حسابات الاعتراف الفرنسي والبريطاني بالدولة الفلسطينية
الكاتب:
يمثل اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية حالة خاصة في الموقف الأوروبي؛ نظرا لأنها تحمل مسؤولية تاريخية عن إرسال الإطار القانوني والسياسي لقيام إسرائيل عبر وعد بلفور (1917) كما يُنظر إلى قرارها بهذا الاعتراف باعتباره تحوّلًا رمزيًا وسياسيًا، يعكس إعادة صياغة دورها الدولي بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
الحسابات السياسية: سعت بريطانيا، الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلى إعادة تقديم نفسها كقوة دبلوماسية مستقلة لديها مكانة ونفوذ مُستقل نسبياً عن المواقف الأمريكية، وبعيد عن الانقسامات الأوروبية. ومن ثم فقد وفّر لها هذا الاعتراف فرصة لإعادة بناء صورتها بوصفها قوة دولية مسؤولة، تسعى إلى تحقيق الاستقرار بالشرق الأوسط عبر تبني موقف يقترب من الإجماع الدولي على حل الدولتين. خاصة أن اعترافها هذا قد يعزز من قدرتها على استعادة مكانتها الدولية ودورها الإقليمي، بعد تقلصه لصالح الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي.
الحسابات الاستراتيجية: يحتل الشرق الأوسط مكانة محورية في الاستراتيجية البريطانية، سواء فيما يتعلق بأمن الطاقة، أو تأمين طرق الملاحة البحرية عبر قناة السويس والبحر الأحمر ومن ثم، جاءت حسابات اعترافها في إطار رغبتها في تعزيز علاقاتها بالدول العربية والإسلامية، والخليجية منها خاصة. على نحو يحفظ لها مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية.
كما يُمكن النظر إليه باعتباره أداة لموازنة انحيازها التاريخي لإسرائيل، ولناء الثقة مع الأطراف العربية مرة أخرى. ولم يكن اقرار بريطانيا أداة استراتيجية صِرفة؛ لتأمين مصالحها في منطقة البحر الأحمر والخليج، بقدر ما هو أيضا محاولة لإعادة تموضعها في بيئة جيوسياسية معقدة خاصة أنه من المرجح أن توظف هذا الاعتراف لفتح قنوات مع العالم العربي دون خسارة كاملة لعلاقتها بإسرائيل.
الحسابات الداخلية: يمثل البعد الداخلي أحد أبرز المحركات للقرار البريطاني، الذي يعكس إدراك لندن لخطورة الربط بين المواقف الخارجية والسلم الاجتماعي. إذ كانت بريطانيا تشهد ضغطا شعبيا وحزبيا (حزب العمال وبعض تيارات داخل حزب المحافظين) لوقف انتهاكات إسرائيل وتنكيلها بالشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية. لدرجة جعلت صانع القرار يخشى من أن يؤدي استمرار الانحياز البريطاني المطلق لإسرائيل إلى تفاقم الاحتقان الداخلي، خاصة في ظل وجود جالية إسلامية كبيرة ذات وزن انتخابي وسياسي. وبالتالي كان اعترافها بالدولة الفلسطينية وسيلة لاحتواء الاحتقان الداخلي وتأكيد التزام لندن بالقانون الدولي. والظهور بمظهر المدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعن حقوق الانسان، وربما التطهر من مواقفها غير العادلة بحق الشعب الفلسطيني، منذ 1917م.
الحسابات الاخلاقية: حرصت بريطانيا في خطابها الرسمي على التأكيد عللا أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يندرج في إطار التزامها بمبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحق تقرير المصير، وحقوق الإنسان. ويُعد هذا البعد محاولة لتخفيف الإرث التاريخي في المنطقة المرتبط بوعد بلفور، وإعادة تبرير الموقف البريطاني في ضوء قيم العدالة وحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من أن الخطاب القيمي وفّر للقرار البريطاني غطاءً معنويًا، إلا أن الاعتبارات السياسية والداخلية تظل الأكثر تأثيرًا في هذا الشأن، مما يجعل البعد الأخلاقي أداةً لتعزيز الشرعية أكثر من كونه دافعًا رئيسيًا. ويمكننا اعتبار أن هذا البعد يُمثل محاولة لإعادة بناء صورة بريطانيا الأخلاقية أمام الرأي العام العالمي.
ثالثا: تأثير الاعتراف على المصالح الأوروبية:
ما شك فيه أن الاعتراف الفرنسي والبريطاني بدولة فلسطين يحمل قيمة رمزية في تعزيز الدور الأوروبي المستقل عن الولايات المتحدة، كما يسهم في تحسين صورة أوروبا أمام الرأي العام العربي والإسلامي. لكنه قد يعرّض العلاقات الأوروبية–الإسرائيلية للتوتر، ويثير حذر واشنطن، ويمكننا تناول ذلك فيما يلي:
التأثير السياسي: أعاد الاعتراف طرح السؤال حول قدرة الاتحاد الأوروبي على صياغة موقف موحد تجاه الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. في ظل الانقسامات الداخلية بالاتحاد، إذ تتبنى بعض الدول مواقف داعمة لفلسطين، بينما ظلت أخرى متحفظة؛ خشية توتر علاقاتها بإسرائيل أو الولايات المتحدة. وفي الوقت ذاته،
لذلك، منح هذا الاعتراف زخماً للسياسة الخارجية الأوروبية، بوصفها طرف يسعى إلى لعب دور أكثر فاعلية في التسويات السياسية. وبالتالي يمكننا القول إن الاعتراف يُمثل فرصة للاتحاد الأوروبي لتعزيز صورته كقوة معيارية (Normative Power) لكن الانقسام الداخلي قد يحد من فعاليته في تحويل الموقف إلى سياسة موحدة وملزمة.
التأثير الاستراتيجي: يمثل الاعتراف الفرنسي والبريطاني رسالة موجهة إلى الأطراف الإقليمية، العربية منها والخليجية خاصة، مفادها أن أوروبا مستعدة للتعامل معها كشريك متوازن. مما يعزز من قدرتها على حماية مصالحها في مجالات الطاقة والملاحة البحرية عبر البحرين الأحمر والمتوسط. كما قد يساعد على موازنة الدور الأمريكي المتفرد في إدارة هذه القضية، بما يمنح أوروبا. وعلى الرغم من أن الاعتراف يتيح لأوروبا هامشا أكبر للمناورة في الشرق الأوسط، إلا أنها لا تزال محدودة القدرة على فرض نفوذ فعلي، خاصة أنها لا تمتلك أدوات ضغط سياسية أو عسكرية حقيقية، وهو ما يجعل اعترافها أقرب إلى الرمزية من التأثير في ظل الحسابات المختلفة.
التأثير الاقتصادي: قد يسهم الاعتراف في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والدول العربية، إذ بات يُنظر إلى الموقف الأوروبي على أنه بادرة حسن نية، قد تُترجم إلى فرص استثمارية وشراكات اقتصادية أوسع. وفي المقابل، ثمة مخاوف من توتر العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، لا سيما في مجالات التكنولوجيا والتعاون البحثي، خاصة أن إسرائيل تعد شريكًا مهمًا لبعض الدول الأوروبية. وبالتالي فإن الكلفة الاقتصادية للاعتراف قد تكون غير محدودة، على اعتبار أن العلاقات الأوروبية –الإسرائيلية قائمة على مصالح متبادلة يصعب التضحية بها من الطرفين، على الرغم من أن الإغراءات العربية شكلت حافزًا إضافيًا للقرار.
التأثير الأمني–المجتمعي: يرتبط الاعتراف الفرنسي والبريطاني أيضًا باعتبارات الأمن الداخلي؛ إذ يخفف الاعتراف من حدة الاحتقان داخل المجتمعات الأوروبية، التي تضم جاليات عربية وإسلامية واسعة. كما يساهم في تحسين صورة أوروبا لدى الرأي العام العربي والإسلامي، بما قد يقلل من استهدافها بخطابات التطرف. وفي المقابل، يُخشى أن يؤدي أيضا إلى توتر مع إسرائيل على نحو قد يؤثر على التعاون الأمني والاستخباري معها، ويضعف التنسيق مع الولايات المتحدة.
رابعاً: مدى جدّية الاعتراف الفرنسي والبريطاني بفلسطين:
يعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية أقرب إلى كونه أداة ضغط سياسية ورمزية، أكثر منه تحولًا استراتيجيًا في الموقف الأوروبي. ولكن الاعتراف الفرنسي والبريطاني يمثّل خطوة متقدمة نسبيًا في سياق الدعم الأوروبي للقضية الفلسطينية، لكنه لا يعكس بعدُ إرادة سياسية كاملة لتغيير موازين القوى. فالمبادرة تبدو أقرب إلى محاولة لإدارة الضغوط الداخلية، وتحصيل مكاسب استراتيجية محدودة، والحفاظ على صورة أخلاقية أمام الرأي العام العالمي. ولذا، فإن جدواه تبقى محدودة ما لم يُستثمر في إطار أوروبي جماعي يتسم بالانسجام والقدرة على التأثير الفعلي في مسار التسوية.
على المستوى الرمزي–السياسي: يمثل الاعتراف خطوة سياسية ذات طابع رمزي أكثر من كونه تحولًا جوهريًا، إذ يسعى بالأساس إلى توجيه رسالة سياسية لإسرائيل، مفادها أن استمرار الاحتلال يضعف من فرص التسوية، ورسالة أخرى موازية للعالم العربي مفادها أن أوروبا لا تزال طرفًا فاعلًا في الصراع.. غير أن الرمزية لا تكفي وحدها لإحداث تحول ملموس في موازين القوى، لأن الجدّية مشروطة بآليات تنفيذية غير موجودة
على المستوى القانوني–الدبلوماسي: لا يغيّر هذا الاعتراف من الواقع القانوني الدولي بشكل مباشر، لكنه يُمثل قيمة مضافة للموقف الفلسطيني ويعززه في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، إذ يمكن استخدامه دليلا على تزايد اكتساب الشرعية الدولية للدولة الفلسطينية. مع ذلك، فإن غياب إجماع أوروبي وتراجع دعم الولايات المتحدة لهذا التوجه يقلل من قوته الدبلوماسية. وبالتالي، فمن المحتمل أن يظل أثره محدودًا ما لم يكن مدعومة بأدوات ضغط حقيقية.
على المستوى العملي–المؤسسي: نظرا لأن الاعتراف الفرنسي والبريطاني لم يترافق مع خطوات تنفيذية مثل فتح سفارات فلسطينية على نطاق أوسع، أو الضغط على الاحتلال الإسرائيلي، أو يترجم لسياسات مؤسسية داعمة لبناء الدولة الفلسطينية، فسوف بظل عند حدود الإعلان السياسي، أقرب إلى أداة ضغط معنوية من كونه تحولًا استراتيجيًا.