الرئيسية » الدراسات » سقوط الفاشر الأبعاد والتداعيات

سقوط الفاشر الأبعاد والتداعيات

الكاتب:

أولًا، التطورات الميدانية:
تعيش الفاشر واحدة من أكثر المراحل دموية، منذ اندلاع الحرب السودانية في أبريل 2023م، إذ أدّت سيطرة قوات الدعم السريع عليها في 26 أكتوبر 2025م، إلى وضع الإقليم الغربي بأكمله تحت قبضتها، وإنهاء الوجود الميداني للجيش في دارفور. وذلك بعد حصارٍ دام ثمانية عشر شهرًا، مارست فيه قوات الدعم السريع جميع الممارسات؛ لإخضاع المدينة من الداخل عبر إنهاك سكانها وقطع طرق الإمداد عنها.
وقد مثّل سقوط الفاشر تطورا ميدانيا جعل دارفور بأكملها ومعظم مناطق كردفان ضمن نفوذ قوات الدعم بزعامة «محمد حمدان دقلو» بينما انحصر وجود الجيش في الخرطوم وبعض الولايات الشرقية المتاخمة للبحر الأحمر. ليأخذ الصراع طابعًا جغرافيًا يدفع البلاد إلى الانقسام لإقليمين متقابلين، أحدهما يدار بمنطق الدولة المركزية، والآخر بمنطق القوة العسكرية الفعلية، في مؤشرٍ على دفع السودان إلى دائرة التقسيم مرة أخرى، بعد انفصال جنوبه عام 2011م.
وقد حمل هذا التطور معه مأساة إنسانية. رصدتها تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة، حيث قُتل، خلال الأيام الأولى التي أعقبت سقوط المدينة، آلاف المدنيين؛ بسبب القتال العشوائي وعمليات الإعدام الميداني، بينما نزح أكثر من 62 ألف شخص في أقل من أربعة أيام، وبقي نحو 177 ألفًا محاصرين داخل المدينة دون ممرات آمنة، أو وصول مستمر للغذاء والدواء. وتشير شهادات ميدانية متقاطعة إلى أنّ قوات الدعم السريع اقتحمت المستشفيات والملاجئ، وأطلقت النار على من فيه المرضى والمصابين والأطقم الطبية. في حين أكدت منظمة الصحة العالمية أن الهجوم على مستشفى السعودي في الفاشر أسفر عن مقتل أكثر من 460 مدنيًا، بينهم مرضى وطاقم طبي.
وأظهر تحليل صور الأقمار الصناعية الذي أجراه مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة «ييل» تجمعات جثث بمحيط المستشفى والمناطق السكنية المجاورة، على نحو أكد وقوع مجازر جماعية فور اقتحام قوات الدعم السريع المدينة. كما أكّدت تحقيقات أخرى صحة مقاطع مصوّرة نُشرت على منصات التواصل الاجتماعي تُظهر أحد العناصر الملقب بـ«أبو لولو» وهو ينفذ عمليات إعدام بحق مدنيين عُزّل. وعلى الرغم من أن «محمد حمدان دقلو» أعلن فتح تحقيق ومحاسبة المتورطين فيها، إلا أن الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية شككت في جدية هذا الإعلان؛ مُذكرة بوعودٍ مشابهة أعقبت مجازر «الجنينة» (2023م) و«الجزيرة» (2024م) التي لم تسفر عن أي نتائج ملموسة.
وعلى الرغم من مزاعم الدعم السريع التزامه بحماية المدنيين، إلا أن التعتيم الإعلامي المفروض على الفاشر وقطع الاتصالات واستمرار القصف الجوي والمدفعي المتبادل بمحيط المدينة، أشار إلى أنّ الوضع الميداني لا يزال بعيدًا عن الاستقرار. ويصف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الوضع الحالي بأنه «نقطة انهيار شاملة» بعدما فشلت محاولات فتح ممرات إنسانية آمنة باتجاه مدن «طويلة» و«المالحة» و«كتم» التي استقبلت موجات نزوح متتالية في ظل أوضاع بالغة السوء.
وعليه، يمكن القول إنّ سقوط الفاشر لم يغير موازين القوى العسكرية بقدر ما أعاد تشكيل الواقع الإنساني والسياسي في غرب السودان بأكمله، عبر فرض واقع مركّب يجمع بين الانهيار الأمني والانقسام الإثني والفراغ الإداري، كما فتح الباب أمام مزيد من التدخلات الخارجية، تحت غطاء العمل الإنساني أو حماية المدنيين. وهو ما جعل الفاشر اليوم محور اختبار حقيقي لمفهوم السيادة السودانية وقدرة الدولة على البقاء، ناهيك عن أنه جعلها نقطة ارتكاز لأي قراءة إقليمية للأمن المصري في الجنوب الغربي، بحكم تداخل خطوط النزوح، وشبكات السلاح، وعدم الاستقرار العابر الحدود.
ثانيًا: بنية القوة المسيطرة على غرب السودان:
يمثل سقوط الفاشر انتقال السيطرة على الإقليم من مؤسسات الدولة إلى قوة مسلحة منظمة قادرة على إدارة الموارد وفرض السيطرة وإعادة تشكيل الإدارة المحلية وفق رؤيتها الخاصة. ويعكس هذا التحوّل بروز بنية حكم موازية تتمتع باستقلالية عملية ومالية، وتتيح لقوات الدعم السريع ممارسة نفوذ دائم على الأرض، على نحو قد يجعل من غرب السودان كتلة شبه مستقلة سياسيا واقتصاديا، وهو الأمر الذي يستدعي دراسة متأنية لتفاصيل انتشار هذه القوات وأدوات حكمها، واستراتيجياتها في ترسيخ سلطتها الموازية لسلطة الدولة.
  1. فرض السيطرة: مع سقوط الفاشر، خضعت جميع عواصم دارفور الخمس إلى سيطرة قوات الدعم السريع، ولم يعد غرب السودان يبدو كإقليم، بل بدأ يتصرف كأنه سلطة موازية، تمتلك إطارًا جغرافيًا متصلًا، وموارد ثابتة، ومرتكزات إدارية واقتصادية مستقلة عن السلطة المركزية. فمع تراجع الجيش شرقًا نحو بورتسودان، انتقلت قوات الدعم لتأمين الممرات التي تربط الفاشر بالحدود التشادية والليبية وأفريقيا الوسطى، باعتبارها شرايين بقاء أساسية تضمن نقل الوقود والغذاء والذهب، وبالتالي تضمن استمرار قدرتها على تمويل العمليات وإدارة مناطق حكمه غير الرسمي.
لقد بدا انتشار قوات الدعم السريع وكأنه يهدف إلى تحويل غرب السودان إلى منطقة نفوذ ذات اقتصاد مستقل. فعززت سيطرتها على مسارات التجارة العابرة للحدود، وفرضت ترتيبات أمنية وجبائية تسمح لها بالتحكم في حركة السلع، خصوصًا الذهب الذي يُنقل من جبل «عامر» وشمال دارفور نحو الأسواق الإقليمية عبر تشاد وليبيا. كما تولّى قادة المحاور مسؤوليات شبه إدارية، تشمل تنظيم الجبايات المحلية وحماية مناجم الذهب وتأمين خطوط الإمداد، ما منح قوات الدعم السريع قدرة على العمل كجهاز حكومي بديل. وبذلك جاء الانتشار بعد سقوط الفاشر ليكرّس واقعًا سياسيًا جديدًا يشير إلى غرب سوداني تُديره سلطة مسلحة تمتلك موارد، وتفرض الأمن بالقوة، وتسيطر على المعابر الدولية، وتتعامل مع الإقليم باعتباره إطارًا جغرافيًا مستقلًا، لا مجرد مساحة نفوذ داخل دولة منهكة.
  1. تشكيل السلطة المحلية: بعد سيطرة قوات الدعم السريع على الفاشر وعواصم دارفور الخمس، فرضت نمط إدارة محلية غير رسمية لغرب السودان، يديرها ضباط وقادة محاور. وجاء هذا التحوّل نتيجة فراغ مؤسسي كامل عقب انسحاب الجيش وانهيار مؤسسات الدولة هناك، مما أتاح لقوات الدعم إعادة صياغة وظائف الحكم اليومية بما يضمن استمرار نفوذها. وبذلك ظهرت هياكل إدارية مؤقتة تتولى الأمن الداخلي وتنظيم الأسواق وإدارة شؤون السكان، دون الرجوع إلى السلطة المركزية، أو القوانين الرسمية، وهو ما رسخ نمط سلطة قائم على شرعية السيطرة، وليس على شرعية الدولة. وقد اعتمدت هذه الإدارة على عناصر محلية لتسيير المحاكم العرفية واللجان الأمنية ومكاتب الجباية وتسوية النزاعات، اعتمادا على القوة الميدانية؛ للحفاظ على الاستقرار ومنع أي مقاومة.
كذلك رسّخت قوات الدعم نفوذها المالي والإداري عبر شبكات جباية متنوعة المصدر، شملت رسومًا على حركة الشاحنات وإتاوات على القوافل وضرائب على التعدين الأهلي، خاصة في مناطق مثل «جبل عامر» و«كردفان» لتحويل هذه العائدات إلى تمويل ثابت للعمليات العسكرية ولإدارة المحاور المحلية. وقد منح هذا النظام القادة المحليين في كل محور سلطة واسعة، تشمل إدارة الموارد وتأمين الطرق وحماية المناجم وتنظيم التجارة، مما أوجد طبقة قيادية إقليمية شبه مستقلة تتخذ قرارات دون الرجوع للقيادة العليا في «أم درمان» أو «الخرطوم» وهكذا تحول غرب السودان تدريجيًا إلى شبكة من السلطات المحلية المسلحة، تدعمها قوة عسكرية وموارد اقتصادية خارجة عن سلطة الدولة المركزية.
  1. التحوّل إلى سلطة موازية: فرضت قوات الدعم السريع الأمن بالإكراه داخل المناطق الخاضعة لنفوذها، عبر نصب الحواجز والمتاريس على الطرق بمداخل المدن والمناطق الريفية، واحتجاز واعتقال عناصر، وفرض نظم أمنية محلية، مما منحها خصائص مؤسسة حكومية بديلة -على الأقل. تصعب على الحكومة المركزية إعادة فرض سلطتها دون عمليات عسكرية واسعة. وتصف تقارير الأمم المتحدة والتحليلات الميدانية هذه الظاهرة بأنها تقسيم فعلي للسيادة داخل السودان.
وقد استغلت هذه القوات سيطرتها على مناجم الذهب الصغيرة في دارفور وكردفان، في توليد سيولة نقدية ضخمة تُدار بعيدا عن أجهزة الدولة الرسمية. واستخدمتها في شراء الأسلحة وخدمات المرتزقة وتحريك شبكات التصدير عبر تشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، نحو أسواق دولية وخليجية. كما سيطرت على مسارات تهريب المنتجات الزراعية والماشية، مما منحها أدوات ضغط اقتصادية واجتماعية على السكان المحليين. وقد خلصت دراسات ميدانية ومنشورات فكرية إلى أن هذه السيطرة على الموارد تشكل أحد أعمدة استمرار اقتصاد الحرب وبقاء الكيانات الموازية للدولة.
  1. التمهيد للانفصال: إن استمرار وجود بنية حكم موازية تحت سيطرة قوات الدعم السريع لا يقتصر تأثيره على فقدان الدولة لجزء من سلطتها، بل يخلق واقعًا سياسيًا وإداريًا مستقلًا عن الخرطوم، يمكن اعتباره خطوة أولى نحو تكريس انفصال فعلي على الأرض. فالسيطرة المتكاملة على الموارد الحيوية، ومسارات التهريب، تمنح قوات الدعم السريع قدرة على تمويل بنيتها العسكرية والإدارية بشكل مستقل عن الدولة المركزية، مما يعزز من استقرارها الذاتي، ويجعل أي محاولة لإعادة فرض السلطة الحكومية التقليدية معقدة ومكلفة جدًا.
ثالثًا: الأبعاد الإقليمية والدولية:
لم يكن سقوط الفاشر حدثًا محليًا منعزلًا؛ لقد مثّل نقطة تحوّل إستراتيجية تُعيد رسم خرائط النفوذ في غرب السودان والقرن الأفريقي. كما أن السيطرة المتلاحقة لقوات الدعم السريع على عواصم دارفور الخمس وحيازة المحاور اللوجستية المحيطة جعلت من غرب السودان كتلة نفوذٍ تُدار عمليًا خارج إطار الدولة المركزية، مع انعكاسات مباشرة على دول الجوار وممرات التجارة والتهريب الإقليمية.
  1. تهديد الأمن القومي المصري: يمثّل سقوط الفاشر تحولًا استراتيجيًا بالغ الحساسيّة للمنظور الأمني المصري، إذ تنتقل دارفور من كونها منطقة اضطراب بعيد نسبيًا، إلى كتلة نفوذ موازية تُدار من قِبل قوات الدعم السريع، بما يحمله ذلك من ضغوط حدودية مباشرة على مصر. فمع انهيار مؤسسات الدولة في غرب السودان، تتزايد احتمالات تدفّق موجات نزوح غير منضبطة نحو الشمال، وتنامي نشاط شبكات التهريب -بما فيها تهريب السلاح والبشر- ما يفرض على القاهرة تحديات أمنية في محيطها الجنوبي الذي كان تاريخيًا أقل تهديدًا مقارنةً باتجاهي ليبيا وغزة.
ويؤدي تفكك السودان إلى إضعاف حليف تقليدي لمصر في ملفات استراتيجية مثل مياه النيل وتأمين البحر الأحمر، ويخلق فرصًا لفاعلين إقليميين لإعادة تشكيل نفوذهم داخل السودان بمعزل عن الدولة المركزية.  والأخطر أن القدرات الاقتصادية التي باتت تمتلكها ولو بشكل مؤقت قوات الدعم السريع تمنحها قدرة على بناء علاقات خارجية مرنة قد تشمل إثيوبيا، سواء عبر التحالفات اللوجستية، أو توظيف أراضي غرب السودان كعمق استراتيجي للتأثير في مسارات الضغط على القاهرة.  وعليه، فإن سقوط الفاشر لا يمثل انهيار مدينة بقدر ما يمثل انكسارًا جيوسياسيًا يعيد رسم موازين القوة في السودان والقرن الأفريقي، ويجبر القاهرة على التعامل مع وضع إقليمي أكثر خطورة.
  1. تعزيز شبكات التهريب: أدّى سقوط الفاشر إلى إعادة تشكيل البنية الأمنية في المثلث الحدودي بين ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وهي منطقة تُعد تاريخيًا أحد أكثر الفضاءات الهشة في القارة الأفريقية. فمع سيطرة قوات الدعم السريع على دارفور، عادت شبكات التهريب العابرة للحدود لتعمل بكثافة، مستفيدة من غياب سلطة الدولة، ومن الطبيعة الصحراوية التي تسمح بحركة غير مُقنّنة للذهب والأسلحة والوقود والبشر. ومن ثم تطوّرت هذه الشبكات من مجرد مسارات لتجارة غير رسمية إلى بنية لوجستية موازية تدعم اقتصاد الحرب في غرب السودان، وتوفّر لقوات الدعم قدرة تمويل مستدامة تقلّل من اعتمادها على مصادر خارجية مباشرة.
ويحمل هذا الوضع انعكاسات استراتيجية على مصر، خاصة أن تنشيط هذه التحركات الحدودية يُنشئ مسارًا غير مباشر لمرور السلاح والعناصر المسلحة، عبر تشاد وليبيا، بما قد يعيد توجيه جزء من هذه التدفقات نحو الحدود الغربية أو الجنوبية لمصر، خصوصًا في ظل هشاشة الجنوب الليبي. وفي ظل غياب سلطة مركزية قوية في الخرطوم، تصبح هذه الشبكات أكثر قدرة على المناورة، بما يعمّق التهديدات العابرة للحدود ويزيد أعباء القاهرة فيما يتعلق بأمن الحدود ومكافحة الجريمة المنظمة.
  1. تهديد الأمن البحري: كشف سقوط الفاشر مدى عجز المؤسسات السودانية في الإقليم الشرقي، حيث بات تآكل سلطتها ينعكس على قدرة الدولة على إدارة سواحلها الممتدة على البحر الأحمر. فمع انشغال الجيش السوداني بتثبيت وضعه في الشرق، وفقدان الخرطوم السيطرة الكاملة على الداخل، تتراجع فعالية أجهزة الرقابة البحرية، ويزداد احتمال انخراط شبكات تهريب السلاح والذهب والوقود في استخدام الموانئ أو المياه الإقليمية. وبذلك يُصبح البحر الأحمر عُرضة لاختراق فواعل مسلحة، أو شبكات لوجستية موازية ذات حساسية عالية، نظرًا لارتباط البحر الأحمر بالطرق التجارية العالمية.
ويزداد أثر هذا الانكشاف على الأمن القومي المصري بالنظر إلى مركزية البحر الأحمر كامتداد استراتيجي لحدود مصر البحرية الجنوبية، ورافد مباشر لحركة التجارة العابرة لقناة السويس. فكل اضطراب داخل السودان يضيف طبقة من المخاطر على أمن الملاحة، ويزيد الأعباء المالية والعسكرية على القاهرة لضمان حماية الممرات البحرية. كما أن احتمالات استغلال أطراف إقليمية أو وكلاء محليين لحالة السيولة في السودان لإعادة تشكيل النفوذ في البحر الأحمر قد يؤدي إلى تغيّر في التوازن الإقليمي.
  1. اختلال التوازن بمنطقة الخليج: يُمثّل الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع أحد العوامل المحورية التي تعيد تشكيل موازين القوى داخل الإقليم الخليجي والسودان على حد سواء. فقد وفّرت الإمارات الدعم المالي واللوجستي لقوات الدعم السريع، مما منحها قدرة على تحقيق انتصارات ميدانية سريعة آخرها اجتياح الفاشر، وهو ما يزيد من نفوذها السياسي والعسكري على المستوى المحلي، ويحوّلها إلى لاعب رئيسي في مرحلة التسوية السياسية اللاحقة للحرب الطاحنة التي تشهدها السودان.
ويدعم هذا التحرك الإماراتي إستراتيجيتها في تعزيز نفوذها خارج حدود الخليج، وهو ما قد يُعد تقليصًا لدور السعودية وقطر في ملفات السودان ومنطقة شرق إفريقيا. فالتحالف مع الدعم السريع يتيح للإمارات قاعدة نفوذ قوية بمنطقة غرب السودان، يمكنها استخدامها لتحقيق أهداف جيوسياسية وجيواقتصادية، بما في ذلك مراقبة خطوط الإمداد والموارد الطبيعية كالذهب والمعادن، وتوسيع شبكة النفوذ الإقليمي. كما أن تعزيز دورها في السودان يتيح لها فرصة لتشكيل تحالفات جديدة مع أطراف إقليمية مثل إثيوبيا وتشاد، وبالتالي تقليل نفوذ قوى خليجية منافسة أو القوى الإقليمية التقليدية.
رابعًا: التحديات المستقبلية والسيناريوهات المحتملة
لم يعد سقوط مدينة الفاشر مجرد محطة عسكرية في حرب طويلة، بل تحوّل إلى نقطة انعطاف استراتيجية أعادت تشكيل الواقع السياسي والأمني في السودان بأكمله. ففي غضون بضعة أشهر، تمكنت قوات الدعم السريع من بسط سيطرتها على معظم دارفور وأجزاء واسعة من كردفان، لتتحول المنطقة الغربية من عمق جغرافي تابع للدولة المركزية إلى منصة تُعاد منها هندسة موازين القوة داخل السودان وفي محيطه الإقليمي.
بهذا خسرت الدولة السودانية فعليًا سيادتها على أكثر من ثلث مساحتها الغربية، ووجدت نفسها أمام تهديد وجودي غير مسبوق يستنزف قدرات جيشها الوطني، وتآكل لسلطتها المركزية. بالتوازي، بدأت العواصم الإقليمية تعيد حساباتها بسرعة. فمصر، التي طالما رأت النزاع السوداني تهديدًا بعيدًا، أصبحت تعتبر تمدد الدعم السريع خطرًا مباشرًا على أمنها القومي ومساراتها المائية. أما تركيا، التي ضخت استثمارات ضخمة في السودان، خلال العقد الماضي، فتواجه اليوم احتمال تحوّل تلك الاستثمارات إلى أوراق ضغط بيد قوة مسلحة لا تخضع لأي سلطة مركزية واضحة.
أما الإمارات، الداعم الأبرز والأكثر إثارة للجدل، فوجدت نفسها في مأزق استراتيجي معقد، فدعمها لقوات الدعم السريع لم يعد سرًا، لكنه صار في نفس الوقت عبئًا دبلوماسيًا ثقيلاً في مواجهة ضغوط أمريكية وأوروبية متزايدة، وتوترات متصاعدة مع الرياض والقاهرة. فتحولت الحرب السودانية بالنسبة لأبو ظبي من رهان جيوسياسي واعد إلى اختبار حقيقي لقدرتها على إدارة المخاطر في بيئة إقليمية متفجرة.
الأخطر من ذلك كله أن الفراغ الأمني الذي خلّفه انهيار الدولة في الغرب السوداني بدأ يتحول إلى فضاء مفتوح لشبكات التهريب والتسليح العابر للحدود. فالطرق التي تسيطر عليها الدعم السريع اليوم، من الفاشر إلى أم درمان مرورًا بالحدود مع ليبيا وتشاد والنيجر، ليست مجرد ممرات تجارية، بل شرايين حياة لاقتصاد الحرب، ومنصات انطلاق محتملة لجماعات متطرفة أو ميليشيات جديدة. فكل كيلومتر تسيطر عليه الدعم السريع اليوم هو كيلومتر يخرج غدًا من تحت سيطرة أي سلطة مركزية مستقبلية، مهما كان شكلها.
في ظل هذا الواقع الجديد، هناك عدد من السيناريوهات المحتملة في هذا الشأن:
السيناريو الأول: ترسّخ نفوذ قوات الدعم السريع وتوسع سيطرتها: يقوم هذا السيناريو على احتمال نجاح قوات الدعم السريع في تحويل مكاسبها العسكرية إلى بنية سلطة مستقرة تُدير من خلالها دارفور وشمال كردفان كفضاء سياسي–أمني شبه مستقل عن المركز. ويستند ذلك إلى منظومة داعمة تشمل تدفّق الإمدادات الخارجية، وعلى رأسها الدعم الإماراتي الذي لعب دورًا محوريًا في توفير الموارد العسكرية واللوجستية والمالية، إلى جانب شبكات التهريب العابرة للحدود. ويسهم هذا الدعم في منح قوات الدعم السريع قدرة على إدارة تحالفات قبلية واقتصادية محلية، وتثبيت شرعية أمر واقع تُحوّل حضورها من فصيل مسلح إلى سلطة مهيمنة داخل الإقليم.
ومع تراجع قدرة الدولة المركزية على إعادة بسط نفوذها في الغرب، تتسع الفجوة الجغرافية والسياسية بين دارفور والخرطوم، ويزداد الضغط على دول الجوار-خصوصًا مصر وتشاد-اللتين تواجهان تحديات أمنية متصاعدة على حدودهما؛ نتيجة تمدد هذا الكيان المسلح. وإذا استمر هذا المسار، فإن دارفور لن تكون مجرد منطقة خارج سيطرة المركز، بل سوف تتجه تدريجيًا نحو صيغة حكم موازٍ تدعمها موارد الإقليم وشبكات التمويل الخارجي، بما فيها الإمارات، ما يشكّل خطوة فعلية نحو تقسيم فعلي للخريطة السودانية، ويُرسّخ حالة تفكك طويل الأمد يصعب على الدولة المركزية احتواؤه أو عكس مساره.
السيناريو الثاني: استعادة الدولة المركزية زمام المبادرة العسكرية: يفترض هذا السيناريو نجاح الجيش السوداني، مدعومًا من مصر وتركيا، في وقف زخم الدعم السريع وإعادة التوازن الميداني عبر عمليات مضادة في ولايات دارفور وشمال كردفان. وقد بدأت ملامح هذا المسار بالظهور من خلال إنشاء غرف عمليات مشتركة، وتفعيل منظومات إنذار مبكر، وتعزيز خطوط الإمداد للقوات الحكومية على حدود مصر والسودان. فإذا استطاع الجيش السوداني التحوّل من الدفاع إلى الهجوم فقد يستعيد سيطرته على بعض المراكز الاستراتيجية، ويقطع شبكات التهريب التي تعتمد عليها قوات الدعم السريع. ورغم أن نجاح هذا السيناريو لا يعني بالضرورة استعادة الدولة سيطرتها الكاملة على الغرب، إلا أنه يفتح الباب أمام إعادة تمكين مؤسسات الدولة تدريجيًا، ويفرض على الدعم السريع العودة إلى طاولة التفاوض من موقع أضعف، ويخفّف الضغوط الأمنية على دول الجوار، خصوصًا مصر وتشاد.
السيناريو الثالث: تسوية سياسية بضغوط دولية وإقليمية: يرتكز هذا السيناريو على إمكانية أن تصبح كلفة استمرار الحرب أعلى من قدرة الأطراف على تحملها، خاصة مع تشابك الأدوار الإقليمية، وتعاظم خشية القوى الكبرى من تفكّك السودان وتحوّل دارفور وشمال كردفان إلى فضاءات مفتوحة للجماعات المسلحة وشبكات التهريب العابرة للحدود.
وفي هذا السياق، قد تدفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى جانب مصر والسعودية وتركيا، نحو تسوية سياسية مُلزمة تقوم على وقف إطلاق نار مراقَب دوليًا، وترتيبات أمنية طويلة الأمد تشمل إعادة هيكلة القوات النظامية دون دمج فوري للدعم السريع، وإطلاق مسار تفاوضي تشارك فيه القوى المدنية.
ويستند هذا السيناريو إلى فرضية أن الأطراف الإقليمية ستجد أن التدخل العسكري المباشر أو استمرار الدعم غير المباشر يهدد استقرارها هي نفسها، ما يحوّل أدوات النفوذ الخارجي من وسائل تعزيز الاصطفافات إلى وسائل ضغط لفرض اتفاق سياسي. ورغم ضعف هذا المسار، فإن تعاظم المخاطر الإنسانية والانهيار المؤسسي قد يجعله أحد الخيارات لمنع انزلاق السودان نحو تفكك شامل.
خامسًا: خاتمة وتوصيات
لم يكن سقوط الفاشر مجرد تطور تكتيكي في الصراع الدائر بالسودان، بل كان لحظة حاسمة أعادت تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية والأمنية في السودان والمنطقة. إن تحوّل المناطق الغربية من عمق استراتيجي للدولة إلى منصة لإعادة هندسة موازين القوى، يمثل اختراقاً خطيراً لسيادة الدولة ويهدد بتمزيق النسيج الوطني السوداني.
يواجه السودان اليوم مفترق طرق مصيري، تُحدد معالمه ثلاثة سيناريوهات رئيسية: إما ترسخ نفوذ قوات الدعم السريع مما يمهد الطريق نحو حكم موازٍ وتفكك طويل الأمد، أو استعادة الجيش السوداني للزخم العسكري بمساعدة إقليمية لفرض واقع جديد، أو اللجوء إلى تسوية سياسية تحت ضغوط دولية لمنع انهيار الدولة بالكامل. ويحمل كل مسار من هذه المسارات في طياته مخاطر جسيمة وتداعيات بعيدة المدى، ليس على السودان فحسب، بل على استقرار منطقة الساحل الأفريقي بأكملها.
ولم يعد الفراغ الأمني الناتج عن انهيار الدولة في الغرب السوداني شأنًا داخليًا، بل تحول إلى تهديد إقليمي وعالمي، حيث أصبحت هذه المناطق فضاءً مفتوحاً لشبكات التهريب والتسلح العابر للحدود، ومرتعًا محتملًا للجماعات المتطرفة.
إن استمرار الصراع لا يهدد الوحدة الترابية للسودان فحسب، بل يزيد من تعقيد المشهد الأمني في دول الجوار، ما يستدعي متابعة دقيقة للتحالفات الإقليمية والمصالح المتشابكة، وسبل إدارة الأزمة بشكل يحد من التصعيد ويجنب المنطقة أزمات أوسع.
لقد أصبح الواقع السوداني، بعد سقوط الفاشر وتوسع نفوذ الفاعلين المسلحين، بحاجة ملحّة إلى مقاربة متعددة المستويات؛ داخلية وإقليمية ودولية، لمنع انزلاق البلاد نحو تفكك يصعب ترميمه لاحقًا. ويتطلب هذا الواقع إعادة ضبط مسارات التدخل الخارجي، وتوجيهها بما يخدم استعادة الدولة السودانية لوظائفها الأساسية، لا ترسيخ مراكز قوى موازية. وهنا تبرز ثلاث مسارات رئيسية ينبغي العمل عليها بشكل متزامن:
  • أولًا، ضرورة ممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية مستمرة على الأطراف الإقليمية المنخرطة في دعم قوات الدعم السريع، وعلى رأسها الإمارات، لضمان تقليص تدفقات السلاح والتمويل التي تغذي ديناميات الانقسام.
  • ثانيًا، تعزيز قدرات المؤسسة العسكرية السودانية لتمكينها من وقف تمدد القوات غير النظامية واستعادة الحد الأدنى من السيطرة على المراكز الحضرية وخطوط الإمداد. فاستعادة توازن القوة على الأرض شرط أساسي لأي مسار سياسي قابل للاستمرار.
  • ثالثًا، إطلاق مسار سياسي شامل تشارك فيه القوى المدنية والمجتمعات الإقليمية، يستند إلى ترتيبات أمنية واقعية تعالج مسألة تعدد القوات المسلحة، وتتبنى نموذجًا للامركزية الإدارية يمنح الأقاليم صلاحيات حقيقية دون المساس بوحدة الدولة أو سيادتها على حدودها.

اترك تعليقا