هل من عقوبات أوروبية محتملة على إسرائيل؟
الكاتب:
شهدت السياسة الأوروبية في الآونة الأخيرة تحولات بارزة تجاه إسرائيل، إذ طرحت المفوضية الأوروبية مقترحًا في سبتمبر 2025م، يقضي بتعليق بعض الامتيازات التجارية الممنوحة لإسرائيل بموجب اتفاقية الشراكة الموقعة عام 2000م، استنادًا إلى بند «الالتزام بحقوق الإنسان» بوصفه شرطًا جوهريًا في اتفاقياتها الدولية. وقد جاء هذا المقترح في ظل تصاعد حدة الانتقادات الحقوقية لممارسات إسرائيل في غزة والضفة الغربية، بما في ذلك توسيع المستوطنات وتنفيذ خطة «E1» التي اعتبرتها مؤسسات أوروبية تهديدًا مباشرًا لحل الدولتين.
كما فُرضت عقوبات على كيانات وشخصيات بعينها، مثل وزراء اليمين المتطرف «إيتمار بن غفير» و«بتسلئيل سموتريتش» إووزير التراث السابق وعضو الكنيست الحالي «عميجاي إلياهو» ضافة إلى مستوطنين تورطوا في أعمال عنف ضد الفلسطينيين.
ويستند الإطار القانوني، الذي يحكم العلاقة التجارية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل لاتفاقية الشراكة الموقعة مع إسرائيل (Euro-Mediterranean Association Agreement) التي دخلت حيّز التنفيذ عام 2000م، وتقوم على مبدأ التبادل التجاري والتعاون السياسي والاقتصادي والثقافي. ولكنها تضمّ في مادتها الثانية بندًا صريحًا جعل «الاحترام لحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية» جوهريًا لهذه العلاقة. وأجاز اتخاذ «تدابير مناسبة» بما فيها تعليق أجزاء من الاتفاقية؛ حال ثبوت أي إخلال جوهري بهذه الالتزامات.
الخيارات المتاحة المحتملة:
يمكن تلخيص خيارات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع انتهاكات إسرائيلي لالتزامات الاتفاقية، على النحو التالي:
التعليق الجزئي للمزايا التجارية: يملك الاتحاد الأوروبي صلاحية تعليق بعض الامتيازات التجارية التي تستفيد منها إسرائيل، بموجب الاتفاقية، مثل خفض الرسوم الجمركية وتسهيل دخول السوق الأوروبية. وقد سبق للاتحاد أن استخدم آلية مشابهة مع دولة أخرى، مثل سريلانكا في 2010م.
تقييد التعاون البحثي والقطاعي: قد يُقيد الاتحاد مشاركة إسرائيل في برامج التعاون البحثي والجامعي مثل (Horizon Europe) أو يحد من التنسيق معها في مجالات الطاقة والتكنولوجيا.
التعليق الكامل للاتفاقية: يُعد هذا الخيار الأكثر جدية، فقد يؤدي إلى شل العلاقات القانونية المميزة بين الطرفين. إلا أنّ تفعيله يتطلب توافقًا سياسيًا واسعًا بين دول الاتحاد، نظرا لأنه قد يثير ردود فعل دبلوماسية واقتصادية قوية من جانب إسرائيل والولايات المتحدة.
اتخاذ إجراء مشروط، أو مراجعة دورية: إذ يمكن الإبقاء على الاتفاقية، ولكن مع إضافة آليات مراقبة ومراجعة دورية لسلوك إسرائيل، وربط استمرار الامتيازات بمدى التزامها بالقانون الدولي وحقوق الإنسان.
إجراءات التفعيل
تقتضي آلية تفعيل الإجراءات الأوربية المحتملة اتخاذا سلسلة من الخطوات القانونية والسياسية، أولها إعداد المفوضية الأوروبية تقرير قانوني يثبت خرق إسرائيل لبنود الاتفاقية؛ لعرضه على المجلس الوزاري، المخول باتخاذ قرار التعليق. ويتطلب ذلك أغلبية مؤهلة (موافقة 55% من الأعضاء وبما يشكل 65% من عدد سكان الأعضاء أو إجماعًا بحسب طبيعة الإجراء) وفي حال الموافقة، يلتزم الاتحاد بإبلاغ إسرائيل بنيّة التعليق وإتاحة فرصة للتشاور. فضلا عن إخضاع القرار، حال تنفيذه، لمراجعة دورية، مما يتيح مرونة التراجع، أو التغليظ.
دعوات لفرض العقوبات:
مع اندلاع الحرب في غزة، إثر هجوم حماس في 7–8 أكتوبر 2023م، اتخذت مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء موقفًا مزدوجًا، تمثل في إدانة الهجوم الإرهابي، ورفض استخدام العنف ضد المدنيين، مع مناشدات لتوفير ممرّات إنسانية وحماية المدنيين. لكن مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية المدمرة، تراكمت الضغوط السياسية والقانونية على مؤسسات الاتحاد. ومن ثم بدأ النقاش يتحوّل تدريجيًا من بيانات الإدانة، إلى مقترحات لاتخاذ إجراءات عملية بما فيها مراجعة شاملة للعلاقات والامتيازات التجارية مع إسرائيل.
وما لبث النقاش أن تصاعد، أواخر 2024–2025م، إلى مستوى اقتراح باتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل، بدلا عن المساعدات الإنسانية والبيانات المشتركة، والدعوات بإجراء تحقيقات دولية، نظرا لما يلي:
صدور تقارير حقوقية تربط بين ممارسات إسرائيل وخرق التزاماتها بحقوق الإنسان؛ بمقتضى اتفاقية الشراكة، مما أطلق جدلاً قانونياً حول إمكانية تفعيل بنود «العنصر الجوهرِي» الوارد بالاتفاقية.
أدى تفاقم الدمار وتدهور الوضع بغزة، إلى تنامي الضغوط الشعبية على عدة حكومات.فضلاً عن حملات المقاطعة للمنتجات العبرية ،خاصة أن استطلاعات رأي مثل (YouGov)أظهرت في منتصف 2025م، تراجعًا كبيرًا في التأييد الشعبي لسياسات إسرائيل، مما ضاعف الإلحاح على اتخاذ خطوات ملموسة ضدها..
زيادة ضغوط المجتمع المدني، ونداءات دبلوماسيين سابقين ومنظمات بحثية لاتخاذ إجراءات حيال ذلك، على نحو حشد شرعية سياسية للأفكار العقابية المقترحة ضد إسرائيل.
كثرة الانقسامات داخل الاتحاد؛ فوجود دول ودّيّة لإسرائيل (بعض دول أوروبا الشرقية، ألمانيا جزئياً) مقابل دول شديدة الانتقاد لها (إسبانيا، أيرلندا، بلدان شمالية) ولد مواقف متباينة تعكس انقسامات حقيقية في الاستراتيجية الأوروبية حيال هذه القضية المعقدة بمنطقة الشرق الأوسط.
أم المقترحات والأدوات التي نوقشت رسميًا وشعبيًا داخل الاتحاد الأوروبي، فقد شملت ما يلي:
تعليق جزئي للبند التجاري في اتفاقية الشراكة (فرض تعريفات اعتيادية على سلع محددة ومصدرها إسرائيل أو «المستوطنات».
قوائم عقوبات مستهدفة (حظر سفر وتجميد أصول لأفراد، بما في ذلك وزراء أو قادة ومستوطنين) وهي إجراءات متاحة عبر آليات العقوبات في (Consilium) .
حظر تصدير أسلحة، أو تقييد التعاون الأمني؛ حال اتساق الدليل السياسي والقانوني (مطلب أثار جدلاً حادًا بشأن ضمان الأمن الأوروبي والاستخبارات).
قيود على برامج الشراكة المدنية والبحثية مع مؤسسات إسرائيلية مرتبطة مباشرة بسياسات الاستيطان أو الجيش.
وفي هذا السياق، بدأت بعض الدول بالبرلمان الأوروبي ومنظمات حقوقية في المطالبة بمراجعة آليات اتفاقية الشراكة وبتجميد سبل التعاون مع إسرائيل بل تصاعد الجدل داخل بعض الدول مثل إيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا وهولندا بشأن مراجعة العلاقات مع إسرائيل، لاسيما الاعتراف بدولة فلسطين.
وتقدمت هولندا، في مايو 2025م، بمقترح مراجعة الشراكة مع إسرائيل، لقى دعم سبعة عشر دولة بالاتحاد (هولندا، إسبانيا، إيرلندا، بلجيكا، فنلندا، فرنسا، لوكسمبورج، البرتغال، سلوفينيا، السويد، النمسا، مالطا، الدنمارك، إستونيا، بولندا، رومانيا، سلوفاكيا)، بينما رفضته ثمان دول (ألمانيا، المجر، إيطاليا، بلغاريا، اليونان، قبرص، تشيك، أوكرانيا، لتوانيا) على الرغم من أنها تواجه ضغوط داخلية متنوعة ما بين السياسية والاقتصادية الرافضة لكل صور التعاون مع إسرائيل.
وفي منصف سبتمبر 2025م، بدأ الموقف الأوروبي مرحلة حاسمة في هذا الشأن، إذ قدّمت المفوضية الأوروبية حزمة مقترحات رسمية تضمنت مقترحًا لتعليق جزئي لأحكام تجارية في اتفاقية الشراكة مع إسرائيل، مثل رفع التعريفة على شريحة من السلع الإسرائيلية إلى الرسوم الاعتيادية. غير أن تطبيق هذا التعليق يظلّ مسألة سياسية خاضعة لمصادقة المجلس. بجانب فرض عقوبات ضد وزراء وصفتهم بروكسل بالمتطرفين ومستوطِنين متورطين بعنف.
وأخيرا، بدأت موجة اعترافاتٍ دبلوماسية بعدّة دول أوروبية، في 22–25 سبتمبر 2025م، مصحوبة بإجراءات منفردة مثل حظر سفر، ومقاطعة تجارية متعددة، ومبادرات مجتمع مدني، ومناشدات 209 دبلوماسياً سابقاً باتخاذ تدابير فورية ضد إسرائيل وذلك بالتزامن مع استمرار مداولات المجلس الأوروبي في هذا الشأن.
أدوات وخيارات ملموسة طُرحت على الطاولة
التحديات والمخاطر
على الرغم من أن المقترحات الأوروبية تمثل سابقة في التعامل مع إسرائيل، إلا أن تطبيقها يواجه عدة تحديات ومخاطر جوهرية. أهمها ما يلي:
صورة أرشيفية من إجتماعات المفوضية الأوروبية
أولا: شرط الإجماع داخل الاتحاد الأوروبي، إذ إن أي عقوبات اقتصادية أو سياسية تحتاج إلى موافقة جميع الدول الأعضاء، وهو ما يمنح الدول المتحفظة مثل المجر وألمانيا قدرة فعلية على تعطيل الإجراءات.
ثانيًا، تواجه أوروبا معضلة التوازن بين الاعتبارات الحقوقية والمصالح الاستراتيجية؛ فبعض الدول الأوروبية ترى أن العقوبات قد تُضعف الدور الأوروبي كوسيط في عملية السلام، أو تضر بالعلاقات الأمنية والعسكرية مع إسرائيل.
ثالثًا، طرح تساؤلات حول الآثار غير المقصودة لعقوبات المقترحة، خاصة على الفلسطينيين أنفسهم، إذ قد يؤدي تعليق الامتيازات، أو القيود الاقتصادية إلى إضعاف الاقتصاد الفلسطيني إذ تأثر بالارتباطات التجارية مع إسرائيل، أو بالقيود على حركة البضائع.
رابعا: وجود قاعِدة الإجماع داخل مجلس الاتحاد، وشروط تشريعية واجبة، في سياقات معيّنةـ؛ فقرارات إدراج الأفراد، أو التدابير الواسعة تتطلب أحيانًا موافقة كاملة، أو أغلبية مؤهلة. وهو ما يمنح دولًا معارضة القدرة على تعطيل أي إجراءات محتملة حيال إسرائيل. مثل ألمانيا والمجر وبلدان أوروبية شرقٍية أخرى، تتحفظ على اتخاذ إجراءات تجارية، أو عقوبات شاملة ضدها، بدعوى المخاطر الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية.
خامسا: التحسب من رد الفعل الإسرائيلي والأمريكي، سواء عبر فرض قيود على التعاون الأمني والاستخباراتي مع الدول الأوروبية، أو عبر التوجه إلى الطعن القانوني على قرارات الاتحاد أمام مؤسسات التجارة العالمية، استنادا إلى تفسير خاص ببنود الاتفاقيات التجارية.
النتائج/الانعكاسات المحتملة
ضغط سياسي متزايد على الحكومات التي تساند المقترحات، خاصة التي تواجه ضغوطًا انتخابية داخلية من رأي عام متعاطف مع القضية الإنسانية في غزة، مما قد يزيد من احتمالية موافقة تلك الحكومات على خطوات ملموسة لاحقًا.
خطر استغلال الانقسام: معارضة دول مؤثرة (ألمانيا، المجر) قد تؤدي إلى صيغ «توافقية» تخفف من وقع الإجراءات، مثل تعليق محدود، أو تدابير رمزية بدلاً من حظر شامل.
تحويل المسار من الإطار الأوروبي إلى الإجراءات المنفردة: إذا تعثر المسار الأوروبي الشامل، قد تلجأ دول منفردة إلى إجراءات وطنية، مثل حظر سفر، وحظر صادرات أسلحة بشكل ثنائي، وفرض قيود على البضائع من المستوطنات، مما قد يولّد تباينا في الموقف الأوروبي ويضعف رسالته الموحدة.
فتور علاقة الاتحاد بالولايات المتحدة وضعف القدرات الاستخباراتية: فقد تثير أي خطوات أوروبية قوية احتكاكات دبلوماسية مع واشنطن، خاصة إذا اختلفت استراتيجيات الضغط أو التوقيت؛ كذلك إثارة الحساسية بشأن التعاون الأمني والاستخباراتي معها.
التقديرات المرجحة
من المرجح أن تظل المقترحات المتداولة داخل الاتحاد الأوربي بفرض عقوبات على إسرائيل رهنا بقواعد التصويت داخل المجلس، والحسابات الأمنية والاقتصادية التي قد تبطئ وتيرتها أو تقلّص نطاقها. وبالتالي تبقى المقاربة الأرجح في هذا الصدد مزيجا من إجراءات ستهدف (قوائم أفراد، وقيود على المستوطنات) والتعليق المشروط لآليات تبادل تجاري محددة، مع إمكانية لخطوات متفرقة إذا يتعذر التوصل إلى توافق أوروبي شامل.
لم تعد السياسة الأوروبية تجاه إسرائيل مقتصرة على طابعها الخطابي؛ منذ أن قدّمت المفوضية الأوروبية مقترحات، في سبتمبر 2025م، تتضمن تعليقاً مشروطاً لبعض الامتيازات التجارية المتصلة باتفاقية الشراكة معها. بجانب مقترحات لعقوبات تستهدف شخصيات وكيانات متورطة في الاستيطان والعنف ضد المدنيين. ولكنها لا تزال بحاجة إلى موافقة المجلس وتواجه نقاشًا داخليًا بين الدول الأعضاء حول مدى اتساع وطبيعة هذه الإجراءات.
يعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لإسرائيل، التي تأتي في الترتيب الحادي والثلاثين لدول الإتحاد الأوروبي، إذ بلغ إجمالي حجم تجارة السلع بين الاتحاد وإسرائيل نحو6 مليار يورو عام 2024م، وتشكل صادرات الاتحاد إلى إسرائيل نحو 26.7 مليار يورو، مقابل واردات منها بقيمة 15.9 مليار يورو، مع حجم كبير أيضاً لتبادل الخدمات، الأمر الذي يجعل أية خطوة لتعليق أحكام تجارية قادرة نظريًا على إحداث تأثير اقتصادي ضمن حسابات صانعي القرار الأوروبيين عند صياغة الخيارات المرحلية والشرطية.
تشكل قضية توسيع المستوطنات وخطة «E1» محورًا مركزيًا في الموقف السياسي الأوروبي إذ تعدها مؤسسات أممية وأوروبية تهديدا لإمكانية تطبيق حلّ الدولتين عبر قطع التواصل الجغرافي بين شمال وجنوب الضفة الغربية. كما وصفته تقارير أممية ومواقف رسمية بأنه «تهديد وجودي» لإمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. مما جعلها من بين الأسباب التي استندت إليها دعوات مراجعة اتفاقية الشراكة واتخاذ إجراءات محددة مع إسرائيل.
نهاية النص
المراجع والهوامش متاح بملف PDF
متابعة القراءة