الرئيسية » الدراسات » البحر الأحمر بين السياسة والقانون الدولي

البحر الأحمر بين السياسة والقانون الدولي

بواسطة :

بين القانون الدولي والسياسة
اعتمدت اتفاقية جنيف، عام ١٩٥٨م، لمجمع القانون الدولي حكم محكمة العدل الدولية في قضية مضيق «كورفو» (Corfu) عام ١٩٤٩م، بين بريطانيا وألبانيا، وأقرت في حكمها مبدأ حرية الملاحة في المضايق الدولية. ثم تطور النظام القانوني للمضايق البحرية الدولية، في ظل مؤتمر الأمم المتحدة لقانون البحار، عام ۱۹۸۲م، ليميز بين ثلاث أنواع من المضايق المستخدمة في الملاحة الدولية، هي:
الأول: المضايق، التي ينظم المرور فيها اتفاقيات خاصة، ولا تخضع لأحكام اتفاقية قانون البحار لعام ۱۹۸۲م
الثاني: الاتفاقيات، التي يطبق فيها نظام المرور العابر. واعتبرت أن المقصود بالمرور العابر هو نظام وسط بين المرور البريء والمرور الحر، وهو الذي تمارسه السفن في أعالي البحار.
الثالث: المضايق التي ينطبق عليها المرور البريء حيث يكون المضيق جزءا من البحر الإقليمي، أو منطقة اقتصادية خالصة. ولا يجوز للدولة أن توقف حق المرور البريء في المضيق. وينطبق عليها حق تحليق الطائرات، وقاعدة مرور الغواصات طافية على السطح ورافعة اعلامها (تنطبق هذه القاعدة القانونية على معظم المضايق الدولية الصالحة للملاحة ومنها مضيق باب المندب).
وقد تزايد التنافس الدولي، خلال السنوات الماضية، حول مناطق المضايق الرئيسية الثلاث التي تحكم التجارة والصراع العالمي، وهي «باب المندب» و«هرمز» و«ملقا» وذلك بسبب التحول التدريجي لمركز الثقل من الغرب إلى الشرق، وإدراك القوي الدولية للأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ومضيق باب المندب وبحر العرب وسوقطرة والمحيط الهندي في رسم سياساتها العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية. وذلك بحكم موقع البحر الأحمر الجيوبوليتيكي على خريطة العالم وارتباطه الوثيق بالمضايق الدولية الثلاث المذكورة.
وكانت مصر متواجدة بالبحر الأحمر، عبر العصور والتاريخ والحضارات القديمة والوسطى والحديثة، وتأصل هذا التواجد وتجذر مع افتتاح قناة السويس للملاحة الدولية، عام ١٨٦٩م، الأمر الذي جعل لها سيطرة ونفوذ على مدن وموانئ البحر الأحمر وباب المندب والقرن الأفريقي ومرتفعات الحبشة، طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ابتداء من السويس وعيذاب وسواكن ومصوع وعصب وزيلع وبربرة حتى هرر وشوا بالداخل الإثيوبي املاكا ونفوذا مصريا
أهم الموانئ الاستراتيجية:
أقامت الدول المطلة علي البحر الأحمر عددا من الموانئ على سواحله، منها موانئ ذات أهمية استراتيجية كبيرة؛ نظرا لدورها البالغ الأهمية في التجارة الدولية. والتي لا تتوقف عند كونها ممراً ملاحيا مهما فقط، وإنما أيضا لكونها معبرا رئيسيا لتصدير النفط والغاز الطبيعي المسال من دول الخليج إلى الأسواق العالمية. كما أنها تمثل مركز الربط الأساسي ونقطة عبور الحركة التجارية بين البحر المتوسط وبحر العرب والمحيط الهندي عبر قناة السويس.
وتشمل الموانئ الاستراتيجية علي البحر الأحمر ميناة جدة السعودي، وميناء السويس في مصر، وميناء بورسودان في السودان ومينائي المخا والحديدة في اليمن. إضافة لميناء عدن اليمني على خليج عدن بمدخل مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وميناء العقبة الأردني، وميناء جيبوتي، ثم مينائي مصوع وعصب في إريتريا، وميناء ايلات جنوب إسرائيل على خليج العقبة. وتسعي دول البحر الأحمر التي أقامت، في ٦ يناير ۲۰۲۰ مجلس الدول العربية والافريقية المطلة علي البحر الأحمر وخليج عدن، إلى تعظيم الفوائد الاقتصادية بينها بحيث يصبح ذلك ركيزة هامة لبناء تكتل إقليمي قادر على التفاعل ومنافسة القوي الدولية في الاستفادة من ثروات البحر وموقعه.
إحياء مفهوم الأفرابيا (Afrabia)
رأت معظم القوي العالمية أن البحر الأحمر، على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، ليس إلا مجرد امتدادا لقناة السويس، منذ عام ١٨٦٩م، وعلى الرغم من أن المضايق المطلة عليه شهدت حروبا واضطرابات كبيرة، إلا أن باب المندب لم يغلق إلا مرتين في عام ١٩٥٦، ثم عام ١٩٦٧م
وقد واجه البحر الأحمر، على مدى العقدين الماضيين وحتى مطلع الألفية الثالثة عام ۲۰۰۰م، أعمال قرصنة وبعض الأنشطة التي تهدد حركة الملاحة الدولية International Navigation على نحو دفع القوي الدولية ذات المصلحة إلى تشكيل مجموعات عمل متعددة الجنسيات خاصة بحماية أمن الملاحة البحرية ومواجهة أعمال القرصنة سواء التي كان يقوم بها قراصنة صوماليون، أو العمليات التي كان ينفذها تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، أو الحوثيين في اليمن.
ويشير بناء الصين أول قاعدة بحرية عسكرية لها في جيبوتي على مدخل مضيق باب المندب، عام ٢٠١٧م، وقبلها بناء اليابان قاعدة بجيبوتي عام ۲۰۰۹م، إلى اهتمام القوي الاسيوية الصاعدة في مشاركة أوروبا والولايات المتحدة مسألة تأمين حرية الملاحة؛ باعتبارها أولوية استراتيجية. ومع تعدد الرؤي الدولية، بعد نهاية الحرب الباردة عام ۱۹۹۱م، باتت ساحة البحر الأحمر أكثر تشعبا وتعقيدا، مما دفع القوي الإقليمية المساحلة به لأن تكون أكثر إصرارا على التوصل لوثيقة تعاون جماعي بين دول المنطقة (collective cooperation) يمكن تسميته برؤية الأفرابيا (Afrabia) بوصفها منظور يتجاوز التفاعل بين حركة (Pan-Africanism) أو (Africanity) والشخصية العربية (Arab Identity) ذات الهوية الثقافية والحضارية المؤثرة على مجتمعات شرق افريقيا.
وبافتراض أن الشمال الأفريقي يعد جزءا لا يتجزأ من القارة الأفريقية، فلماذا لا تكون شبه الجزيرة العربية أيضا امتدادا لها؟ وإذا كان البحر الأحمر هو الفاصل الذي يحدد أين تنتهي أفريقيا فإن الروابط التاريخية والحضارية والثقافية التي تجمع الدول المطلة عليه تجعل منه عامل توحد أكثر من كونه عامل تقسيم. كما أن فكرة إقامة تكتل دول البحر الأحمر، سبق وطرحتها مصر والسعودية، منذ سبعينيات القرن العشرين، إذ تنظر مصر دائما عبر التاريخ إلى منطقة البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن والقرن الأفريقي باعتبارها امتدادا طبيعيا وحيويا Lebensraum للشخصية المصرية، وزاد ذلك في العصر الحديث، بعد افتتاح قناة السويس للملاحة الدولية، عام ١٨٦٩م.
ثم أحيت الأطراف العربية والافريقية: مصر والسعودية والأردن والسودان واليمن وإريتريا وجيبوتي والصومال مشروع منتدى البحر الأحمر مرة أخري، حيث وقعت بالرياض على ميثاق تأسيس مجلس الدول العربية والافريقية المطلة علي البحر الأحمر وخليج عدن، في ٦ يناير ۲۰۲۰م، ويكمن خلف هذا التحالف الأفرو عربي اعتبارات أمنية واقتصادية واستراتيجية أبرزها تأمين باب المندب من أي تهديدات لحرية الملاحة التي تمر عبره في الاتجاهين وصولا إلى قناة السويس، ودول البحر المتوسط وغرب أوروبا والخليج وشرق وجنوب شرق اسيا.
وعلى الرغم من عدم وجود تصور لإنشاء قوة عسكرية تحت مظلة هذا الكيان، إلا أن هذا التكتل يسعي إلى تحقيق أهداف اقتصادية تتمثل في تعزيز التجارة، واحتواء أي مشكلات تطرأ على الإقليم، سواء من دول أو جماعات تهدد حركة الملاحة الدولية. إلا أن بعض مراكز الأبحاث الدولية طرحت تساؤلات بهذا الشان منها: ما هي معايير العضوية بهذا المنتدى؟ وماذا عن الدول الحبيسة ذات المصالح الكبرى بالإقليم مثل إثيوبيا، التي تسعي بدورها لبناء أسطول بحري وقاعدة في بعض دول المنطقة المطلة على خليج عدن؟
وثمة رؤية أفريقية تعبر عن مفهوم الجامعة الأفريقية (Africanism Pan) دار نقاش بشأنها، ولا يزال دائرا، في أروقة الاتحاد الافريقي، خاصة فيما يتعلق بتطوير سياسة واضحة لتحقيق السلام والأمن في «الفضاء المشترك «(backyard) أي البحر الأحمر وخليج عدن، بما في ذلك إقامة شراكة أمنية وسياسية مع مجلس التعاون الخليجي. حتى عقد اجتماع بالخرطوم، في أكتوبر ۲۰۱۷م، برعاية الاتحاد الافريقي، ضم ممثلي دول شمال شرق أفريقيا والشركاء الدوليين (الاتحاد الأوروبي بشكل رئيسي) لتوسيع جدول أعمال السلام والأمن في القرن الأفريقي ليشمل البحر الأحمر أيضا. وبالفعل قامت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية «الايجاد» (IGAD) بتأسيس مجموعة عمل معنية بالبحر الأحمر وخليج عدن خلال اجتماع لجنة سفراء الإيجاد، في أبريل ۲۰۱۹م.
بينما تركز الرؤية الأوروبية على الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ومضيق باب المندب من منظور التجارة الأوربية، ولذا طرح الاتحاد الأوروبي فكرة عقد منتدى للبحر الأحمر يضم دول القرن الأفريقي ودول الخليج والولايات المتحدة وأصحاب المصلحة الدوليين الآخرين. ومن الناحية الواقعية يشارك الأتحاد الأوروبي بقوة في القرن الأفريقي من خلال الحوار السياسي والأمني والدفاعي المشترك، مثل البعثة الأوروبية لبناء القدرات البحرية لدول منطقة القرن الأفريقي والمحيط الهندي، بناء القدرات البحرية لمكافحة عمليات القرصنة البحرية. ومن المعروف أن الاتحاد الأوروبي لديه ممثلا خاصا في القرن الأفريقي تتمثل مهمته في المساهمة في الجهود الإقليمية والدولية لتحقيق سلام وأمن وتنمية دائمين بالمنطقة، وتعزيز مصالح ونفوذ الاتحاد الأوروبي في القرن الافريقي.
أما الرؤية الأمريكية، فق ظل البحر الأحمر بأهميته الاستراتيجية المتزايدة موضع اهتمام الإدارات الأمريكية، على اختلاف عهودها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، من منظور استراتيجي لقوة البحر (Sea power) فصدر مبدأ نيكسون (١٩٦٩م) ومبدأ كارتر (١٩٧٦م) ومبدأ ريجان (۱۹۸۲م) ومبدأ بوش الأب (۱۹۹۰م) ثم كرس معهد الولايات المتحدة للسلام جهده في التركيز على منطقة البحر الأحمر، بما فيها الدعوة لتعيين مبعوث أمريكي خاص للبحر الأحمر. كما طرح مبادرة البحر الأحمر بهدف لسد الفجوة في تحليل طبيعة العلاقة التي تربط منطقة الشرق الأوسط بالقرن الافريقي، مع ضرورة التعاون مع صانعي السياسات بالولايات المتحدة وأوروبا وأسيا؛ للتغلب على العقبات المؤسسية التي قد تعرقل التعاون المشترك (يشمل تعريف البحر الأحمر وفقا لهذه المبادرة القرن الأفريقي والخليج ومصر).
طموح أثيوبيا البحري بالقرن الافريقي:
ألقى رئيس الوزراء الإثيوبي «أبي أحمد» خطابا أمام البرلمان، يوم 13 اكتوبر ۲۰۲۳م، تناول الضرورات الوجودية لبلاده، منها ضرورة الوصول إلى منفذ بحري دائم ومستدام ومستقل. ملمحا إلى حقها الطبيعي في الولوج إلى البحر الأحمر، ومنوها إلى أن البحر الأحمر ونهر النيل متشابكان مع أثيوبيا ويحددان مصيرها، بل يمثلا أساسا إما لتنميتها أو تدميرها. ومن ثم سوف يتطرق التحليل هنا للإجابة على: لماذا تسعي أثيوبيا للحصول على منفذ علي البحر الأحمر؟ وما هو الحق القانوني في الوصول إلى هذا المسعي؟ وكيف يؤثر هذا القرار على الأمن والاستقرار والسلام في القرن الافريقي؟
من المعروف أن أثيوبيا تعتبر منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل وهضبة البحيرات العظمي الاستوائية منطقة نفوذ لها ومجال حيوي للهيمنة والتوسع؛ نظرا لطموحها في أن تصبح أحد أهم أقطاب القارة الافريقية. سواء من ناحية الدوافع الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية أو الاستراتيجية. عن طريق تعزيز مكانة إقليمية تمكنها من لعب دور مهم في معادلة أمن البحر الأحمر، وصولا إلى امتلاك قواعد بحرية بالقرب من باب المندب، بذريعة تعزيز التجارة وحماية مرور التجارة الدولية والملاحة، وتقديم نفسها طرفا في المعادلة الإقليمية الخاصة بأمن القرن الافريقي.
غير أن رد إريتريا على الخطاب رئيس الوزراء الأثيوبي جاء سريعا، عبر بيان لم يتعد أربعة أسطر، وصفه بأحاديث «القيل والقال حول المياه والمنافذ البحرية» كما اعتبرت وسائل إعلام جيبوتي أن مطالبات أثيوبيا ما هي إلا «مزاعم تتجاوز الواقع الجغرافي والتاريخي لأثيوبيا ودول المنطقة» في إشارة إلى استخدامها لموانئ جيبوتي، منذ تسعينيات القرن العشرين، لتسهيل تجارتها مع العالم الخارجي. أما الصومال، فقد رفض وزير الدولة للشؤون الخارجية دعوة أثيوبيا لإجراء مفاوضات بشأن إمكانية الوصول إلى أحد موانئها، مع التأكيد على التزام بلاده بتعزيز السلام والأمن والتجارة والتكامل الإقليمي بالمنطقة. مع الإشارة إلى أن ذلك لا يعني السماح بمنح أثيوبيا إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر؛ إدراكا منها أن أثيوبيا تسعي لأن تصبح القوة الإقليمية المهيمنة بشرق افريقيا والقرن الافريقي
وفي تحد لهذا لموقف الصومالي، وقع رئيس وزراء أثيوبيا مع رئيس إقليم أرض الصومال «صومالي لاند» الانفصالي «موسى عبدي» يوم الاثنين الأول من يناير ٢٠٢٤م، «مذكرة تفاهم تاريخية» في أديس أبابا تمهد الطريق لأثيوبيا للوصول إلى منفذ بحري وتحقق تطلعاتها للوصول إلى الموانئ البحرية. كما أشارت المذكرة إلى تعزيز العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الجانبين.
وقد جاء رد فعل مقديشيو سريعا وواضحا، فأصدرت بيانا رسميا اعتبرت فيه أن الاتفاق الذي أبرمه إقليم أرض الصومال الانفصالي؛ لتمكين أثيوبيا من استخدام ميناء بربرة (Berbera) على البحر الاحمر لاغ ولا أساس له من الصحة. وأن تصرف أثيوبيا الذي يشمل اعترافها بهذا الإقليم دولة مستقلة، عندما يحين الوقت المناسب، يشكل خطرا على الاستقرار والسلام بالمنطقة. كما أعلنت استدعاء سفيرها في أثيوبيا للتشاور. ثم أعلنت مصر موقفها، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد بالقاهرة، في ٢١ يناير ٢٠٢٤ بين الرئيس السيسي والرئيس الصومالي «حسن شیخ محمود» حيث أكد السيسي بأن الاتفاق بين أرض الصومال وأثيوبيا غير مقبول لأحد، وأن مصر لن تسمح بتهديد وحدة واستقرار الصومال، أو المساس بسلامة أراضيه. وأن محاولة القفز على أرض من الأراضي لمحاولة السيطرة عليها لن يوافق أحد عليها. فيما أكد حسن شيخ محمود بأن مصر تعتبر حليفا تاريخيا ودولة شقيقة وصديقة للصومال. وأن الصومال يندد بعدوان أثيوبيا على أرضه، وبهذا الاتفاق الذي يمنحها منفذا علي البحر الأحمر بطول ۲۰ كيلو متر لمدة ٥٠ عاما في ميناء بربرة، ويسمح لها بامتلاك قاعدة عسكرية ومنطقة بحرية تجارية أيضا.
الموقف السياسي والقانوني:
أولا: فقدت أثيوبيا إمكانية الوصول إلى البحر الأحمر، عقب حصول إريتريا، الواقعة على سواحل البحر الأحمر وتضم موانئ مصوع وعصب وجزر دهلك، على استقلالها عام ١٩٩٣م، بموجب الاستفتاء الذي أُجري عام ١٩٩١م، في أعقاب الكفاح المسلح الذي قادته إريتريا ضد أثيوبيا، في عهد «هيلاسيلاسي» و«منجستو» فيما بين عامي ١٩٦١ و١٩٩١م ويؤكد هذا الاتفاق محاولات أثيوبيا الملتوية للاستيلاء على جزء من ميناء بربرة بإقليم صوماليلاند المنفصل عن حكومة مقديشيو المركزية منذ عام ۱۹۹۱م وأطماعها أيضا في موانئ القرن الأفريقي وخليج عدن. كما يجدد أيضا التوتر والصراع التاريخي الذي ميز العلاقة بين الدولتين، فقد اندلعت حربان بينهما بمنطقة الأوجادين المتنازع عليها، نشبت الأولي بين عامي ١٩٦٣ و١٩٦٤م في عهد الامبراطور هيلاسيلاسي، والثانية بين عامي ١٩٧٧و۱۹۷۸م، أيام نظام منجستو هايلي مريام، الذي صرح عام ١٩٩١م، قبيل نهاية حكمه ونفيه، بأنه استطاع تفكيك الدولة الصومالية.
ثانيا: اعتمد الرئيس الصومالي حسن شیخ محمود قانونا، أقره البرلمان، بإلغاء الاتفاق الذي أبرمه إقليم أرض الصومال مع إثيوبيا، كما دعت الصومال الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية ومجموعة شرق أفريقيا وهيئة «الايجاد» (IGAD) لمساندة حقها في الدفاع عن سيادته وإرغام أثيوبيا على الالتزام بالقوانين الدولية. فيما اعترضت مصر صراحة وجيبوتي واريتريا والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ودول أخري على الاتفاق المذكور، وحثت أثيوبيا على احترام مبدأ سيادة الدول وسلامة أراضيها وفقا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
ثالثا: يعد احترام سيادة الدول مبدأ أساسيا في العلاقات الدولية، منذ نشأة القانون الدولي بصدور كتاب «هوجو جروشيوس» أبو القانون الدولي، عام ١٦٢٥م، تحت عنوان «في الحرب والسلام» (on the War and peace) وما اقرته معاهدة وستفاليا، عام ١٦٤٨م، بشأن إقرار مبدأ السيادة (Sovereignty) والدولة الوطنية (Nation State) ومبدأ سيادة الدول وسلامتها الإقليمية (Sovereignty & Territorial integrity).
ثالثا: من المعروف أن لأثيوبيا مصلحة استراتيجية في الوصول إلى جميع الموانئ البحرية بمنطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، في إطار استراتيجية يرتكز عليها أبي أحمد، منذ العام ۲۰۱۸م، بعد تسلمه السلطة وتسوية الخلافات مع إريتريا، وتتبنى دبلوماسية الموانئ بوصفها جزء من مشروع إثيوبي طموح لتوحيد القرن الأفريقي ككتله اقتصادية، يلعب سلاح البحرية فيها دورا بارزا. وذلك بهدف التغلب على المعوقات الجغرافية التي جعلت من أثيوبيا دوله حبيسة (Africa Landlocked countries in) خاصة بعد استقلال إريتريا عام ١٩٩٣م، واستئثارها بالساحل المطل على البحر الأحمر، وبموانئ مصوع وعصب وجزر دهلك الاستراتيجية عند باب المندب. الأمر الذي اضطرها لأن تعتمد على ميناء جيبوتي في تجارتها الخارجية، خاصة مع تفكيك أسطولها البحري
رابعا: تفاجئت دول الإقليم والعالم بالاتفاق الذي أبرمه رئيس وزراء الأثيوبي مع رئيس إقليم أرض الصومال الانفصالي غير المعترف به، وحاول بموجبه فرض سيادة بلاده على ميناء بربرة الاستراتيجي، ثم على خليج عدن. خاصة أنه نوه إلى أن بلاده، التي يبلغ عدد سكانها ۱۲۰ مليون نسمة تقريبا، لن تظل حبيسة أبد الدهر في سجن الجغرافيا وأن حصولها على منفذ بحري مستدام مسألة حيوية بالنسبة لها. وألمح إلى أنها ستسعى إلى الحصول على هذا الحق بالسلم أو القوة، مشيرا في حديثه إلى أن النيل والبحر الاحمر هما الأساس لتطوير إثيوبيا. وبما أن رئيس أرض الصومال سمح في الاتفاق لأثيوبيا بفرض سيادتها العسكرية والتجارية على ميناء بربرة لمدة ٥٠ عاما، فإن هذا يعني قانوبيا أن هذه الأرض سوف تصبح ملكا للحكومة الإثيوبية وتحت إدارتها المباشرة.
خامسا: بالنظر لطبيعة الجغرافيا السياسية، هناك حوالي ٤٤ دولة حبيسة (Landlocked tates) بالعالم، منها دول قريبة من أثيوبيا، مثل أوغندا وجنوب السودان ومالاوي ورواندا وبورندي، لم تتمرد على سجن الجغرافيا، وتسعى للنمو وأداء دور إقليمي. إلا أن التمرد الإثيوبي على حقائق الجغرافيا يشير إلى أنها عازمة على التمدد في المجال الحيوي لجيرانها مدعومة ببعض القوي الخفية اقليميا ودوليا غير مكتفية بموانيء جيبوتي وكينيا، طمعا في ميناء تديره بنفسها لتعزيز سيادتها العسكرية والسياسية ويكون لها دور فاعل ومؤثر في تأمين الممر البحري الحيوي للبحر الأحمر. وهو ما يعني عودتها مرة اخري للمشاركة في ترتيبات هذا الممر الحيوي والاستراتيجي للملاحة الدولية بين الشرق والغرب. أي أننا لسنا أمام اتفاق لتعزيز التجارة فقط، بل أمام اتفاقية لها أبعاد جيوسياسية (Geo-politics) وجيواستراتيجية (Geo strategy) ستكون لها تداعيات أمنية كبيرة على الاستقرار بالمنطقة.
وقد تمضي أثيوبيا، بسبب الحظوة الدولية التي تتمتع بها، في صفقتها دون اكتراث بردود أفعال دول الجوار، وليس مستبعدا أن تكون قد حصلت قبل توقيع هذا الاتفاق على موافقة بعض الأطراف الإقليمية أو الدولية، ومنحتها غطاء شرعيا للمضي قدما نحو تحقيق أهداف غير مشروعة أو قانونية تؤثر إن عاجلا أو آجلا على السلم والأمن الإقليمي منطقة القرن الافريقي كافة.