الرئيسية » الدراسات » إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في القرن الأفريقي

إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في القرن الأفريقي

الكاتب:

وفي هذا السياق، تؤدي دولة الإمارات دور الذراع التنفيذية للمصالح الأمريكية والإسرائيلية في القرن الأفريقي، خاصة عبر التحكم في الموانئ الاستراتيجية على امتداد الساحل من عدن إلى بربرة وسقطرى، وهي مواقع ذات أهمية للرقابة على حركة الملاحة الدولية ونشاط إيران في البحر الأحمر. ومن خلال شركات مثل “موانئ دبي العالمية” استطاعت الإمارات أن تخلق واقعًا اقتصاديًا-أمنيًا جديدًا يخدم مصالحها ومصالح حلفائها الغربيين.
وبالتالي، تمثل أبو ظبي اليوم رأس الحربة للوجود الأميركي والإسرائيلي غير المعلن في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، حيث تمزج بين النفوذ الاقتصادي والمشروعات اللوجستية والأمن البحري تحت مظلة التحالف مع واشنطن وتل أبيب. ومن جهة أخرى، تظهر إثيوبيا كأداة ثانية للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، إذ يجري توظيف موقعها الجغرافي وبنيتها الفيدرالية لتقويض توازن القوى الإقليمي في شرق إفريقيا. فقد دعمت واشنطن وأبو ظبي، وأحيانًا تل أبيب، سياسات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في مشروعات كبرى، أبرزها سد النهضة، الذي لا يُنظر إليه فقط كأداة تنموية بل كوسيلة لإعادة تشكيل النفوذ في حوض النيل وإضعاف الدور المصري والسوداني.
وترى الولايات المتحدة في إثيوبيا محورًا استراتيجيًا لتحقيق توازن قوى مواتٍ ضد الصين وروسيا وتركيا في شرق إفريقيا، في حين توظف إسرائيل علاقاتها الأمنية والاستخباراتية مع أديس أبابا لتأمين مصالحها في البحر الأحمر ومراقبة الممرات المتجهة نحو باب المندب.
أما بالنسبة لإسرائيل، فقد أصبح حضورها في المنطقة يتخذ أشكالًا متعددة من التعاون الاستخباراتي، والاتصالات العسكرية غير المعلنة، والدبلوماسية الاقتصادية عبر واجهات إماراتية وتعتمد عليها كغطاء دبلوماسي لتوسيع نطاق نفوذها في البحر الأحمر دون إثارة الحساسيات العربية أو الإفريقية، مستفيدة من اتفاقات التطبيع الجديدة مع عدد من الدول الإفريقية.
وقد أعادت هذه التحالفات المتشابكة رسم موازين القوى في القرن الأفريقي؛ فبينما تستخدم واشنطن “الذراع الإماراتية” لتطويق الصين وروسيا، تعمل إسرائيل على ترسيخ وجودها الأمني واللوجستي في الممرات البحرية الحساسة. ويخلق هذا الوضع توازن ردع هشّ يمكن أن يتحول إلى صراع مفتوح في حال تصاعد التنافس الإثيوبي–الإريتري، أو زيادة النفوذ الصيني في جيبوتي والموانئ المجاورة.
ومن الناحية الأمنية، يمكن القول إن القرن الأفريقي عام 2025م، أصبح ساحة اختبار لنموذج جديد من القوة بالوكالة، الذي لا يعتمد فقط على القواعد العسكرية التقليدية، بل على السيطرة غير المباشرة من خلال الاستثمارات اللوجستية، واتفاقيات الموانئ، والمساعدات الدفاعية الثنائية. وهو الأمر الذي يجعل من البحر الأحمر منطقة مؤمّنة جزئيًا لصالح المحور الأمريكي-الإسرائيلي-الخليجي، في مقابل محور روسي-صيني-إريتري متنامٍ.
أولا: الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي
  • موقع فريد عند مفترق الطرق العالمية
تُعدّ منطقة القرن الأفريقي واحدة من أكثر المناطق حساسية من حيث الموقع والمكانة الجيوسياسية. فهي تمتد على الساحل الغربي للبحر الأحمر وخليج عدن، وتشرف على مضيق باب المندب، الذي يُعدّ ثاني أهم ممر بحري للطاقة والتجارة في العالم، بعد مضيق هرمز. حيث يمر عبره أكثر من 10% من حركة التجارة العالمية، بما في ذلك قرابة 6 ملايين برميل من النفط ومشتقاته يوميًا. هذه المكانة جعلت القرن الأفريقي بمثابة البوابة الجنوبية لقناة السويس، ما يربط مصيره بالأمن البحري العربي والعالمي().
لذلك فإن أي اضطراب بهذه المنطقة سواء بسبب القرصنة أو النزاعات الحدودية أو التدخلات الخارجية سوف تكون له تداعيات اقتصادية وأمنية تتجاوز حدودها الإقليمية إلى أوروبا والولايات المتحدة وآسيا.
  • أهمية اقتصادية متنامية
إلى جانب قيمتها الأمنية، تشكل المنطقة محورًا اقتصاديًا بالغ الأهمية، فهي بوابة الدخول إلى العمق الإفريقي الغني بالموارد الطبيعية كالذهب واليورانيوم والنفط والمعادن النادرة. كما أن موقعها يجعلها نقطة وصل بين الشرق الأوسط، وشرق إفريقيا، وجنوب آسيا، مما يدفع القوى الكبرى إلى الاستثمار في بنيتها التحتية وموانئها التجارية.
وتأتي مبادرة “الحزام والطريق” كأبرز مشروع عالمي وظّف هذه الأهمية، إذ تربط الموانئ الإفريقية في جيبوتي ومومباسا وبربرة، بشبكة النقل التجاري العالمي. بالمقابل، ترى واشنطن أن هذا التمدد الصيني يشكل تهديدًا مباشرًا لمجال نفوذها التقليدي في البحر الأحمر والمحيط الهندي، مما دفعها إلى إعادة تفعيل وجودها العسكري في جيبوتي وتعزيز الشراكات الأمنية مع إثيوبيا وكينيا().
  • منطقة تلاقي المصالح وتضارب الأجندات
يُعدّ القرن الأفريقي اليوم أحد أكثر مناطق العالم تعقيدًا من حيث تشابك المصالح وتضارب الأجندات الدولية والإقليمية. فقد تحوّل إلى ميدان مفتوح للتنافس بين القوى الكبرى، التي تنظر إليه باعتباره محورًا أساسيًا لضمان النفوذ في البحر الأحمر والمحيط الهندي. بينما تسعى الولايات المتحدة إلى ترسيخ وجودها العسكري والأمني في المنطقة لضمان حرية الملاحة الدولية ومراقبة تحركات كلٍّ من الصين وروسيا، مستفيدة من قواعدها في جيبوتي وكينيا ومن تحالفاتها مع إثيوبيا وعدد من القوى الإقليمية. بينما تركز الصين على توسيع حضورها الاقتصادي واللوجستي من خلال الاستثمارات في الموانئ والبنية التحتية ضمن إطار مبادرة “الحزام والطريق”، ما يمنحها نفوذًا متزايدًا على طرق التجارة العالمية().
أما الإمارات والسعودية، فتنظران إلى المنطقة باعتبارها امتدادًا طبيعيًا للأمن القومي الخليجي، وتسعيان لتأمين خطوط التجارة والطاقة عبر السيطرة على الموانئ والجزر الاستراتيجية مثل أرخبيل سقطرى وميناء بربرة، في حين تعمل تركيا على تعزيز نفوذها من خلال وجودها العسكري الكبير في مقديشو، ساعيةً لموازنة الحضور الخليجي والإسرائيلي في المنطقة().
وفي خلفية هذا الواقع المعقد، تتحرك إسرائيل وإيران من وراء ستار؛ فالأولى تعتمد على تحالفها الوثيق مع الإمارات لتثبيت حضور غير مباشر على ضفاف البحر الأحمر، بينما تسعى الثانية إلى بناء روابط محدودة مع بعض القوى المحلية والإقليمية بهدف إزعاج خصومها الإقليميين.
ونتيجة هذا التعدد في الفاعلين والمصالح، تحوّل القرن الأفريقي إلى إحدى أكثر مناطق العالم عسكرةً وتنافسًا، إذ تضم جيبوتي وحدها 6 قواعد عسكرية أجنبية، إلى جانب وجود قواعد إماراتية في إريتريا وسقطرى وعدن، وقاعدة تركية ضخمة في الصومال، مما يجعل المنطقة نموذجًا فريدًا لصراع النفوذ العالمي في القرن الحادي والعشرين().
  • هشاشة البنية السياسية والأمنية الداخلية
 تُضاف إلى الأهمية الجغرافية معضلة داخلية خطيرة تتمثل في هشاشة النظم السياسية في معظم دول المنطقة، لا سيما “الصومال، إثيوبيا، إريتريا، والسودان”، ما يجعلها بيئة مفتوحة أمام التدخلات الخارجية والتحالفات المتبدلة. فالانقسامات الإثنية والطائفية، وضعف مؤسسات الدولة، وتنازع الولاءات الإقليمية، جعلت من القرن الأفريقي نموذجًا للأمن المُدار من الخارج، حيث تتحكم القوى الكبرى في توازناته الداخلية عبر الدعم العسكري أو الاقتصادي. وتُشير تقارير دولية إلى أن منطقة القرن الأفريقي، أصبحت محورًا لإعادة صياغة خريطة القوة بين الشرق والغرب، إذ يجري تحويل البحر الأحمر إلى جبهة غير معلنة للحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين.
  • العقدة الاستراتيجية للأمن الدولي والعربي
لا يمكن اختزال أهمية القرن الأفريقي في موقعه الجغرافي فحسب؛ بل في كونه مفصلًا حيويًا في شبكة الأمن الدولي، وعمقًا استراتيجيًا للأمن القومي العربي. فمن الناحية الجيوسياسية، يمثل البحر الأحمر شريان الحياة لمصر والسعودية واليمن والسودان، ومن ثم فإن استقراره يرتبط مباشرة باستقرار العالم العربي. ومن الناحية الدولية، يُعد القرن الأفريقي الحدود الجديدة للتنافس بين الأقطاب العالمية، حيث تتقاطع المصالح الأميركية والصينية والإسرائيلية والخليجية في نمط جديد من القوة بالوكالة، يعتمد على السيطرة عبر الموانئ والممرات أكثر من الجيوش التقليدية().
ثانيا: التنافس الدولي وإعادة التموضع الأمريكي
تشهد منطقة القرن الأفريقي تفاقما حدة التنافس بين القوى الكبرى، ومحاولات لإعادة رسم خرائط النفوذ. فقد أعادت الولايات المتحدة النظر في مقاربتها التقليدية التي كانت تعتمد على الانتشار العسكري المباشر، متجهة نحو تموضع مرن وغير معلن بالكامل، يقوم على دعم حلفاء إقليميين وتوظيف أدوات اقتصادية وأمنية غير تقليدية. ويأتي هذا التحول في سياق استراتيجي أوسع، إذ تعتبر واشنطن منطقة القرن الأفريقي بمثابة الحد الجنوبي لنفوذها في الشرق الأوسط، وامتدادًا لممرات الطاقة العالمية عبر البحر الأحمر. غير أن هذا التموضع لا يتم بمعزل عن تنافسها المتزايد مع الصين وروسيا، ولا عن تدخلات حلفائها غير المباشرين، خصوصًا الإمارات وإسرائيل، اللتين تمارسان نفوذًا ميدانيًا واسعًا نيابة عن الولايات المتحدة في الموانئ والممرات البحرية الحساسة.
  • تحولات في الرؤية الأمريكية تجاه القرن الأفريقي
شهدت السياسة الأمريكية في القرن الأفريقي تحولات جذرية بعد عقدين من الانخراط الأمني في الصومال. فمع تراجع الأولوية العسكرية المباشرة، انتقلت واشنطن إلى نموذج الوجود الذكي، الذي يجمع بين التعاون الاستخباراتي والدبلوماسية المرنة والضغوط الاقتصادية(). وتهدف هذه المقاربة إلى التحكم في التوازن الإقليمي دون تحمل كلفة الانتشار الميداني، وهو ما يتضح في تركيزها على بناء قدرات الشركاء المحليين بدلًا من نشر قواتها. فقد زاد الدعم الأمريكي لإثيوبيا وكينيا وجيبوتي في مجالات التدريب والمراقبة البحرية، ضمن سياسة “احتواء النفوذ الصيني” التي أقرتها إدارة بايدن في وثيقة الأمن القومي().
في المقابل، لا تزال واشنطن تنظر إلى القرن الأفريقي باعتباره واجهة خلفية للأمن في البحر الأحمر، وتحرص على منع أي قوة -صينية أو روسية أو إيرانية- من تحقيق وجود عسكري دائم يمكنه تهديد الملاحة أو شبكات الاتصالات البحرية. ومن هنا يأتي تزايد التعاون مع حلفاء إقليميين كالإمارات والسعودية، اللتين تضطلعان بدور الوسيط التنفيذي في تأمين الموانئ والجزر الاستراتيجية().
  • التموضع عبر الحلفاء والوكلاء الإقليميين
من أبرز ملامح الحضور الأمريكي اعتماده على الوكلاء الإقليميين لتقليل الوجود المباشر. فقد أصبحت دولة الإمارات، على سبيل المثال، بمثابة الذراع اللوجستية غير المعلنة للسياسات الأمريكية في البحر الأحمر وخليج عدن. تدير أبو ظبي موانئ استراتيجية في سقطرى وعدن وبربرة، وتوفر بذلك للولايات المتحدة وشركائها في حلف الناتو منظومة مراقبة بحرية متقدمة دون الحاجة لتواجد أمريكي ظاهر().
كما أن التحالف الوثيق بين أبو ظبي وتل أبيب بعد اتفاقيات التطبيع مكّن إسرائيل من توسيع نفوذها في الممرات البحرية، عبر شركات ومشاريع مشتركة تحت غطاء إماراتي، ما يمنح واشنطن قدرة على التحكم غير المباشر في نقاط العبور الحيوية دون إثارة حساسيات عربية أو إفريقية.
في السياق نفسه، تحظى إثيوبيا بموقع متقدم ضمن هذا التموضع؛ إذ يُنظر إليها كشريك استراتيجي يوازن النفوذ الصيني في شرق القارة. وتُظهر تقارير دولية أن الدعم الأمريكي لأديس أبابا في مساعيها للحصول على منفذ بحري يعكس رغبة واشنطن في تحويل إثيوبيا إلى قاعدة نفوذ برية تخدم المصالح الغربية في البحر الأحمر. وفي يونيو 2025، أكد سفير الولايات المتحدة لدى إثيوبيا، التزام واشنطن التام بدعم مساعي إثيوبيا لتأمين الوصول البحري عبر السُبل التي وصفها بالدبلوماسية والسلمية().
  • التحديات البنيوية للوجود الأمريكي
رغم هذا التكيف المرن، تواجه واشنطن صعوبات بنيوية تحدّ من فاعلية استراتيجيتها الجديدة. فبنية الدول في القرن الأفريقي ما تزال هشّة، تعاني من ضعف مؤسساتي وصراعات داخلية، ما يجعل الرهان على الشركاء المحليين محفوفًا بالمخاطر. في الصومال، مثلًا، أثبتت تجربة الانسحاب النسبي للقوات الأمريكية عام 2023م، أن القوات المحلية غير قادرة على السيطرة المستدامة على المناطق الريفية أمام تنظيم “الشباب”، ما أجبر البنتاغون على إعادة نشر جزئي لقواته الخاصة عام 2024 لدعم العمليات الجوية والاستخباراتية. كما وقعت واشنطن بعدها على مذكرة تفاهم لبناء خمس قواعد عسكرية في الصومال لقوات لواء دنب، وهي وحدة من القوات الخاصة الصومالية دربها ضباط أميركيون لتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب().
إلى جانب ذلك، تتزايد الضغوط الصينية والروسية، اللتان استفادتا من أي فراغ أمريكي لتوسيع حضورهما الاقتصادي والعسكري، كما في بناء قاعدة لوجستية روسية مقترحة في بورتسودان ومشاريع الموانئ الصينية في جيبوتي. وهذا التزاحم يُضعف قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على تفوق استراتيجي واضح، ويحوّل المنطقة إلى ساحة توازن معقدة بين القوى الكبرى.
ثالثا: الصراع على الموانئ والممرات البحرية
تُشكّل مضائق باب المندب ومدخل البحر الأحمر محورًا استراتيجيًا عالميًا لأنهما يربطان آسيا بأوروبا عبر قناة السويس، ويعبران سنويًا أحجامًا هائلة من شحنات الطاقة والسلع. لذلك، فإن السيطرة أو النفوذ على هذه النقاط لا يتعلق فقط بالوجود العسكري المباشر، بل بقدرة جهة ما على التأثير في تكاليف التأمين، مسارات السفن، وجاذبية الموانئ كعقد لوجستية. من هذا المنطلق، تحوّل التنافس إلى مزيج من أدوات عسكرية مثل القواعد والدوريات، وأدوات اقتصادية مثل امتلاك أو إدارة الموانئ، وإنشاء مناطق اقتصادية، إضافة إلى حرب معلوماتية تهدف إلى تشريع أو تعطيل تحالفات خصوم.
  • جيبوتي: مركز التقاء القواعد وتضارب النفوذ
بدأت جيبوتي تتحوّل خلال العقدين الأخيرين إلى نقطة ارتكاز استراتيجية للنفوذ الدولي بفضل موقعها عند مدخل البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وهو ما جعلها محطّ أنظار القوى الكبرى مثل باب المندب والبحر الأحمر كممرّ تجاري يربط الشرق بالغرب. يُقدّر أن نحو 10-12 % من التجارة العالمية تمر عبر هذا المضيق(). وقد استغلت الحكومة الجيبوتية هذا الموقع فجعلت من تأجير القواعد العسكرية الأجنبية ومرافق الموانئ أحد مصادر دخلها الرئيسية، فقد بلغت عوائد التأجير نحو 30-36 مليون دولار من الولايات المتحدة وفرنسا في عام 2017م تقريبًا().
انشأت الولايات المتحدة في جيبوتي قاعدة “Camp Lemonnier” في عام 2002م، وهي الآن أكبر منشأة أمريكية دائمة في إفريقيا، وتستخدم كمقر لقيادة مهمة القرن الأفريقي ضمن قيادة إفريقيا الأميركية المعروفة باسم “AFRICOM”. من خلال هذه القاعدة، أصبحت واشنطن قادرة على تشغيل طائرات بدون طيار، سفن دورية، وتنسيق عمليات مكافحة القراصنة في خليج عدن، ودعم عمليات الاستخبارات والدعم اللوجستي نحو اليمن والصومال().
من جهة أخرى، أقامت الصين في العام 2017م قاعدة الدعم اللوجستي التابعة لـ”جيش التحرير الشعبي البحري” في جيبوتي، وهي الأولى لها خارج الأراضي الصينية، وتحيط بها مرافق مرفأ ميناء دوراليه “Doraleh”الذي تطوّره شركة “China Merchants” المملوكة للدولة الصينية، وقد حصلت الشركة الصينية على حصة في المحطة الحاويات في دوراليه، وتم تمويل الميناء عبر قرض من بنك الصين للتصدير والاستيراد بقيمة نحو 340 مليون دولار(). وإلى جانب ذلك، خصصت حكومة جيبوتي رصيفًا في هذا الميناء للاستخدام الحصري للبحرية الصينية، ما يعكس التكامل بين الأبعاد الاقتصادية والعسكرية للنفوذ الصيني في جيبوتي().
تزايدت المخاوف الأمريكية من تنامي النفوذ الصيني في جيبوتي، حيث بات الوجود الصيني يجمع بين البعدين العسكري والاقتصادي على نحو يهدد بتقليص الدور الأمريكي التقليدي في البلاد. فمع امتلاك الصين أول قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها قرب قاعدة “كامب ليمونييه” الأمريكية، وتوسع شركاتها الحكومية في تشغيل الموانئ والاستثمار في البنية التحتية، تخشى واشنطن أن يؤدي هذا التغلغل إلى تقويض قدرتها على مراقبة الأنشطة الصينية في البحر الأحمر، وإضعاف حضورها الاستراتيجي في المنطقة. كما تشير التقديرات إلى اتساع الفجوة التجارية بين واشنطن وبكين لصالح الأخيرة، ما يعكس تراجع التأثير الاقتصادي الأمريكي مقابل ازدياد الارتباط الجيبوتي بالمصالح الصينية، وهو ما قد يحد من هامش المناورة الأمريكي في واحدة من أكثر النقاط البحرية حساسية على مستوى العالم().
في هذا السياق، أنشأت جيبوتي بنية تحتية لوجستية ومينائية طموحة، بما في ذلك الربط السككي مع إثيوبيا، وهو الخط المعروف باسم “سكة حديد أديس أبابا- جيبوتي”، والتي افتُتِحت عام 2017 بتمويل صيني. وبينما ترى جيبوتي أن هذا النمو في مجال الموانئ والخدمات اللوجستية يعزّز موقعها كمحور عبور بين الشرق والغرب، ويتيح لها تنويع مصادر الدخل، إلا أن هذه العوائد تأتي أيضًاً مع تكلفة سياسية واستراتيجية، فوجود قواعد متعددة داخل مسافة قصيرة يجعل جيبوتي محاطة ببيئة حسّاسة، حيث قد تؤثر تغييرات عقود التأجير أو العقود الاستثمارية مباشرة على ديناميكيات السلطة والنفوذ الإقليمي. لذلك، فإن أي تعديل مستقبلي في سياسة التأجير أو توسعة من جانب الصين تحديدًا أو الولايات المتحدة، سيكون له أثر مباشر على القدرة البحرية للجهة الأخرى.
  • ميناء بربرة في أرض الصومال
استحوذ ميناء بربرة على اهتمام دولي واسع بعد توقيع عقد إدارة وتشغيل مع شركة” DP World” الإماراتية في عام 2016–2017م، بقيمة استثمار يُقدّر بنحو 442 مليون دولار تقريبًا. تضمّن المشروع تطويرًا شاملًا للبنية التحتية للميناء، بما في ذلك إنشاء رصيف حاويات جديد افتُتح في يونيو 2021م بعمق ممرّ يبلغ 17 مترًا، وطاقة استيعابية تُقدّر بحوالي 500 ألف حاوية سنويًا، مع خطة توسعة مستقبلية لرفع القدرة التشغيلية إلى نحو مليوني حاوية. كما أنشئ طريق بري إستراتيجي يُعرف باسم ممر بربرة (Berbera Corridor)، يربط الميناء بالحدود الإثيوبية – الصومالية، بما يسمح لإثيوبيا الحبيسة بالوصول إلى منفذ بحري بديل عن ميناء جيبوتي، الذي تعتمد عليه حاليًا في نحو 95% من تجارتها الخارجية.
وبموجب هيكل الملكية، تمتلك شركة موانئ دبي العالمية نحو 51% من المشروع، مقابل 30% لحكومة أرض الصومال وقرابة 19% لـ إثيوبيا. ورغم أن هذه النسب تبدو على الورق توزيعًا استثماريًا متوازنًا، فإنها في جوهرها تعكس ترتيبًا استراتيجيًا يخدم المصالح المشتركة بين الإمارات وإثيوبيا. فالميناء يُعد بالنسبة إلى إثيوبيا الحبيسة نافذة بحرية بديلة عن ميناء جيبوتي الذي تعتمد عليه في أكثر من 90% من تجارتها الخارجية، بينما ترى فيه الإمارات فرصة لترسيخ نفوذها في ممرات التجارة بالبحر الأحمر وخليج عدن، وربط موانئها في الخليج بمراكز لوجستية جديدة في شرق إفريقيا. بذلك، تحوّل ميناء بربرة إلى أداة لدعم الموقف الإثيوبي اقتصاديًا من جهة، ورافعة للنفوذ الإماراتي الإقليمي من جهة أخرى، في مشهد يعكس تزاوج المصالح الاقتصادية بالاستراتيجيات الجيوسياسية في القرن الأفريقي.
ويُنظر إلى دور الإمارات باعتباره المحرك الرئيسي خلف تمكين هذا التوجه الإثيوبي، إذ تسعى أبو ظبي عبر شركة موانئ دبي العالمية إلى تعزيز حضورها في ممرات التجارة بالبحر الأحمر وخليج عدن، وتوظيف علاقتها الوثيقة بكل من “هرجيسا وأديس أبابا” لبناء محور اقتصادي–أمني، يربط الخليج بالقرن الأفريقي. بذلك، يتحول ميناء بربرة إلى أداة نفوذ إماراتية تسهم في إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية، من خلال تمكين إثيوبيا اقتصاديًا وخلق بديل استراتيجي عن الاعتماد الحصري على جيبوتي().
  • أرخبيل سقطرى باليمن
يُعد أرخبيل سقطرى من أكثر المواقع الجغرافية حساسية في جنوب شبه الجزيرة العربية، إذ يشرف مباشرة على مدخل بحر العرب عند تقاطع طرق التجارة نحو خليج عدن ومضيق باب المندب. وقد شكّل موقعه الفريد دافعًا رئيسيًا لتحوّله إلى ركيزة استراتيجية للوجود الإماراتي والغربي في واحدة من أهم النقاط البحرية في المنطقة. ففي مايو 2018م، أرسلت الإمارات قواتها إلى الجزيرة وسيطرت على الميناء والمطار، في خطوة وصفتها الحكومة اليمنية آنذاك بأنها “احتلال”، ما كشف عن التباين بين الأهداف المعلنة للتحالف العربي والواقع الميداني على الأرض.
منذ ذلك الحين، سعت أبو ظبي إلى ترسيخ نفوذ إداري وأمني غير مباشر عبر ترتيبات مع سلطات محلية وشخصيات قبلية، سمحت لها بالتأثير في إدارة الميناء والموارد الطبيعية والبنية التحتية الحيوية. ورغم خفوت الوجود العسكري العلني في بعض المراحل، فإن الأثر الفعلي للوجود الإماراتي ظل قائمًا من خلال شبكات نفوذ مدنية وأمنية تعمل بتنسيق مع قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا.
يكشف تحليل المشهد في سقطرى أن التحكم بالجزر الصغيرة والموانئ الثانوية يمكن أن يوازي — بل يفوق أحيانًا — أهمية السيطرة على الموانئ الكبرى؛ فهذه المواقع تمنح من يهيمن عليها قدرة على المراقبة البحرية، والتحكم بخطوط الإمداد، والتدخل السريع دون ضجيج سياسي كبير أو تكلفة عسكرية مرتفعة. ومن هذا المنظور، تبدو سقطرى جزءًا من إستراتيجية أوسع للإمارات تهدف إلى بناء شبكة نقاط ارتكاز بحرية تمتد من القرن الإفريقي إلى بحر العرب، لتأمين طرق التجارة والنفوذ في آن واحد، تحت غطاء التعاون الإنساني أو التنموي.
  • ميناء عصب في إريتريا
تحوّل ميناء عَصَب الإريتري منذ عام 2015م، إلى أحد أبرز رموز النفوذ بالوكالة في البحر الأحمر. فقد استخدمته الإمارات العربية المتحدة كمنصة لوجستية وعسكرية لدعم عملياتها ضمن التحالف العربي في اليمن، بعد أن وقّعت اتفاقًا مع حكومة أسمرة يمنحها حق استخدام الميناء والمطار العسكري لمدة 30 عامًا، مقابل مساعدات مالية واستثمارات في البنية التحتية لبلد كان وقتها تحت العقوبات الدولية. قامت أبو ظبي بإعادة تأهيل الميناء وتوسيع مدرج المطار وبناء مرافق لوجستية ومحطة وقود بحرية، لتصبح عصب نقطة ارتكاز رئيسية في عمليات التحالف على الضفة المقابلة للبحر الأحمر().
لكن مع تراجع الحرب في اليمن، بدأت الخلافات بين أسمرة وأبو ظبي تتصاعد، بعدما سعت الإمارات إلى توسيع نفوذها خارج الإطار العسكري ومحاولة إدارة بعض الأنشطة المدنية والتجارية المرتبطة بالميناء. اعتبرتها الحكومة الإريترية تجاوزًا للسيادة الوطنية، وبدأت بإعادة تموضعها سياسيًا بعد رفع العقوبات عنها عام 2018م، بالانفتاح على روسيا وإثيوبيا والصين بحثًا عن شركاء جدد.
في عام 2021م، أنهت إريتريا فعليًا الترتيبات العسكرية مع الإمارات وطلبت انسحاب القوات والمعدات، ما جعل الميناء يتحوّل تدريجيًا إلى منشأة شبه مهجورة. وغادرت القوات الإماراتية عصب تاركة منشآت محدودة الاستخدام. ارتبط هذا الانسحاب بإعادة تقييم أوسع لدور الإمارات في اليمن، وضغوط أمريكية وغربية بشأن استخدام الميناء في نقل الأسلحة إلى مناطق الصراع.
وتمثل التحول اللافت في توقيع مذكرة تفاهم عسكرية بين روسيا وإريتريا عام 2023م، والتي شملت بحث إنشاء منشأة دعم بحري روسية على البحر الأحمر، ما يمنح موسكو موطئ قدم جديد بالقرب من مضيق باب المندب. وتمثّل التحركات الروسية في إريتريا امتدادًا لرؤية موسكو الهادفة إلى بناء حضور بحري دائم في البحر الأحمر، كجزء من استراتيجيتها لكسر الطوق الغربي المفروض عليها بعد الحرب الأوكرانية. فاختيار ميناء “مصوّع” لتأسيس موطئ قدم عسكري أو لوجستي لا يقتصر على أهميته فحسب، بل يأتي ضمن مشروع روسي أوسع لإنشاء سلسلة نفوذ تربط البحر الأسود بالبحر الأحمر، والمحيط الهندي، بما يتيح لموسكو الوصول إلى الممرات التجارية العالمية والتحكم في خطوط الطاقة من جنوب أوروبا حتى شرق أفريقيا. وبذلك، تُحاول روسيا أن تحاكي الدور الأمريكي في جيبوتي والدور الصيني في ميناء “دوراليه”، لتثبت أنها لاعب بحري عابر للقارات وليس قوة قارية محاصرة في أوراسيا().
تسعى موسكو عبر بوابة أسمرة إلى تثبيت موضع قدم في منطقة تمثّل إحدى آخر الجبهات المفتوحة أمام التمدد الدولي. فالوجود الروسي في الساحل الإريتري يمنحها قدرة على مراقبة الممرّ البحري الأكثر حساسية في العالم، وهو مضيق باب المندب، ويتيح لها مجالاً للتأثير في أمن البحر الأحمر من خارج المنظومة الغربية. كما تراهن روسيا على التحالف مع نظام “أفورقي” المعزول لخلق نقطة ارتكاز استخباراتية ولوجستية على مقربة من طرق الشحن الحيوية، وربما لنقل جزء من أنشطة “فاغنر” أو الشركات الأمنية الروسية لتأمين مصالحها وتوسيع نفوذها في القارة. بهذا المعنى، يتحول الوجود الروسي في مصوّع إلى حجر زاوية في استراتيجيتها الأفريقية الجديدة التي تربط بين الساحل الشرقي للقرن الأفريقي والساحل الأطلسي عبر شبكة تحالفات تمتد من السودان ومالي حتى إفريقيا الوسطى().
تدخل روسيا بهذا التموضع إلى معادلة معقدة في البحر الأحمر، حيث يتقاطع نفوذها المحتمل مع الوجود الأمريكي والفرنسي في جيبوتي، والتمدد الصيني والإماراتي على الضفة المقابلة. يكرّس هذا التزاحم الدولي البحر الأحمر كساحة تنافس استراتيجي جديدة بعد البحر الأسود، ويضع القرن الأفريقي أمام موجة ثانية من العسكرة الدولية. أما بالنسبة لإريتريا، فيمنحها التحالف مع موسكو مظلة حماية سياسية في مواجهة الضغوط الأمريكية والأوروبية، لكنه في المقابل يربط مستقبلها بخصومة مفتوحة مع الغرب. وعلى المدى البعيد، يُتوقّع أن يعمّق التموضع الروسي الانقسام بين ضفتي البحر الأحمر، ويحوّل الممر البحري إلى محور اختبار جديد لتوازن القوى بين الشرق والغرب().
  • عدن / الحديدة في اليمن
أصبحت موانئ اليمن، وفي مقدمتها عدن والحديدة، مسرحًا لصراع بحري غير تقليدي أعاد رسم معادلات الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن. فمنذ أواخر عام 2023م، صعّد الحوثيون عملياتهم استخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ المضادة للسفن والزوارق المفخخة، مستهدفين سفنًا تجارية وعسكرية تمر عبر الممرات البحرية الحيوية. وقد أدّى هذا التصعيد إلى ارتفاع حاد في أقساط التأمين على الشحن عبر البحر الأحمر، ودفع العديد من خطوط الملاحة الدولية إلى تحويل مساراتها حول رأس الرجاء الصالح، ما تسبب في زيادة كبيرة في التكاليف اللوجستية وإرباك سلاسل الإمداد العالمية().
لم يؤثر هذا الواقع الجديد على حركة التجارة فحسب، بل أعاد تعريف جاذبية الموانئ الإقليمية للاستثمار. إذ باتت الشركات والمستثمرون يقيمون البيئة الأمنية البحرية كعنصر حاسم في قراراتهم، مع التركيز على قدرة الحكومات الإقليمية على ضمان حماية الملاحة وردع التهديدات غير النظامية. وفي الوقت ذاته، أصبحت الموانئ اليمنية نفسها أدوات ضغط استراتيجية تُستخدم ضمن موازين القوى الإقليمية؛ فكل تصعيد أو تراجع في العمليات العسكرية البحرية ينعكس مباشرة على قدرة الأطراف المتنازعة وحلفائها على التحكم بالتدفقات التجارية وعلى شكل النفوذ في البحر الأحمر.
  • الموانئ الصومالية (مقديشو، كيسمايو، بوساصو)
تشهد الموانئ الصومالية مسارًا مزدوجًا من التطور، يجمع بين جهود وطنية لإعادة البناء وتدخلات خارجية متعددة الاتجاهات. فميناء مقديشو يمثل نموذجًا لمحاولة الدولة الفدرالية ترسيخ سيادتها الاقتصادية عبر شراكات مع شركات تركية وتحديث منظومة الإدارة والأمن البحري، فيما تشهد موانئ مثل كيسمايو وبوساصو ترتيبات مختلفة مع إدارات إقليمية شبه مستقلة تعتمد على دعم خارجي، بما في ذلك محاولات خليجية سابقة (كموانئ دبي العالمية) لإبرام عقود مباشرة مع تلك السلطات المحلية.
هذه الازدواجية في شرعية العقود تخلق إشكالية سياسية وقانونية مستمرة بين الحكومة الفدرالية والإدارات الإقليمية، ما يجعل الاستثمار في البنية التحتية للموانئ محفوفًا بتحديات السيادة والاعتراف الدولي. ومع أن الأداء التشغيلي لبعض الموانئ تحسّن، خاصة في مقديشو وبربرة، إلا أن الهشاشة الأمنية في المناطق الساحلية ــ من نشاط الجماعات المسلحة إلى ضعف الرقابة البحرية ــ ما زالت العامل الأكثر تأثيرًا على استدامة هذه المشاريع().
وعلى المستوى الجيوسياسي، تمثل الموانئ الصومالية حلقة وصل بحرية بين المحيط الهندي والبحر الأحمر، وهو ما يفسر تعدد القوى الدولية والإقليمية الساعية إلى ترسيخ موطئ قدم فيها، سواء لأغراض تجارية أو أمنية، ضمن مشهد تنافسي متسارع على ممرات الملاحة في القرن الأفريقي.
رابعا: التحالفات الإقليمية المتغيرة
تشهد منطقة القرن الأفريقي منذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ديناميات جديدة في بنية التحالفات الإقليمية، تعكس إعادة رسم لموازين القوى تحت تأثير التنافس الدولي المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، إلى جانب الانخراط الخليجي المتنامي في شؤون المنطقة. ومع تعقّد الأوضاع الأمنية والسياسية في البحر الأحمر، تتجه الدول الأفريقية الفاعلة – وفي مقدمتها إثيوبيا، كينيا، إريتريا، والصومال- إلى تبني صيغ دفاعية وشراكات متغيرة تستجيب للتحولات الجيوسياسية، وتعيد تموضعها ضمن خارطة النفوذ الدولية.
  • إعادة الاصطفاف في شرق أثيوبيا- التحالف الإثيوبي الكيني نموذجًا
في خطوة وُصفت بأنها تاريخية، وقّعت إثيوبيا وكينيا في سبتمبر 2025م اتفاقًا دفاعيًا شاملًا يُتوقّع أن يعيد تشكيل موازين القوى في منطقة القرن الأفريقي بعد عقود من التنافس المكتوم بين البلدين على النفوذ الإقليمي. جاء الاتفاق، الذي وُقّع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ليحلّ محلّ التفاهمات العسكرية القديمة المبرمة منذ عام 1963م، وليفتح مرحلة جديدة من الشراكة الدفاعية تتجاوز التنسيق الحدودي التقليدي إلى تعاون أوسع يشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية، والتدريب والتصنيع العسكري، ومكافحة الإرهاب، وحماية الممرات التجارية)()(. ويمثّل هذا التحالف، وفق توصيف عدد من المراقبين، تحوّلًا نوعيًا في بنية العلاقات بين قوتين إقليميتين لطالما مثّلتا نموذجين متباينين في التوجّه السياسي والاقتصادي، لكنه هذه المرة يقوم على إدراك مشترك بضرورة بناء منظومة أمن إقليمية مستقلة تعكس أولويات دول المنطقة أكثر مما تعكس حسابات القوى الدولية().
ويأتي هذا التقارب بين أديس أبابا ونيروبي في لحظة إقليمية معقدة تتقاطع فيها الأبعاد الأمنية بالرهانات الاقتصادية والبحرية، إذ تدرك كلٌّ من إثيوبيا وكينيا أن السيطرة على ممرات التجارة والربط البري بين العاصمة الإثيوبية وميناء مومباسا تمثل عنصرًا حاسمًا في ضمان الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي للجانبين. كما يسعى البلدان إلى تقليص اعتماد منظومتهما الدفاعية على الدعم الغربي المباشر، في ظل تراجع التمويل الأمريكي والأوروبي لبعثات حفظ السلام في الصومال، وميول واشنطن المتزايدة إلى إعادة توزيع أعباء الأمن الإقليمي على القوى المحلية. بهذا المعنى، يشكّل الاتفاق ترجمة لتوجّه أوسع نحو “أفرقة الأمن الإقليمي” وإعادة بناء شبكة دفاعية ذاتية تستند إلى القدرات الوطنية والتحالفات البينية داخل شرق القارة().
غير أن للاتفاق أيضًا بعد جيوسياسي بحري يرتبط مباشرةً بطموحات إثيوبيا في الوصول إلى منفذ على البحر الأحمر. فبينما تتجه إلى تعزيز روابطها الاقتصادية والأمنية مع كينيا على ساحل المحيط الهندي، فإنها توازن بذلك ضغوط جيرانها الشماليين، لا سيما إريتريا، التي تنظر بعين الريبة إلى أي تحرك إثيوبي نحو المياه الإقليمية. ويمنح التحالف مع نيروبي إثيوبيا متنفسًا استراتيجيًا لتخفيف عزلتها الجغرافية، وفرصة لتقديم نفسها كقوة “بنّاءة” تسعى إلى تكامل إقليمي بدل المواجهة، في وقت تتبلور فيه اصطفاف مناوئ يضم إريتريا والصومال ومصر على خلفية الخلافات حول مياه النيل والبحر الأحمر().
ويعكس هذا الاتفاق تحوّلًا تدريجيًا في خريطة التحالفات داخل القرن الأفريقي، حيث لم تعد العلاقات تُبنى فقط على المساعدات أو الانتماءات الأيديولوجية، بل على المصلحة الأمنية المشتركة والقدرة على إدارة المخاطر العابرة للحدود. ومن شأن نجاح هذا التحالف أن يعيد تموضع كينيا وإثيوبيا كقطبين فاعلين في شرق القارة، يملكان هامش مناورة أوسع في مواجهة النفوذ الخارجي، ويؤسسان لنموذج تعاون أفريقي–أفريقي يعيد صياغة معادلة الأمن الإقليمي من الداخل، بدل أن يُفرض من الخارج().
  • التحالف الإثيوبي الروسي
عزّزت إثيوبيا منذ عام 2021م، تعاونها العسكري-التقني مع روسيا عبر اتفاقيات واجتماعات حكومية رفيعة المستوى تهدف إلى تطوير القدرات الدفاعية، بما في ذلك برامج تدريبية مشتركة وآليات للتشاور العسكري وتقوية قنوات التزوّد التقني. ويعكس هذا التوسع في التعاون رغبة أديس أبابا في فتح قنوات بديلة للحصول على معدات وتدريب عسكريين بشروط تفاوضية أوسع، وتقليص الاعتماد الحصري على مصادر تقليدية للتمويل والتدريب().
ترى موسكو في تعزيز علاقاتها مع إثيوبيا فرصةً لتكريس حضور روسي أوسع في شرق أفريقيا ضمن استراتيجية أعادتها موسكو إلى سلم أولوياتها تجاه القارة، تشمل توسيع التعاون في المجالات الدفاعية والأمنية والطاقة والنووي المدني، وإدماج إثيوبيا ضمن شبكة علاقات هدفها بناء عمق جيواستراتيجي موازٍ للنفوذ الغربي. وفي المقابل، تستفيد أديس أبابا من هذه الشراكة لرفع هامش المناورة الإقليمي والسياسي، خاصّة في ملفات حساسة مثل ملف مياه النيل والضغوط المتعلقة بحقوق الإنسان().
ينطوي هذا التقارب على تداعيات مزدوجة، فهو يمنح إثيوبيا أدوات سياسية وتقنية لتعزيز استقلال قرارها الأمني، لكنه في الوقت نفسه قد يفاقم التوترات الإقليمية ويزيد من تعقيد ديناميات النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي، إذ يضع كلًّا من القوى الإقليمية والغربية أمام معادلة جديدة تتطلب إعادة تسوية التحالفات والآليات الأمنية في المنطقة. ويعتمد نجاح هذا المسار على قدرة إثيوبيا على موازنة المصالح الداخلية والخارجية، وعلى مدى التزام موسكو بعلاقات طويلة الأمد قابلة للتنفيذ في بيئة إقليمية شديدة الحساسية.
  • الاستقطاب الخليجي في المعادلة الأفريقية
يستمر الاستقطاب الخليجي في المعادلة الأفريقية من خلال منافسة واضحة بين محور القرن الأفريقي والدول الخليجية، حيث تشكل المنطقة امتدادًا مباشرًا لتفاعلات الشرق الأوسط. فدولة الإمارات تحتل مركزًا محوريًا في شرق إفريقيا، حيث استثمرت في موانئ إستراتيجية في إثيوبيا وجيبوتي، وموّلت بنية لوجستية عميقة تعزز من نفوذها البحري الممتد من عدن إلى بربرة، كما قدمت دعمًا ماليًا وعسكريًا غير معلن لإثيوبيا خلال حرب تيغراي، ما ساعد حكومة آبي أحمد على استعادة السيطرة الميدانية في 2022م().
كما تُركّز المملكة العربية السعودية على بناء منظومة أمن البحر الأحمر التي تضم دولًا مطلة على الساحل الغربي، مثل السودان وإريتريا وجيبوتي، في إطار سعيها لإقامة تحالف بحري عربي-أفريقي يُحد من النفوذ الإيراني. وفي المقابل، تحتفظ كلّ من قطر وتركيا بشراكات موازية مع دول مثل الصومال والسودان، ما يحول القرن الأفريقي إلى ساحة استقطاب خليجي–إقليمي مفتوحة تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية مع الأمن البحري().
وتعكس هذه الديناميكية أن الدول الخليجية لا تتعامل مع شرق إفريقيا باعتباره ساحة استثمار فحسب، بل بوصفه مسرحًا لتوسيع النفوذ البحري والجيوسياسي، يتطلب تأمين خطوط التجارة والموانئ وتحويلها إلى أدوات استراتيجية ضمن شبكة معقدة من التحالفات. وهذا ما يجعل التنافس بين الإمارات والسعودية من جهة، وقطر وتركيا من جهة أخرى، عنصرًا مركزيًا في إعادة تشكيل بنية القوة في المنطقة، إذ لا يُنظر إلى شرق إفريقيا اليوم مجرد شريك تنموي، بل كلاعب حاسم في حرب النفوذ البحرية والجيوسياسية().
  • التوتر الإثيوبي الإريتري
شكّل اتفاق السلام الموقع بين إثيوبيا وإريتريا عام 2018م، محطة مفصلية أنهت عقدين من القطيعة والصراع، وفتح الباب أمام تعاون واسع النطاق في الملفات العسكرية والأمنية. غير أن هذا التقارب الذي بلغ ذروته خلال الحرب في إقليم تيغراي (2020–2022م) بدأ يتآكل تدريجيًا مع تباين مصالح الطرفين في مرحلة ما بعد الصراع، إذ رأت أسمرة في اتفاق بريتوريا لعام 2022م، بين حكومة آبي أحمد وجبهة تحرير تيغراي تهديدًا مباشرًا لتوازن القوى الذي ساهمت في صياغته ميدانيًا().
فقد اعتبرت القيادة الإريترية أن الاتفاق منح التيغراي شرعية سياسية جديدة، وأعاد إدماجهم في النظام الإثيوبي بدعم من واشنطن، دون مراعاة الدور الحاسم الذي لعبه الجيش الإريتري في ترجيح كفة أديس أبابا خلال الحرب. ومنذ ذلك الحين، سادت حالة من الفتور في العلاقات الثنائية، تخللتها اتهامات إثيوبية غير مباشرة لأسمرة بدعم ميليشيات أمهرا المسلحة، التي تخوض مواجهة مفتوحة مع الحكومة الفدرالية منذ منتصف عام 2023م.
توازى هذا التوتر السياسي مع صعود خطاب إثيوبي متزايد حول ما وصفته بالحق التاريخي في الوصول إلى البحر الأحمر، وهو طرح أعاد إلى الذاكرة الإريترية تجربة الضم الإثيوبي عام 1952م، وأثار مخاوف من أن تكون التحركات الراهنة مقدمة لمحاولة استعادة منفذ بحري بالقوة أو عبر ترتيبات تضعف السيادة الإريترية. وقد عبّر آبي أحمد صراحة عن هذا التوجه حين وصف فقدان إثيوبيا ساحلها بأنه “خطأ تاريخي يجب تصحيحه”، ما جعل الملف البحري يتحول إلى قضية وجودية في الخطاب السياسي الإثيوبي ومصدر قلق إستراتيجي في أسمرة.
تزامن ذلك مع إعادة تموضع إريتري حذر تجاه التحالفات الإقليمية، إذ بدأت أسمرة في توثيق تنسيقها مع مصر والصومال ضمن إطار غير معلن يهدف إلى موازنة النفوذ الإثيوبي المتزايد في القرن الأفريقي. وفي المقابل، لجأت أديس أبابا إلى تعميق تعاونها الدفاعي مع كينيا وروسيا والهند، في محاولة لإعادة بناء توازنات القوة لصالحها().
وعلى الرغم من غياب مؤشرات مباشرة على اندلاع مواجهة وشيكة، فإن التحركات العسكرية المتبادلة على الحدود الشمالية واستدعاء إريتريا للاحتياط العام في منتصف عام 2024م، تكشف أن التوتر تجاوز حدود الخلاف السياسي إلى مستوى التحضير الميداني. وفي حال انفجار الصراع، ستكون تداعياته كارثية على أمن البحر الأحمر وممراته، نظرًا لارتباط الموانئ الإريترية بمشاريع النقل والطاقة العابرة للقرن الأفريقي، مما يجعل أي حرب محتملة تتجاوز كونها نزاعًا ثنائيًا لتصبح تهديدًا بنيويًا لاستقرار الإقليم بأكمله().
  • التحالفات البحرية حول البحر الأحمر وباب المندب
تتسارع في السنوات الأخيرة وتيرة التحولات في المشهد البحري للبحر الأحمر وباب المندب، إذ لم تعد ترتيبات الأمن البحري محصورة في جهود مكافحة القرصنة أو تأمين الملاحة التجارية، بل أصبحت جزءًا من معادلة إعادة توزيع النفوذ الدولي والإقليمي في واحدة من أكثر النقاط الاستراتيجية حساسية في العالم. فمنذ عام 2020م، تصدّرت مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات مسار تشكيل منظومة أمنية عربية–أفريقية من خلال مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، الذي يهدف إلى بناء آلية مؤسسية لتنسيق السياسات الدفاعية والاقتصادية بين ثماني دول ساحلية، وضبط التفاعلات العسكرية الأجنبية في الممر المائي الممتد من قناة السويس شمالًا حتى مضيق باب المندب جنوبًا.
وقد شكّل هذا المجلس – الذي أُعلن عنه رسميًا في الرياض- ردًّا منظمًا على تصاعد النفوذ الإيراني والتركي في الممر البحري، ومحاولة لتثبيت هوية أمنية عربية للبحر الأحمر في مواجهة عسكرة متزايدة من قوى خارجية كالصين وروسيا والولايات المتحدة، التي تمتلك قواعد ومواقع تمركز على جانبي الممر. في المقابل، تتحرك إثيوبيا خارج المعادلة التقليدية لتعيد تعريف موقعها الجيوسياسي، رغم كونها دولة غير ساحلية. فمنذ عام 2023م، تخوض أديس أبابا مفاوضات متعددة مع الصومال وأرض الصومال لاستئجار أو امتلاك منفذ بحري دائم، مع إحياء التعاون اللوجستي مع جيبوتي وإريتريا.
وتكشف هذه التحركات عن تحوّل جذري في التفكير الإستراتيجي الإثيوبي، فلم تعد السيطرة على منابع النيل هي محور سياستها الإقليمية فحسب، بل أصبحت الوصول إلى البحر الأحمر هدفًا وجوديًا يوازي في أهميته قضية المياه، مدفوعًا برؤية ترى أن النمو الاقتصادي والتوسع التجاري لا يمكن تحقيقهما دون منفذ بحري مستقل.
يُثير هذا التوجّه الإثيوبي قلقًا إقليميًا متزايدًا؛ إذ تخشى جيبوتي من خسارة دورها كمنفذ رئيسي للتجارة الإثيوبية، بينما تنظر الصومال إلى أي تفاهم إثيوبي مع أرض الصومال كتهديد مباشر لوحدة أراضيها. أما إريتريا، فتعتبر المساعي الإثيوبية امتدادًا لتطلعات الهيمنة القديمة، ما يزيد احتمالات عودة التوتر بين أسمرة وأديس أبابا، خصوصًا في ظل ما يُعتقد أنه دعم خليجي وأميركي غير معلن للطموح الإثيوبي البحري.
تتجاوز التحالفات البحرية اليوم البُعد العسكري إلى بُعدٍ اقتصادي أمني متشابك، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى مع مصالح الدول الإقليمية في السيطرة على الموانئ، وشركات الشحن، والبنى التحتية اللوجستية. فالإمارات عبر “موانئ دبي العالمية” والسعودية عبر “الهيئة العامة للنقل”، ومصر عبر “هيئة قناة السويس” أصبحت أطرافًا رئيسية في إعادة رسم خريطة السيطرة على خطوط التجارة والعبور في البحر الأحمر.
ويُبرز هذا الواقع أن البحر الأحمر لم يعد مجرد شريان للطاقة والتجارة، بل أداة لإعادة هندسة النظام الأمني الإقليمي؛ إذ تتداخل فيه الجغرافيا العسكرية مع الجغرافيا الاقتصادية، وتتنافس القوى على النفوذ تحت شعارات “الأمن البحري” و”الاستقرار الإقليمي”، بينما تجري في العمق إعادة تموضع واسعة النطاق ترتبط بتوازن القوى بين الشرق الأوسط وشرق إفريقيا على حد سواء.
خامسا: احتمالات الصراع المستقبلي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي
تُظهر المعطيات الميدانية والسياسية الراهنة أن التحالفات البحرية في البحر الأحمر وباب المندب لا تتجه فقط نحو بناء منظومة استقرار جماعي، بل تحمل في طيّاتها عناصر توتر كامنة قد تنفجر في صراعات محدودة أو مواجهات بالوكالة. فمع تعدد الفاعلين وتناقض أولوياتهم، يتحوّل البحر الأحمر من ممر تجاري إلى منصة تنافس استراتيجي مفتوح بين محاور متشابكة: المحور الأمريكي–الخليجي، والمحور الصيني–الروسي، ومحور القوى الأفريقية الصاعدة بقيادة إثيوبيا وكينيا.
  • الصراع البحري غير المعلن بين القوى الكبرى
تزداد احتمالات الاحتكاك غير المباشر بين القوات المنتشرة في الممر البحري، لا سيما بين القواعد الأمريكية والفرنسية في جيبوتي والوجود البحري الصيني المتنامي في المنطقة نفسها. فمع اتساع مهام القاعدة الصينية في جيبوتي لتشمل أنشطة استخباراتية ودعمًا للأسطول الصيني في المحيط الهندي، تتعامل واشنطن مع هذا الوجود باعتباره تهديدًا مباشرًا لحرية حركتها العسكرية والاستخباراتية. ومن المتوقع أن تُترجم هذه الحساسية المتزايدة إلى حرب تكنولوجية باردة في مجالات الرصد الإلكتروني، والمراقبة البحرية، والتجسس عبر الأقمار الصناعية.
  • التنافس الإقليمي على الموانئ والسيادة البحرية
على المستوى الإقليمي، يظل التوتر بين إثيوبيا وإريتريا مرشحًا للعودة إلى الواجهة، خاصة في ظل سعي أديس أبابا للحصول على منفذ بحري، ترى فيه إريتريا مشروعًا لفرض الهيمنة الجديدة على حساب سيادتها، فيما تعتبر إثيوبيا أن حصولها على منفذ بحري هو “حق استراتيجي” غير قابل للتفاوض. وفي حال فشل التسويات السياسية، يُرجّح أن تتطور الأزمة إلى مواجهة حدودية أو بحرية محدودة، خصوصًا إذا حصلت إثيوبيا على دعم ميداني أو استخباراتي من شركائها الخليجيين والغربيين، في حين قد تلجأ أسمرة إلى توسيع علاقاتها الدفاعية مع روسيا أو الصين للرد على هذا الضغط.
تشير المؤشرات الراهنة إلى احتمال توظيف الإمارات وبعض الدوائر الغربية والإسرائيلية للتوتر القائم بين إثيوبيا وإريتريا كأداة لإعادة رسم موازين النفوذ على البحر الأحمر، عبر تمكين أديس أبابا من تحقيق نفاذ بحري ولو بصورة غير مباشرة أو محدودة عسكريًا. فالإمارات، التي سبق أن استخدمت الموانئ الإريترية في سياقات إقليمية، قد ترى في دعم إثيوبيا وسيلة لتعزيز حضورها في الممرات البحرية الحيوية، بينما تميل الولايات المتحدة وإسرائيل إلى التعامل مع المشروع الإثيوبي بوصفه فرصة لتقليص النفوذ الصيني والروسي في القرن الأفريقي. قد يخلق هذا التلاقي بين الدوافع الاقتصادية والأمنية بيئة تسمح بتغطية سياسية أو استخباراتية لأي تحرك إثيوبي باتجاه الساحل، بذريعة ضمان الاستقرار الملاحي، لكنه في جوهره يفتح الباب أمام عسكرة أخرى للبحر الأحمر وتأجيج التنافس على مداخله الجنوبية.
  • تحوّل البحر الأحمر إلى مسرح تنافس بالوكالة
تتزايد المؤشرات على أن البحر الأحمر يتجه ليكون ساحة اختبار جديدة لنظام التحالفات بالوكالة. فالدول الكبرى تفضّل دعم شركائها الإقليميين دون التورط المباشر في الصراعات. فالإمارات والسعودية تتحكمان في البنية التحتية للموانئ وخطوط الإمداد، بينما تدعم واشنطن وموسكو وتل أبيب الأطراف المحلية وفقًا لحساباتها الخاصة. هذا النمط من التحكم عن بُعد قد يقود إلى تصادم نفوذ غير مباشر في الجزر والمضائق والموانئ الحساسة مثل عصب وسقطرى وبربرة، وهو ما يرفع احتمالات اندلاع نزاعات محدودة قابلة للتوسع في حال حدوث اختلال مفاجئ في توازن الردع البحري.
  • تداعيات على الأمن المصري والإقليمي
 من منظور الأمن القومي المصري، يفتح أي اضطراب واسع في البحر الأحمر احتمالات إعادة رسم خطوط السيطرة البحرية من قناة السويس إلى باب المندب، وهو ما يهدد دور مصر المركزي في أمن الملاحة الدولية. كما أن تمكين إثيوبيا من موطئ قدم بحري دائم سيضيف بُعدًا جيوسياسيًا جديدًا للنزاع حول مياه النيل، إذ ستكتسب أديس أبابا قدرة على التنسيق العسكري واللوجستي مع الحلفاء البحريين في مواجهة القاهرة والخرطوم، وهو سيناريو تُراقبه الأجهزة المصرية عن كثب.
يمكن القول إن البحر الأحمر يتجه إلى مرحلة توازن هشّ قابل للاشتعال، حيث تتقاطع خطوط الطاقة والتجارة مع خطوط النفوذ العسكري والاستخباراتي. وإذا لم تُنشأ آلية أمن جماعي فعّالة تُلزم جميع القوى بقواعد واضحة، فإن المنطقة قد تشهد في المستقبل القريب أشكالًا من الصراعات بالوكالة، تبدأ بتنافس اقتصادي وتنتهي باحتكاكات بحرية مباشرة، بما يهدد بتحويل البحر الأحمر من ممرٍّ للتجارة العالمية إلى مسرحٍ محتمل لحربٍ باردةٍ جديدة تمتد من سواحل القرن الأفريقي إلى مضيق هرمز.
خاتمة  
تكشف قراءة الوضع الراهن في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر عن مرحلة انتقالية معقّدة في منظومة الأمن الإقليمي والدولي، تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى مع حسابات الفاعلين الإقليميين في بيئة شديدة السيولة. لم يعد الوجود العسكري المباشر هو الأداة الرئيسية للنفوذ، بل أصبحت السيطرة على الموانئ، والاستثمارات اللوجستية، والتحالفات البحرية غير المعلنة هي المداخل الجديدة لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة.
في هذا السياق، تتّضح ملامح نظام توازن هشّ يقوم على إدارة النفوذ بالوكالة بين محورين متنافسين، المحور الأمريكي–الإسرائيلي–الخليجي، والمحور الروسي–الصيني–الإريتري، فيما تسعى قوى أفريقية صاعدة، مثل إثيوبيا وكينيا، إلى استثمار التحولات لصياغة أدوارٍ مستقلة تُعيد تعريف موقعها في معادلة البحر الأحمر. لكن هذا التعدد في مراكز القرار يفتح الباب أمام احتكاكات بحرية وأمنية قد تتطور إلى صراعات محدودة، خاصة في ظل غياب إطار إقليمي ملزم لإدارة الأمن الجماعي.
أما من منظور الأمن القومي المصري، فإن تمدد النفوذ الإثيوبي المحتمل نحو البحر الأحمر، مقرونًا بإعادة تموضع القوى الدولية في القرن الأفريقي، يشكّل تحديًا استراتيجيًا مركّبًا يمتد من منابع النيل إلى بواباته البحرية. فمصر تجد نفسها أمام معادلة جديدة تفرض تعزيز الحضور الدبلوماسي والعسكري في دوائرها الحيوية، وتوسيع شراكاتها مع الدول المطلة على البحر الأحمر لضمان عدم اختلال ميزان القوة في الممر الملاحي الأهم للأمن القومي المصري والعربي.
ختامًا، يُمكن القول إن البحر الأحمر والقرن الأفريقي يتحولان تدريجيًا إلى مسرح لإعادة توزيع النفوذ العالمي في ظل تراجع النظام الدولي أحادي القطب. ومع غياب رؤية إقليمية موحدة لإدارة التفاعلات الأمنية والاقتصادية، يبقى المستقبل مفتوحًا على سيناريوهات متعددة تتراوح بين التعاون المحدود والصراع بالوكالة، وهو ما يجعل من السنوات القادمة فترة اختبار حقيقية لقدرة الدول الإقليمية – وفي مقدمتها مصر- على صياغة توازن جديد يحفظ استقرار الممرات البحرية ويمنع انزلاق المنطقة إلى فوضى جيوسياسية مفتوحة.

اترك تعليقا