالعاصمة الجامبية بانجول، الذي قدم خدماته أيضا لسيراليون وغانا، تمثلت في حفر آبار مياه الشرب الري والارتقاء بالحرف القروية. وتنفيذ بعض المشروعات التنموية في كل من: غانا والسودان وسيراليون زيمبابوي وتانزانيا، مثل شق الطرق وتشييد الجسور والمساكن والمدارس المتاجر والأسواق ومحطات الكهرباء ومد خطوط المياه. فضلا عن إقامة مصنع لإنتاج السيارات بالسنغال، وتقديم منح وقروض بفائدة بسيطة للشركات المحلية ( )
مسار مذهبي، إذ نجحت جهود منظمة الحوزات والمدارس العلمية في نشر القيم والتعاليم الشيعية، وإعداد وتأهيل دعاه محليين، وتأسيس المدارس والحسينيات المعلنة بتسع عشرة دولة أفريقية، منها كينيا وأثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ونيجيريا، وجنوب أفريقيا وساحل العاج، وسيراليون وغانا. فضلا عن الحسينيات التي تُدار سرا بمصر والجزائر وتونس والمغرب والسنغال. وقد أثمرت هذه الجهود في خلق قواعد شيعية محلية موالية لها ببعض الدول الأفريقية، منها «جماعة الحركة الإسلامية» أو «إخوان نيجيريا» بزعامة «إبراهيم زكزاكي» المنتشرة بولايات الشمال النيجيري، ولا سيما في «كانو» و«كادونا» و«زاريا» والتي تنهض بتجنيد أعضائها من خريجي جامعات «أحمدو بللو» و«عثمان دان فوديو» بشمال نيجيريا. كما نجحت في تجنيد جاليات شيعية مقيمة ببعض الدول الأفريقية، مثل ساحل العاج للمساهمة في نشر المذهب الشيعي.( ).
6. خلق كيانات شيعية متماسكة
انتهجت إيران خطى عملية لخلق كيانات شيعية متماسكة ومنظمة داخل الدول الإسلامية السنية وغير الإسلامية، لجمع المتشيعين الجدد «المستبصرين» وربطهم فقهيا بمراجع الحوزة العلمية الإيرانية وسياسيا بالولي الفقيه بوصفه المرشد الروحي الأعلى لعموم شيعة العالم. كما سعت لترميم الأضرحة المزارات الشيعية في أي بلد، وترسيخ إيمان الجاليات الشيعية بالمهجر. وسنكتفي هنا ببعض من الأمثلة على ذلك كما يلي:
أولا: تأسيس المجالس الشيعية العليا على غرار المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الذي أسسه «موسى الصدر» في لبنان عام 1967م، لتنظيم شؤون الطائفة والارتقاء بمستواها الاجتماعي والاقتصادي، والاضطلاع بدور فاعل في نشر المذهب الشيعي، والترويج لقيمه الفكرية والسياسية والاجتماعية، داخل المحيط الاجتماعي الأكبر. وتختلف مهمة هذه المجالس من دائرة اهتمام إيرانية إلى أخرى، حسب المناخ السياسي والثقافي السائدة داخل الدول الواقعة بهذه الدوائر، فالمجالس الشيعية بمنطقة الشرق الأوسط مثلا تختلف في آليات عملها عن نظيرتها الموجودة بآسيا وأفريقيا. والتي نذكر بعضا منها بإيجاز على النحو التالي
المجلس الشيعي الأعلى في فلسطين: عبارة عن محاولة قام بها فلسطيني يُدعى «محمد غوانمة» على الرغم من عدم وجود طائفة شيعية معروفة بالأراضي الفلسطينية. عندما أعلن تأسيس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في فلسطين» بوصفه «امتدادا للإسلام العظيم «في إيران التي تعد ركيزة المشروع الإسلامي العالمي. وقد أكد «غوانمة» أن هذا المجلس هو «مشروع اسلامي دعوي» سيعمل في إطار «دولة فلسطين حكومة ورئاسة شعبا”( ) وأن هدف دعوته ديني سياسي سلمي يصب في خدمة المشروع الوطني لإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. كما قال: «نريد من خلال تأسيس هذا المجلس أن نوجد غطاء للشعب الفلسطيني لفتح قنوات جديدة لمساعدة شعبنا، وأن تأسيس هذا المجلس من شأنه توثيق العلاقات بين الشعبين الفلسطيني والعراقي، إضافة للإخوة في إيران. وأن المجلس الشيعي في فلسطين هو امتداد للمشروع الإسلامي، الذي سبقنا إليه الإخوة في مصر في تأسيس المذهب الجعفري»( ) وعلى الرغم من ذلك أعلن غوانمة، بعد أسابيع قليلة، عن تراجعه عن تشكيل هذا المجلس، بقوله «لا وجود لمثل هذا المجلس بعد اليوم، وأنه لا علاقة له بالطائفة الشيعية وأنه يبرأ من هذه الفكرة، رافضا الإفصاح عن أسبابه»( ).
المجلس الشيعي الأعلى في الكويت، عبارة عن محاولة أخرى أعلن عنها نائب بالبرلمان الكويتي يدعى «عبد الحميد دشتي» في أغسطس 2013م، عندما أعلن نيته الإعداد للجنة التحضيرية التأسيسية لتكون نواة لهذا المجلس. مشيرًا إلى أن «مقر المجلس المؤقت سيكون في ديوانيته وأنه مستعد للانتقال لأي مكان يخصصه أي من الخيرين لهذا العمل، وعندها سوف يقوم بتسليم إدارة المجلس لمن يتم اختيارهم، متعهداً ألا يكون له أي دور فيه سوى أن يكون خادما له( ).
المجلس الأعلى لرعاية آل البيت في مصر، أسسه شخص يدعى «محمد الدريني» وأصدر له صحيفة بعنوان «صوت آل البيت» بهدف نشر المذهب الشيعي بين الأشراف ورجال الطرق الصوفية في الصعيد وشبه جزيرة سيناء. ويمارس هذا المجلس نشاطه تحت غطاء العمل الاجتماعي، مثل رعاية مصالح الأشراف، وإعانة المحتاجين الفقراء ورعاية الأيتام، وتحفيظ القرآن الكريم. وتقدم «جمعية الحوراء الخيرية» التابعة له دورات تدريبية لتنمية مهارات الحاسب الآلي، إضافة إلى عقد الندوات والمؤتمرات وتنظيم الرحلات وإصدار المطبوعات التربيوة للنشء. والعمل على إحياء فكرة التقريب بين المذاهب، وإقامة الفعاليات المذهبية التي من شأنها ترسيخ مكانة أهل البيت، وفقا للرؤية الشيعية، في الوعي الجمعي المصري. إلى جانب الترويج لمشروع إحياء مسار آل البيت بمصر، أسوة بإحياء مسار العائلة المقدسة؛ بوصفه مدخلا لتوافد شيعة العالم على مصر، وتوفير مصدر تمويل انشر المذهب الشيعي. ثم أضاف المجلس الأعلى لرعاية آل البيت بُعدا سياسيا لتحركاته المذهبية، عندما تبنى دعوة لاستعادة منطقة أم الرشراش، بزعم أنها محتلة من إسرائيل. كما نجح في كسب تعاطف عدد من أشراف سيناء للانضواء تحت لوائه، خاصة أنه عقد احتفالا لهذا الغرض بمنطقة يزعم أنها «مخشع الإمام على» بطور سيناء. ( ).
ثانيا: ترميم الأضرحة والمزارات الشيعية بهدف ترسيخ الجذور التاريخية وتأصيل الممارسات المذهبية، بما يعزز من قبول الأقلية الشيعية داخل المجتمعات المختلفة. وتضطلع بذلك لجنة رسمية إيرانية تُسمى «اللجنة العالمية لحفظ التراث الشيعي» وتُعنى بالمهام التالية:
1. البحث عن الأضرحة والمزارات والمساجد والحسينيات المعرضة للاندثار، لاسما الموجودة في كل من العراق وسوريا واليمن وأفغانستان وعُمان وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية وشرق أفريقيا، وتسجيلها. ومن ثم العمل على ترميمها وتحويلها إلى مزارا ديني ومقصد سياحي لشيعة العالم.
2. جمع وتصنيف وفهرسة جميع الكتب والمخطوطات والوثائق والمطبوعات التي تتناول الموضوعات المتعلقة بتاريخ الشيعة، ومؤلفات الرحالة والدعاة والمهاجرين الإيرانيين بالعالم، ومن ثم العمل على طباعتها.
3. تشجيع الباحثين وطلاب الدراسات العليا في العالم على إجراء بحوث ودراسات علمية حول التراث الشيعي والرموز الشيعية، ومن ثم إلقاء الضوء عليهم إعلامياً، بوصفهم نماذج تُحتذى للباحثين.( )
ثالثا: نمذجة المستبصرين والمتعاطفين، إذ تبذل المؤسسات الإيرانية المعنية جهودها للتعرف على المتشيعين الجدد أو «المستبصرين» وإبراز تجاربهم الشخصية في التحول إلى المذهب الشيعي. فضلا عن متابعة جهودهم في نشر التشيع داخل مجتمعاتهم، وتحويلهم إلى نماذج تُحتذى في هذا الشأن، من خلال تدوين سيرهم الذاتية، ونشر مؤلفاتهم بعدد من اللغات الأخرى، للترويج لتجاربهم الحية في التحول إلى المذهب الشيعي. فضلا عن التعرف على كل من أبدى تعاطفه مع النوذج الإسلامي الإيراني، لتصنع منهم نماذج تُحتذى من شأنها كسب المزيد من المتعاطفين إليها. ( )
رابعا: ترسيخ العقيدة لدى شيعة المهجر، من أبناء الجاليات الإيرانية المقيمين بالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وأبناء الجاليات الشيعية الأخرى، بل ومن تحولوا حديثا إلى المذهب الشيعي. وتضطلع بهذه المهمة المؤسسات الشيعية المختلفة، سواء التابعة للحوزة العلمية بقم أو في النجف، والتي تتكامل جهودها في مع مؤسسة الإمام علي لترسيخ العقيدة المذهبية لدى الجاليات الشيعية المختلفة، وتوفير الخدمات الثقافية والتعليمية والاجتماعية والتعليمية لهم. فضلا عن المسئولية الدعوية بوصفها المهمة الأساسية لهذه المؤسسات التي أنشأها الشيعة داخل هذه الدول المتقدمة ( ) إذ تقوم على سبيل المثال «مؤسسة الإمام علي» التي أُنشئت في لندن عام 1994م من خلال خمسين فرعا ومركز ومدرسة وحسينية تابعة لها في اثنتي عشرة دولة أوربية، بثلاث مهام رئيسية، تتكامل في تحقيق أهدافها مع جهود المؤسسات الإيرانية التي تنهض بالدعوة للمذهب الشيعي في الخارج، خاصة أن لها مكاتب في قم، ومشهد، وطهــران. وتقدم رعاية لأبناء الجاليات الشيعية مثل تعليم اللغة العربية والقران الكريم بالإضافة الى المواد التربوية والدينية، والإجابة على تساؤلاتهم الدينية، فضلا عن إبرام عقود الزواج والطلاق وحل الخلافات بين أفراد الجالية، وتزويدهم بالوثائق والمحررات التي يحتاجونها إليها في جميع شؤون حياتهم، وإقامة المناسبات الاجتماعية الخاصة بهم. إضافة إلى ترجمة وتوزيع الكتب الدينية والمطبوعات المتعلقة بفكر ومنهج المذهب الشيعي وتوزيعها بجميع أنحاء العالم، وإيفاد الدعاة والخطباء إلى المراكز الأخرى بالدول الأوربية والأمريكية؛ للتعريف بتعاليم المذهب الشيعي وقيمه الخاصة. إضافة إلى توفير التغطية الإعلامية لجميع الفعاليات المذهبية ورفع جميع الكتب والمقالات والبيانات والإعلانات على الموقع الإليكترونية، وإجراء الدراسات والبحوث المتعلقة بمقارنة الاديان، والتقريب بين المذاهب. ( )
الخاتمة
1. حققت الثورة الإيرانية أضخم إحياء شيعي، منذ قيام الدولة الصفوية، وفضت ازدواجية الولاء بين السلطتين الدينية والسياسية.
2. جعلت الثورة الإيرانية من الإسلام في قراءته الشيعية وتفسيره الراديكالي مكوناً جوهرياً لهياكل الدولة ومؤسساتها ولبنية المجتمع الإيراني ومؤسساته المختلفة، ورسم توجهاتها الخارجةي. على نحو أدى إلى تمدد نفوذها الخارجي على المستويين المذهبي السياسي
3. قدمت الثورة الإيرانية مجموعة من القيم الخاصة التي صاغت هويتها الدينية، وجعلت منها معياراً للحكم على مدى الولاء لها والاستجابة لأهدافها. ومثلت في نفس الوقت غطاء لتغلغلها خارجيا.
4. اعتمدت إيران استراتيجية متعددة الأبعاد في الترويج لقيمها الدينية والسياسية؛ كي تصبح مركزاً لتغيير الانتماءات السياسية والأيديولوجية لدى شعوب العالم الإسلامي
5. اضطلعت مجموعة من المؤسسات بتنظيم مكونات التصدير الاستراتيجي للثورة بدوائر الاهتمام الإيرانية.
6. استخدمت إيران شعارات ذات شحن معنوي؛ بغرض استقطاب الرأي العام الإسلامي والتأثير عليه، ومن ثم واستدراجه إلى نقطة التماهي مع أهدافها السياسية وتصوراتها الاستراتيجية.
7. انصبت جهود إيران على بناء صورة ذهنية مثالية عن ثورتها لدى المستضعفين في الأرض، ومن ثم إعادة ترتيب أولويات اهتماماتهم لصالح استراتيجيتها.
8. قدمت إيران تفسيرات لواقع المستضعفين الاجتماعي والسياسي والديني، على نحو خلق لديهم انطباعات وأحكام، أسسوا بها معان وأنساق معرفية مشتركة مع الثورة الإسلامية، مؤداها النهائي إما تماهي هؤلاء المستضعفين مع الأهداف الإيرانية.
9. اعتمد تصدير المذهبي الشيعي على مكونات ثقافية، ودعوية، وتعليمية، وإعلامية.
10. اختلفت آليات تصدير الثورة الإيرانية، من دائرة إلى أخرى، وفقا للتصنيف النوعي للأقلية الشيعية ولطبيعة البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشون فيها، وطبيعة الهدف الذي ستحققه إيران.
11. تميزت آليات تصدير المذهب الشيعي بتعدد أبعادها، وتنوع أهدافها، وطائفية طبيعتها، وعدوانية وسائلها، وتوسعية غاياتها.
12. تحركت الاستراتيجية الإيرانية في ثلاث دوائر، هي: دائرة المحيط الجغرافي، والجوار الجغرافي، ودائرة الشيعة حديثة النشأة
13. سوف تسهم إيران في تحويل المليشيات الطائفية التي كونتها بالعراق واليمن وسوريا، في المستقبل، إلى أحزاب سياسية، يمكن أن تشكل من خلالها مستقبل هذه الدول السياسي وتضع عروبته على المحك.