مقدمات الحرب الشاملة في الشرق الأوسط
بواسطة :
موقف الولايات المتحدة والكيان
من جانبه، لخص الرئيس بايدن عمق ارتباط مصالح الأمن القومي الأمريكي بمصالح الكيان بقوله: «لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان ينبغي إنشاؤها، للسيطرة على هذه المنطقة برمتها» ويأتي ذلك في وقت تسعى فيه واشنطن لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو الوجه الآخر لمشروع الكيان الخاص بإعادة ترتيب أوضاع المنطقة؛ توطئة لتنفيذ حلم «إسرائيل الكبري». وقد تُوِّج دعم أمريكا المباشر للكيان ببطاريات الدفاع الصاروخي «ثاد» THAAD بأطقم تشغيل أمريكية، تجسيدا للسعي المشترك للسيطرة على المنطقة، وممراتها الاستراتيجية وثرواتها البترولية والغازية، ضمن الصراع الدولي المحتدم. إضافة إلى أن ضرب إيران من شأنه أن يفتح الطريق لاستكمال تطبيع علاقات باقي الدول العربية مع الكيان، وتوسيع ما يسمى «اتفاقيات إبراهيم».
أما نتنياهو، فقد كان مهددا بالسقوط والمحاكمة، لكنه نجح في الهروب للأمام بشن حرب على غزة استمرت لأكثر من عام، دمّر خلالها بنيتها الأساسية وفكك كياناتها العسكرية، ثم انتقل الى لبنان لتحويل جنوب نهر الليطاني الى منطقة عازلة؛ ضمانا لأمن الجليل، ويضمن له خوض انتخابات 2026م، وقد اكتسب أراضًا جديدة، وفكك أذرع إيران العسكرية، وأرضى اليمين الديني باعتبارها خطوة على طريق التمدد الإقليمي.
ومن المحتمل أن يستهدف الكيان مصانع الصواريخ والمسيرات الإيرانية والبنية النووية، على مراحل لحرمان إيران من قدرة الردع، لكنه يدرك استحالة تحقيق النصر دون مشاركة واشنطن المباشرة، وهو ما حاولت الأخيرة تجنبه حفاظا على مصالحها بالمنطقة، وتجنبا لأعبائه على اقتصادها المريض، وما قد يؤدى إليه من ارتفاع أسعار النفط، والإطاحة بالديمقراطيين خارج البيت الأبيض. وهو ما لا يسعى إليه نتنياهو. على الرغم من تصور البعض تفضيله لترامب. زمن جانبه حذر جوزيب بوريل José Borrell مفوض السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي – الذي رفضت دوله أعضاء الاتفاق النووي الخروج منه- من تدمير منشآت إيران النووية، لأن ذلك يعد مبررا كافيا لانخراط روسيا وربما دول أخرى في صراع المنطقة.
موقف روسيا وإيران
عقب اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر، قام سيرجي شويجو Sergei Shoigu أمين عام مجلس الأمن الروسي والمشرف على التعاون العسكري والتقني، بزيارة إلى طهران، في 5 أغسطس 2024م، لنقل نصيحة الرئيس فلاديمير بوتين Vladimir Putin للمسئولين الإيرانيين بالتروي، وتجنب التورط في حرب تستدرجهم إليها الولايات المتحدة والكيان، لتدمير بنيتهم العسكرية والاقتصادية، وتحييد دورهم الإقليمي، وتفكيك علاقات التعاون بين طهران وموسكو.
إيران انتهجت سياسة «الصبر الاستراتيجي» تجنبًا لحرب لا تحتمل مواجهة نتائجها الكارثية على الدولة والنظام، لذلك لم ترد، في السابق، على عمليات اغتيال علماء الذرة والصواريخ وقادة الحرس الثوري، واستهداف الأرشيف النووي ومراكز البحوث، كما أخَّرت الرد على اغتيال إسماعيل هنية شهرين. غير أن ذلك التأخير دفع الكيان لمزيد من الاجتراء عليها، ونقل المعركة إلى مجالها الحيوي المباشر، متوغلا في جنوب لبنان، لقطع ذراعها الرئيسي بالمنطقة، وضرب شرعية نظام ولاية الفقيه، الذي يرتكز على أيديولوجية «المقاومة». وبالتالي استهدف الرد الإيراني استعادة توازن الردع، وتأمين خط دفاعها الأمامي «حزب الله» وتخفيف الضغط العسكري عليه.
أما روسيا، فكانت مرتاحة لحرب إيران ضد الغرب والكيان، من خلال وكلائها بالمنطقة، لاستنزاف قوتهم، واجتذاب اهتماماتهم بعيدا عن أوكرانيا، حتى تتمكن من حسم نتيجة الحرب خلال الربيع المقبل، في نفس الوقت الذي ظلت فيه المصالح الروسية بسوريا في أمان؛ بمقتضى التفاهمات مع الكيان، التي تسمح باستخدام المجال الجوي السوري لضرب التواجد الإيراني!! ولذا كانت حريصة على عدم اتخاذ أي إجراء يطيح بتلك التفاهمات.
وعلى الرغم من ذلك، فإن موقف روسيا بالغ الحرج، فإلحاق هزيمة استراتيجية بطهران سوف يشكل ضرراً لا يُمكن لموسكو تعويضه، بينما دعمها لإيران يضعها في مواجهة صريحة مع الكيان وواشنطن، ويسبب عدم ارتياح دول الخليج، خاصة السعودية، التي منعت الغرب من مصادرة الأموال الروسية في بنوكه، مما يفسر اكتفائها بالحد الأدنى من الدعم، الذي يمنع الحاق هزيمة استراتيجية بإيران.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لروسيا، فإن موقف إيران يعد أكثر حرجا، لأنها تدرك أن طيران الكيان بالدعم الأمريكي واختراقات الموساد، قادر على إيقاع خسائر كارثية في بنيتها الاقتصادية الخاصة بالنفط والغاز، الذي تدرك واشنطن أن معظمه يتجه للصين، وأن استهدافه يلحق الهزيمة بها. لكن المخاوف تتعلق بتأثيره على أسعار النفط، وطبيعة الرد الإيراني سواء باستهداف مراكز النفط والغاز والطاقة بدولة الكيان وربما دول الخليج، أو بغلق مضيق هرمز، حيث يمر عبره حوالي 21% من الاستهلاك العالمي للنفط. مع الأخذ في الاعتبار أن الإمارات، والسعودية تمتلكان خطوط أنابيب للبحر الأحمر وبحر عمان، لكن صادرات كل من العراق، وسلطنة عمان، والكويت، وإيران سوف تتوقف، على نحو قد يفجر أزمة عالمية تضرب الاقتصاد الأمريكي والعالمي.
الجدير بالذكر أن إيران قدمت لروسيا آلافًا من مسيرات «شاهد-136» الانتحارية، وشيدت مصنعا لإنتاج مسيرة «أبابيل-2» بجمهورية طاجيكستان، كما قدمت لروسيا صواريخ «فتح-360» الباليستية قصيرة المدى لاستخدامها ضد البنية التحتية والمواقع العسكرية الأوكرانية. وعلى العكس أكدت خرائط جوجل أن صفقة الـ 24 طائرة مقاتلة من طراز Su-35 Flanker-E متوقفة بمدرج مصنع «كومسومولسك أون أمور» للطائرات بروسيا، ولم يتم طباعة العلم الإيراني عليها، بدلا من المصري. كذلك لم يتأكد تنفيذ صفقة طائرات الهليكوبتر الهجومية «مي-28» والتدريب «ياك -130» التي اتفقت طهران بشأنها مع روسيا.
وقد حققت مهادنة موسكو نتائج عكسية؛ فقد وافقت واشنطن على قصف الكيان لمخازن أسلحة وذخائر بمحيط قاعدة «حميميم» الروسية في سوريا، متجاوزة حدود التفاهمات مع موسكو. ما فرض على الأخيرة مراجعة استراتيجية تعاملها مع الأزمة، وهو ما حذر منه «ينس ستولتنبرغ» Jens Stoltenbergأمين عام حلف «ناتو» مؤكدا أن روسيا – مقابل ما حصلت عليه من إيران- سوف تدعم برامج التطوير الصاروخية والنووية، وتعزز سلاحي الطيران والدفاع الجوي. وبالفعل وافقت روسيا على تزويد إيران بصواريخ S-400، إضافة لـ S-300 التي تمتلكها، وصواريخ «بانتسير-إس1» قصيرة المدى لحمايتها، وتأمين الأهداف الحيوية، إضافة لنظام تشويش متطور. كما استقبلت موسكو قمر الاستطلاع الاصطناعي «كوثر» وقمر الاتصالات «هدهد»، المنتجين محليا بإيران، لإطلاقهما بمركبات فضاء روسية، ضمن تعاون استراتيجي متطور.
كما التقى فلاديمير بوتين التقى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، يوم 12 أكتوبر، على هامش منتدى «عشق أباد» بالعاصمة التركمانية، واتفقا على سرعة الانتهاء من إعداد اتفاق تعاون استراتيجي شامل، لتوقيعه خلال قمة «بريكس» المزمع عقدها بمدينة قازان الروسية قبل نهاية أكتوبر الجاري. وتدرك روسيا ان التحالف الغربي يصفى حساباته معها بالشرق الأوسط، ويحاول طردها من المنطقة، وهي ترد بالإدانة المتكررة لحرب الكيان المدعومة غربيًا، ودعوة المقيمين في تل أبيب لسرعة المغادرة والعودة لبلادهم، وهو تشكيك خطير في أمن واستقرار دولة الكيان ما يضاعف الهجرة العكسية.
الموقف التركي
دعا الرئيس التركي أردوغان روسيا وإيران، في 12 أكتوبر، إلى اتخاذ إجراءات أكثر فاعلية لحماية سلامة أراضي سوريا، بعد الضربة التي نفذها الكيان ضد دمشق. نظرا لأن تركيا يزعجها أن تري التغيرات الإقليمية أتت ضد مصالحها، فبعد أن كان اعتماد واشنطن والغرب عليها وعلى إيران لتأمين مصالحهم بالمنطقة، إبان عزلة الكيان عن محيطة الاقليمي، أصبحوا يعتمدون على الكيان في عمليات مشتركة متجاهلين تركيا، كما تحولت إيران الى عدو يتم تأديبه، لتطاوله على دولة الكيان، وتحالفه مع روسيا والصين. ومن المعروف أن تركيا دولة ديناميكية التحرك الخارجي، وقد لا تستسلم لحرب تزحف صوب حدودها، وسوف تسعى للتنسيق مع دول المنطقة ومصر، ورأب الصدع في علاقاتها بسوريا والعراق، لوضع حد لاتساع نطاق الحرب المحتمل، وتلك مناسبة لضمان انسحاب غير مشروط من أراضيهم، ووضع أسس تسوية أزمة نهري دجلة والفرات.
وأخيرا
الغرب احتضن المعارضة الإيرانية ضد الشاة لتمرده على التبعية، وأعاد الخميني من باريس مدعومًا بحملة إعلامية دولية، على نحو أسقط نظام الشاة بثورة شعبية عارمة. غير أن قادة الثورة بدأوا باقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز بعثتها كرهائن، لتثبيت أركان حكمهم، ثم عادوا وتعاونوا مع واشنطن في غزو أفغانستان، عام 2001ن، وغزو العراق وتدميره، عام 2003م، ورهّبوا دولا عربية لدفعها للاستجابة للضغوط الغربية. وفي المقابل كافأهم الرئيس الأسبق أوباما بإتمام الاتفاق الشامل، عام 2015م، الذي أطلق يدهم في المنطقة، وذلك قبل انسحاب الرئيس ترامب منه، عام 20118م، ثم انقلاب واشنطن عليهم، عام 2023م، نظير مشاركتهم في التخطيط لعملية «طوفان الأقصى» وتعاونهم مع روسيا والصين لإجهاض مشروع «الممر الاقتصادي» من الهند الى أوربا مرورا بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، ثم توجيههم ضربات صاروخية موجعة لأهداف استراتيجية داخل الكيان.
إن خطة الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران بدأ تنفيذها بالفعل، لفتح ساحة ثانية للحرب ضد المحور الروسي بعد أوكرانيا، حرب ضارية وطويلة، ستطول شظاياها دول المنطقة، سواء بنشر القلاقل باستخدام الأقليات الشيعية أو الإيرانية الأصل، أو بضغوط للتوريط المباشر في المعركة. الموقف العربي يفتقد في المقابل للحد الأدنى من التنسيق، فلا أمل في توحيد المواقف، وتلك مأساة تدمي القلوب.
إيران تدرك خطورة ما تتعرض له، ما دفعها للتهديد بتوسيع دائرة الاستهداف، لتشمل مفاعل ديمونا، ومراكز انتاج الغاز بالكيان، وتهديد منشآت النفط في الخليج العربي والسعودية، على غرار استهداف معامل نفط أبقيق وخريص، في سبتمبر 2019م، حال تقديم أي دعم إقليمي.. ويبدو أن التهديدات قد وضعت الإقليم على سطح صفيح ساخن ما يفرض على الجميع التحسب والاستعداد.