علاقة بريطانيا بمعارضي أنظمة الحكم بالشرق الأوسط (وثائقي 2)

كيف تعاملت السياسة البريطانية مع قضية الأقليات في إيران بعد الثورة

(الأكراد)

الكاتب عامر سلطان

عضو مجلس أمناء المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية والتدريب، متخصص في البحث في الوثائق البريطانية

عرضنا، في الجزء الأول، أسباب ووسائل خطة بريطانيا في الإبقاء على قنوات الاتصال مع المعارضة الإيرانية، في إطار استراتيجيتها للتواصل الدائم مع جماعات المعارضة والمعارضين لأنظمة الحكم في الشرق الأوسط. واليوم، سوف تعرض في الجزء، الثاني، استنادا إلى الوثائق السرية البريطانية، التي رُفعت عنها السرية مؤخرا، لإحدى وسائل التأثير والضغط البريطاني المحتملة على الأوضاع الداخلية في دول المنطقة.

وتكشف هذه الوثائق السرية، جانبًا مهما من التفكير السياسي البريطاني، في بدايات الثورة الإسلامية الوليدة في إيران، وكيف تعاملت لندن مع مسالة الأقليات العرقية بالمجتمع الإيراني، ضمن رؤيتها الكلية لطبيعة العلاقات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. كما تقدم هذه الوثائق بعض الإجابات عن تساؤلات تتعلق بمحددات تعامل بريطانيا حيال ذلك، ونصائح مسئوليها لممثلي هذه الأقليات حول سبل مجابهتها للحكومة المركزية بطهران، من جهة. وآليات مواجهتها للضغوط داخل بريطانيا، من جهة أخرى.

وأنه على الرغم من ثقة بريطانيا الكبيرة في أن نظام الثورة الإسلامية بزعامة «آية الله الخميني» قد أخذ يرسخ أقدامه في إيران، وأنه ليس لدى أي من جماعات، أو أفراد المعارضة الإيرانية القدرة على حشد أي تأييد الكافي لإسقاطه، إلا أنها ظلت تستخدم أدوات ضغط سرية غير مباشر ضد هذا النظام. ومن بين هذه الأدوات التي كانت تستخدمها مسألة الأقليات بوصفها واحدة من أهم الأدوات الحساسة والمؤثرة.

وفي هذا الإطار، قدّمت وزارة الخارجية البريطانية لجماعات المعارضة الإيرانية ورموزها في المنفى، نصائح عدة بشأن سبل استمالة الأكراد، عبر الوعد بإقامة دولة فيدرالية لهم داخل إيران، بغية كسب دعمهم لأي مساعٍ تهدف إلى إسقاط حكومة الثورة؛ إذا لزوم الأمر واقتضت المصلحة ذلك.

وفي عام 1981م، أي بعد مضي عام من اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، تواصلت جماعات معارضة إيرانية في المنفى، تشمل شخصيات كانت تنتمي إلى النظام البهلوي المخلوع، مع الحكومة البريطانية طلبًا لدعم سياسي وعسكري منها؛ للإطاحة بالنظام الإسلامي الجديد في طهران. وأن لندن، وفقا لوثائق وزارة الخارجية البريطانية، رفضت الانخراط في أي جهد لزعزعة استقرار النظام الثورة الإسلامية الجديد في إيران، وخلصت إلى أن المعارضة بالمنفى لن تتمكّن من تحقيق أي تأثير منشود دون استقطاب الأقليات، وعلى رأسها الأكراد.

أولا: سياسة «الوعود» مقابل الدعم

في شهر نوفمبر 1981م، التقى سرا نائب وكيل وزارة الخارجية البريطانية «جون غراهام» (John Graham) في لندن بـ «محافظ البنك المركزي الإيراني» السابق والمعارض السياسي لنظام الجمهورية الإسلامية «مهدي سميعي» (Mehdi Samii) لبحث سبل توحيد صفوف المعارضة.

ووفق محضر هذا اللقاء السري الذي أعده «جراهام» فإن «سميعي» «أراد في الحقيقة التحدث عن آفاق تنظيم معارضة فعالة لنظام الخميني» كما أنه «شعر بأنه من الصعب للغاية، بالطبع، أن ينسى مختلف زعماء المعارضة خلافاتهم ويتعاونوا» وخلص النقاش، المتصل بزعماء المعارضة في الخارج، إلى أن شخصيات لامعة من أمثال «أبو الحسن صدر» و«مسعود رجوي» «غير مقبولين كزعماء لنوع الجماعة التي يفكر فيها» لقيادة معارضة قوية ضد النظام الجديد.

وأعاد «جراهام» التأكيد بوضوح لا لبس فيه بشأن موقف بلاده آنذاك. انتهى إلى أن «الاحتمالات الآن هي أن النظام الحالي سوف يعزز موقعه وسوف يحقق تدريجيا النظام في البلاد والاقتصاد».

ومع ذلك، لم يحجم عن إسداء النصح لـ «سميعي» والمعارضة عموما. بقوله: «لو كان لي أن أعمل على تنظيم معارضة، فإنني سوف أبحث عن حليف لديه قاعدة قوة محلية وعلاقة مع المؤيدين المسلحين، وله أيضا صلات في جميع أنحاء البلاد». وتابع قائلا «أظن أن مثل هذه الجماعة [المعارضة] ستتطلع إلى الأكراد، وكي تشتري تأييدهم، سيتعين أن تعد بدويلة فيدرالية» في إيران.

ومن جانبه أيد «سميعي» هذا الرأي البريطاني قائلا «بالتأكيد ستكون دولة فيدرالية ضرورة» بعد تحقق أمل إسقاط النظام.

ثانيا: تأثير الحسابات الجيوسياسية في العلاقة مع الأكراد

في تلك الفترة ذاتها، كان «اللورد جورج براون» (Lord George Brown) وزير الخارجية البريطاني (بين عامي 1966و1968م) يدفع باتجاه استراتيجية لإعادة نفوذ بريطانيا في العالم العربي وحماية مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط، بعد اتمام مغادرتها الشرق الأوسط بالانسحاب من منطقة الخليج العربية، عام 1971م.

وفي 30 نوفمبر 1981م، كانت المسألة الإيرانية موضع نقاش مطول، خلال لقاء اللورد «براون» و«جراهام» وبُحثت إمكانية عودة المعارضة المنفية إلى إيران. وجاء اللقاء بينهما بعد عودة اللورد من جولة خارجية، التقى خلالها مع «شابور بختيار» آخر رئيس حكومة زمن الشاه «محمد رضا بهلوي» وهاجر بعد الثورة إلى باريس. ويشير محضر لقاء «اللورد» و«جراهام» إلى أن اجتماع «براون» مع «بختيار» كان أحد أسباب زيارته للعراق بدعوة من الرئيس العراقي «صدام حسين».

سأل اللورد «براون» و«جراهام» عما إذا كان «يرى أي إمكانية لعودة أي جماعة إيرانية إلى إيران وتأسيس وجود لها هنا». غير أن «جراهام» تهرب بطريقة ما من إجابة السؤال. غير أنه قال: «اعتقد أن أي جماعة ترغب أن تفعل ذلك، سوف يتعين عليها تنمية علاقاتها مع الأكراد عن طريق عرض دولة فيدرالية، كما ينبغي تقديم العرض ذاته إلى الأقليات الأخرى».

وعلق اللورد «براون» مستدعيا تجربة الأكراد بالعراق، فيما يشبه التحذير من حساسيات سياسية وأمنية محتملة من الجانب العراقي والتركي، بقوله: إن «الحاجة إلى إشراك الأكراد أثار مشكلة للعراق، وربما لتركيا أيضا».

وعندما أثار «جراهام» مسألة وصفها بأنها «صعبة» وهي القاعدة الخارجية التي يمكن أن تنطلق منها أي جماعة معارضة للنظام في إيران، عبر «براون» عن اعتقاده بأن «تركيا طريق ممكن إلى إيران».

وعلى الرغم من أن هذا التقرير الذي أعده «جراهام» عن لقائه باللورد «براون» لم يذكر شيئا عما دار بين «براون» والرئيس العراقي «صدام حسين» فإنه خلص من النقاش إلى أن العراق «لا يزال يبحث عن جماعة معارضة يمكنه استخدامها ضد نظام الخميني» وتوقع «جراهام» أن «براون» «ربما يشارك بشكل غير مباشر» في هذا المسعى العراقي.

وفي ضوء اتصالات بعض رموز المعارضة الإيرانية بالخارج مع الجيش، سواء بطريق مباشرة أو غير مباشرة، عبر «جراهام» عن اعتقاده بأنه ليس هناك احتمال أن ينقلب الجيش على النظام. وقال: «الجيش مشغول بالحرب ضد العراق، وهو على أي حال لا يبدو منظمة متجانسة يمكنها الانقلاب عن النظام» بينما علق اللورد «براون» قائلا إن الجيش الإيراني «يعمل بشكل جيد جدا، على أي حال، في ظل النظام».

وقبل شهور من النصيحة البريطانية للمعارضة بشأن إمكانية استغلال المسألة الكردية في الصراع مع النظام الثوري الجديد، حاول الفريق «غلام علي أويسي» رئيس هيئة أركان الجيش في عهد الشاه، فيما يبدو إغراء البريطانيين لدعمه في استخدام ورقة الأكراد. فقد أبلغ «أويسي» في 5 يونيو 1981م، دبلوماسيّا بالقنصلية البريطانية في باريس يدعى «جيرالد رايان» (Gerald Ryan) بأن له علاقات قوية مع زعماء القبائل الكردية خاصة في معقل الأكراد الرئيسي.

وفي تقريره عن لقائهما، أبلغ «رايان» رؤساءه بأن «أويسي» قال إنه «شخصيا كانت لديه معرفة بزعماء كل القبائل الممتدة عبر أرجاء [محافظة] كردستان» غربي إيران. وتابع مؤكدا أنه «يعتقد بأنه لا يزال له الكثير من التأثير عليهم» غير أن مصدر خوفه الوحيد، كما أبلغ «رايان» هو أن أكراد إيران «ربما يقبلون، في نهاية المطاف، أي وجود خارجي يقدم لهم حكمًا ذاتيًا، بما في ذلك وجود الاتحاد السوفييتي».

ثالثا: محددات الموقف البريطاني من القضية الكردية

نشط الأكراد ومؤيدوهم في بريطانيا، لحشد الدعم لأكراد إيران. وتشير وثائق وزارة الخارجية البريطانية إلى أن الحكومة البريطانية رفضت دعوات من هؤلاء الأكراد ومؤيديهم للتدخل في الصراع المسلح الذي اندلع بينهم وبين الحكومة الإيرانية، بعد ثورة 1979م، خاصة ان المتمردين الأكراد سيطروا، عشية انهيار النظام البهلوي، على مدن رئيسية بمحافظة أذربيجان الغربية. غير أن قوات الحرس الثوري الناشئة تمكنت من استعادت السيطرة على هذه المدن، بعد حوالي ستة شهور، ودفعت الأكراد الفرار إلى أعالي جبال كردستان الوعرة الشاهقة، وإعلان حرب عصابات ضد الحكومة المركزية.

وفي الثالث من سبتمبر 1979م، تلقت وزارة الخارجية البريطانية رسالة من مجموعة مؤيدة للأكراد في مدينة «دادلي» (Dudley) بوسط انجلترا، تسأل عن «آراء ونوايا» بريطانيا تجاه «مساعي أكراد إيران للحصول على استقلالهم».

وقالت هذه المجموعة إنها تعتقد أن «هناك مقترحات طرحت في دوائر وزارة الخارجية عن احتمال إرسال بعثة عسكرية إلى كردستان للبحث في أفضل وسيلة لمساعدة الأكراد في نضالهم» ونوهت إلى أن «الأكراد أصدقاء تقليديون للبريطانيين» وكانوا «في نزاع مع قوات الشاهات القمعية السابقة لسنوات عديدة».

وبعد دراسة الرسالة، ردت إدارة الشرق الأوسط بالخارجية البريطانية عليها معبرة عن «التعاطف مع مساعي الأكراد للحفاظ على هويتهم العرقية والإقليمية». غير أن الرد قال بوضوح «ينبغي الإشارة إلى أن الحكومة البريطانية اعترفت بحدود إيران والعراق وتركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى» ولهذا «لا تستطيع الاعتراف بكردستان مستقلة».

ورأت الإدارة أن ضمان حقوق الأكراد في أي دستور إيراني يكفي. وقالت «من المشجع أن الحكومة الإيرانية اقترحت في مسودتها للدستور الوطني أنه ينبعي أن يتمتع الأكراد، وكذلك جماعات الأقليات العرقية الأخرى، بحقوق متساوية» وأضافت الإدارة المذكورة أن بريطانيا سوف «تراقب أي تعديلات، وتحسينات يؤمل أن تكون إيجابية، على النصوص المحددة المتعلقة بجماعات الأقليات العرقية في المسودة» ثم انتهت بالتأكد على أن الحكومة البريطانية «لا تدرس إرسال بعثة عسكرية، أو أي شكل من أشكال المساعدة العسكرية للأكراد».

وفي العاشر من سبتمبر، تلقى وزير الخارجية البريطاني «اللورد بيتر كارينجتون» (Lord Peter Carrington) عريضة أخرى من ناشطين بريطانيين تحث لندن على مساعدة الأكراد في إيران والعراق وتركيا، ووصفت العريضة صمت الحكومة البريطانية بأنه «موقف لا يليق بشعب متحضر يشهد ممارسات أقرب إلى العصور الوسطى» في إشارة إلى مزاعم باضطهاد النظام الثوري في إيران للأكراد.

وتساءلت العريضة: «هل هناك أي طريقة يمكن بها للحكومة البريطانية ممارسة ضغط على الزعماء الإيرانيين من شأنه ردعهم عن اضطهاد الأكراد؟“. وقالت كاتبة الرسالة أنها «تعتقد بأنه حتى هناك شمل محدود من الإبادة يجري تنفيذه».

وفي رد رسمي نيابة عن الوزير، قالت إدارة الشرق الأوسط بوزارة الخارجية: إن البريطانيين «يشعرون بالقلق بالقدر ذاته من التقارير الأخيرة عن الاضطرابات في مناطق الأكراد وعن الوحشية من كلا الجانبين» غير أنها أشارت أيضا إلى أن القادة الإيرانيين، بمن فيهم الخميني «أعلنوا التزامهم بالمساواة بين جميع المكونات العرقية في إيران».

الجدير بالذكر هنا، أن دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ينص في مادته التاسع عشرة «يتمتع أفراد الشعب الإيراني من أية قومية أو قبيلة كانوا، بالمساواة في الحقوق، ولا يمنح اللون أو العنصر أو اللغة أو ما شابه ذلك أي امتياز» ووفق المادة المائة والرابعة والخمسين، يتعين على إيران أن «تدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أنحاء العالم، لكنها تمتنع امتناعا تاما عن جميع أشكال التدخل في الشئون الداخلية للشعوب الأخرى».

وبما أن وزير الخارجية «اللورد بيتر كارينجتون» توقع أن يعلن مرسلوا العريضة رده، فقد حرص على أن يتضمن هذا الرد رسالة غير مباشرة إلى طهران يؤكد فيها على ضرورة أخذ موقف القيادة الإيرانية في الاعتبار عند تقييم الموقف. إذ قال «البيانات الأخيرة من جانب آية الله الخميني والزعماء الآخرين لفتت الانتباه إلى المساواة في إيران بين كل الجماعات العرقية، لكنهم أكدوا في الوقت نفسه، أن معارضة الحكومة موجهة إلى المتمردين في الحزب الديمقراطي الكردي الذين قالوا [الزعماء الإيرانيون] إنهم يتلقون دعما من مصادر أجنبية متنوعة»

واستنادا إلى كل ذلك، أوضح رد الوزير أنه «هناك، للأسف، حدود لما يمكن للحكومة البريطانية فعله مباشرة للمساعدة، مالم نُعلم بالطبع بأن لمواطنينا علاقة بالاضطرابات» وحذّر من أن «أي تدخل من جانب الحكومة البريطانية في الظروف الحالية، نيابة عن الأكراد، يمكن أن قد يُفهم على أنه دليل على أن الأكراد وكذلك الحزب الديمقراطي الكردي مرتبطون بقوي خارجية، كما قد يشعل الموقف».

وبينما رفض الوزير التدخل البريطاني المباشر في الشأن الإيراني الداخلي عبر القضية الكردية، دار نقاش داخل وزارة الخارجية بشأن المسألة الكردية.

وقد توقع قسم البحوث والتحليل بإدارة الشرق الأوسط أن يأتي التدخل الخارجي من أكثر من جهة. وفي ورقة بعنوان «كردستان الإيرانية» لم تستبعد السيدة «إف جرير» (F. Grier) تدخلا سواء من الاتحاد السوفيتي او العراق أو إسرائيل، او الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أو منظمة التحرير الفلسطينية. وأشارت إلى أن الأخيرتين مدفوعتان بالتعاطف مع الأكراد باعتبارهم جماعة «تسعى لإقامة قوميتها وهويتها الإقليمية» واستبعدت الورقة المذكورة أن يُقدِم النظام الإيراني على نقل سلطة حكم الأكراد من المركز (في طهران) إلى كردستان الإيرانية. وقالت إن الخميني «لأسباب برجماتية، سيكون قلقا من أن التنازلات في كردستان قد تؤدي إلى اضطرابات أخرى بين الساعين إلى الحكم الذاتي العرب في خوزستان، الأمر الذي يؤثر، بدوره، على إمدادات البترول».

وانتهت الورقة إلى تقديرها للموقف في النقاط المهمة التالية:

• أن الأكراد في إيران قوة لا يستهان بها. فهم أفضل تسليحا من ذي قبل.

• أن قدرتهم على العمل الموحد المستمر عبر الحدود، بالتعاون مع أكراد العراق وتركيا، محدودة.

• من المرجح أن زعماء أكراد إيران لا يزالوا يفضلون تسوية عبر التفاوض، مع القيادة المركزية الإيرانية.

• أنه إذا رفض الخميني حلا سياسيا ودستوريا، فسوف يكون هناك نضالا مطولا يسعى خلاله الأكراد إلى كسب حلفاء مقاتلين آخرين، على نحو يشكل توليفة من القوات، يمكن أن تشكل تهديدا جديا للحكومة المركزية، ويركع البلاد عبر تهديد إنتاج البترول وصادراته.

في سياق النقاش الداخلي بوزارة الخارجية بشأن هذه الورقة، لفت «روبين إس جورَم» (Robin S. Gorham) رئيس إدارة الشرق الأوسط حينها، الانتباه إلى أن “اللوبي الكردي في بريطانيا نشط للغاية خلال العامين الماضيين [1980 و1981م] نيابة عن الأكراد العراقيين، ويمكن أن نتوقع بالفعل تعبيرا آخر عن الاهتمام بالأكراد عندما تبدأ دورة الخريف البرلمانية».

وبينما اتفق «جورَم» مع النتيجة التي توصلت إليها الورقة البحثية بشأن وجود قليل من المؤشرات على تعاون فعال بين الأكراد في دول المنطقة بغية إنشاء وطن مستقل، فإنه حذر من أن «ضعف الحكومة المركزية في طهران، مع المشكلات السياسية الصعبة التي تؤثر على بغداد وأنقرة، يمكن أن يشجع المتمردين [يقصد الأكراد] على زيادة مطالبهم بقدر أكبر مما فعلوا في الماضي».

رابعا: الاستخلاص النهائي:

يعد تعامل البريطانيين مع قضية أكراد إيران نموذجًا يلقي الكثير من الضوء على سياسة بريطانيا تجاه ملف الأقليات في دول الشرق الأوسط، الذي يتصدر قائمة المطالب، البريطانية والغربية، عندما ينشب صراع في تلك الدول. وتعطي الوثائق بعض المؤشرات التي قد تفسر هذه السياسية، ومنها:

• ضرورة معرفة الواقع على الأرض: على الرغم من رفضها الرسمي التدخل في شئون إيران الداخلية، بعد الثورة، تابعت بريطانيا عن كثب واهتمام كبير تطورات الأوضاع في إيران على نحو يمكنها من رصد مصادر عدم الاستقرار في البلاد، وكيفية التعامل معها، ومنها مسألة الأقليات، خاصة الأكراد.

• مبدأ الباب المفتوح: تأكيد البريطانيين، للمعارضين الإيرانيين، الواضح على اقتناعهم بأن النظام الثوري قادر على ترسيخ أقدامه وإقرار النظام في البلاد، ولكن ذلك لم يحل دون فتح قنوات اتصال دائمة مع المعارضين للنظام. وهذه القنوات هي ترجمة لمبدأ اقرته بريطانيا، بعد تجربتها القاسية مع نظام الشاه، وهو «الانفتاح على كل الأطراف».

• برحماتية النصح دون إعلان الدعم: مبدأ الباب المفتوح هو أيضا أحد تجليات رؤية بريطانية برجماتية تلتزم بـ «النصح بالإيحاء» دون «الدعم العلني بالفعل» تحقيقا لتوازن مستهدف بين النظام الحاكم، وقوى المعارضة، سواء قل، أو زاد تأثيره، وقدرتها على مواجهة الأنظمة.

• الأقليات تظل ورقة سياسية: تعتبر بريطانيا المسألة الكردية ورقة سياسية لها تأثيرها، ليس فقط داخل الدول، التي يعيش بها أكراد، بل في موازين القوى بمنطقة تتمتع بأهمية كبيرة للمصالح البريطانية، والغربية عموما.

• عين على إسرائيل: يدرك البريطانيون إن إسرائيل تعمل على استغلال ورقة الأقليات لزعزعة الاستقرار في دول المنطقة، لاسيما تلك التي ترفض دمجها في الشرق الأوسط على حساب المصالح الوطنية لتلك الدول.

• القدرة على التنبؤ: تتمتع بريطانيا بقدرات دبلوماسية واستخباراتية وسياسية، تؤهلها لتوقع مسار الأحداث في دول المنطقة، وهذا هو الذي مكنها من التنبوء، الذي ثبت صوابه، بأن النظام الثوري في إيران سوف يستقر، وأنه ليس من المصلحة الوطنية معاداته.، أو العمل، بلا جدوى، على زعزعة استقرار إيران في ظله حكمه.

متابعة القراءة