احتجاجات المغرب دوافع اجتماعية وتحديات سياسية
الكاتب:
ثالثا: القوى الفاعلة
كشفت احتجاجات «جيل زد» عن ارتباك واضح في مواقف القوى السياسية والمؤسسات الرسمية؛ فالدولة المغربية وجدت نفسها أمام حراك شبابي واسع لا ينتمي إلى الأطر المألوفة، التي لا يمكن احتواؤه عبر القنوات التقليدية. خاصة بعد أن لجأت السلطات في البداية إلى أدواتها الأمنية المعتادة، لمواجهة بعض التجمعات باستخدام القوة المفرطة، ونفذت حملات اعتقال في صفوف المحتجين، على نحو زاد من حدة التوتر في الشارع. لكنها سرعان ما حاولت، بالتوازي مع المقاربة الأمنية، تمرير خطاب تهدئة يؤكد استعدادها لفتح حوار مع الشباب والاستجابة للمطالب الاجتماعية، المتعلقة بتطوير الخدمات الصحية والتعليمة. وكأنها تسعى للجمع بين العصا والجزرة في التعامل مع الأزمة.
أما الأحزاب السياسية التقليدية، فقد بدت غائبة، أو عاجزة عن استيعاب أو إدراك الأسباب الحقيقية لهذه الاحتجاجات ولا أبعادها أو مآلاتها، الأمر الذي عمّق الأزمة البنيوية التي تعاني منها هذه الأحزاب منذ سنوات. وبالتالي كان طبيعيا الا تكون قادرة على استقطاب الشباب، أو الانخراط في مشاكلهم، أو تقديم مبادرات تعكس تفهماً لمطالبهم، وهو ما أكد على انعدام التواصل الجيلي بين السلطة السياسية وهذا النشء الجديد بالمجتمع. وبناء عليه، فمن المرجح أن يعزز هذا الغياب الحزبي من فقدان الأحزاب المغربية شرعيتها التمثيلية في نظر شرائح واسعة من المجتمع.
ومن ناحية أخرى، لم يكن المجتمع المدني أكثر حضوراً؛ فالجمعيات والمنظمات التقليدية وجدت نفسها هي الأخرى متجاوزة من قبل هذا الحراك الاجتماعي المتسم بالعفوية والسرعة، ولهذا اقتصر دورها في الغالب على إصدار بيانات تضامن محدودة، أو مبادرات جزئية غير قادرة على التأثير الفعلي في مسار الأحداث.
أما على المستوى الخارجي، فقد استقطبت الاحتجاجات الجارية بالمملكة المغربية اهتمام القوى الإقليمية والدولية على نطاق واسع؛ فالدول الأوروبية تتابع من جانبها الوضع بقلق؛ نظراً لارتباطه المباشر بالاستقرار الإقليمي والهجرة غير الشرعية إليها. بينما ترقب دول الجوار المغاربي، خاصة الجزائر وتونس هذا الاحتجاجات باعتبارها مؤشراً على هشاشة الأوضاع الاجتماعية والسياسية بإقليم المغرب العربي. وذلك في وقت يبدو فيه الحراك المغربي مثل حلقة جديدة ضمن موجات عالمية دأبها تعبئة الشباب عبر المنصات الرقمية، على نحو يعكس تحولات أعمق في علاقة الأجيال الجديدة بالسلطة السياسية والتمثيل الحزبي.
رابعا: التداعيات والسيناريوهات المحتملة
تطرح احتجاجات «جيل زد» في المغرب مجموعة من التداعيات المباشرة والمتوسطة المدى على الدولة والمجتمع، كما تفتح الباب أمام احتمالات متعددة لمستقبل العلاقة بين الأجيال الجديدة والمؤسسات الرسمية على المستوى الآني، أظهرت هذه الاحتجاجات هشاشة البنية الاجتماعية والسياسية في المغرب، وأكدت أن التوتر الاجتماعي الكامن يمكن أن يتحول سريعا إلى فعل جماهيري واسع، في ظل تأثير خوارزميات الذكاء الاصطناعي. خاصة إذا ارتبط بما يمس الحياة اليومية للمواطنين. كما كشفت عن محدودية فعالية الأدوات الأمنية التقليدية في مواجهة حراك شبابي لا مركزي يصعب التنبؤ بتحركاته، أو ضبط مساراته.
على المدى المتوسط، تواجه المملكة المغربية معضلة مزدوجة: تتمثل في الحاجة إلى معالجة اختلالات بنيوية في الخدمات العمومية بما يضمن الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، على نحو يعيد الثقة في الدولة وتنال الحكومة رضاه. إلى جانب ضرورة ابتكار آليات جديدة للتواصل مع جيل يرفض الوساطات التقليدية ويبحث عن تمثيل مباشر وصوت مستقل. ويفرض هذا التحدي على النظام السياسي التفكير في قنوات جديدة تسمح بدمج الشباب في عملية صنع القرار، سواء عبر إصلاحات مؤسسية أو مبادرات لتعزيز المشاركة المجتمعية.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن تصور ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل الاحتجاجات التي لا تزال تسود الشارع المغربي:
- سيناريو الاحتواء عبر تقديم إصلاحات جزئية في قطاعات الصحة والتعليم والاستجابة لبعض المطالب الاجتماعية، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً في المدى القصير.
- سيناريو التصعيد، بأن تتسع رقعة الاحتجاجات وتتخذ طابعاً أكثر راديكالية، إذا ما تواصلت المقاربة الأمنية، أو بقيت الاستجابة الفعلية لمطالب المحتجين في دائرة الارتباك.
- السيناريو الثالث، يقوم على إمكانية التوصل إلى صيغة جديدة من التسوية التدريجية، تنخرط فيها الدولة في حوار مباشر مع الشباب وتبادر إلى صياغة سياسات عمومية تراعي أولوياتهم.
ومن المحتمل ألا تقف تداعيات هذه الاحتجاجات عند المغرب وحده؛ فنجاح الدولة في تلبية مطالب الجيل الجديد قد يشكل نموذجاً يُحتذى به إقليمياً في كيفية التعامل مع التعبئة الرقمية الشبابية، بينما قد يؤدي أي تعثر أو انزلاق نحو مزيد من العنف إلى تداعيات قد تؤثر على استقرار شمال إفريقيا برمتها.
الاستنتاجات
تكشف احتجاجات «جيل زد» في المغرب عن تحوّل نوعي في طبيعة العلاقة بين الشباب والدولة، وتضع نظامه السياسي أمام تحديات لا يمكن التعامل معها بالآليات التقليدية. خاصة أنها لم تكن مجرد رد فعل ظرفي على مجرد حادث بمستشفى، بل جاء نتيجة تراكم غضب اجتماعي حيال تراخي سلطات الدول في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وانخراط جيل جديد أكثر وعياً بذاته وأكثر قدرة على استثمار الفضاء الرقمي للتعبئة والتنظيم في قلب قضايا مجتمعه الملحة.
يتضح من تعامل السلطات المغربية مع الاحتجاجات أن الأدوات الأمنية، مهما بلغت شدتها، لن تكون قادرة وحدها على احتواء ديناميكيات جديدة تقوم على اللامركزية والانتشار الرقمي. وأن غياب الأحزاب والنقابات عما يدور بالمجتمع يعكس مأزقاً عميقاً في منظومة الوساطة التقليدية، ويؤكد الحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية إدماج الشباب داخل الحياة السياسية بآليات أكثر مرونة وانفتاحاً.
في المقابل، فإن قدرة الدولة المغربية على تحويل الأزمة إلى فرصة تبقى ممكنة، إذا ما استثمرت اللحظة في إطلاق إصلاحات جادة تعيد الاعتبار للخدمات العمومية وتبني قنوات جديدة للتواصل مع الأجيال الصاعدة. فنجاح هذا المسار سوف يعزز من شرعية الدولة واستقرارها، أما الإخفاق في التعامل بحكمة مع هذه الموجة فقد يمهّد لاحتجاجات أكثر اتساعاً وحدّة، بما يحوّل «جيل زد» من فاعل احتجاجي رقمي إلى قوة اجتماعية وسياسية مؤثرة يصعب تجاهلها.