العمق الاستراتيجي الإيراني بالشرق الأوسط
بواسطة :
تنبع أهمية الدراسة من كونها تتناول محور المقاومة الإسلامية بالدراسة والتحليل؛ بوصفه تطبيقا عملية لمقاربة إيران الإقليمية في تكوين عمق الاستراتيجي لها بمنطقة الشرق الأوسط، سواء بالاستخدام الأمثل لقواها الناعمة أو بالاعتماد على قوى ما دون الدولة. خاصة بعد إسقاط نظام صدام حسين، عام 2003م، وتدمير العراق، الذي كان بمثابة المعادل الإقليمي لها؛ على نحو سهل لها الهيمنة عليه، والتمدد داخل كل من سوريا واليمن، عشية وقوع أحداث الربيع العربي عام 2011م، لتصبح هذه الدول، إضافة إلى حزب الله اللبناني، مرتكزات جيوسياسية لهذا العمق.
كما تتجلى أهمية هذه الدراسة أيضا في استجلاء عدد من النقاط المهمة الأخرى، منها:
– معرفة استراتيجية إيران لبناء العمق الاستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط.
– معرفة مفهوم محور المقاومة، ومرتكزاته الجيوسياسية.
– معرفة مكاسب إيران من محور المقاومة، والتحديات التي قد تشكل مستقبله.
– معرفة مدي نجاح إيران في الاستناد إلى محور المقاومة في تحقيق أهدافها.
– معرفة السيناريوهات المحتملة لمستقل محور المقاومة
المشكلة البحثية:
تنبع المشكلة البحثية من كونها ترصد تداعيات خلق إيران عمق استراتيجي لها بمنطقة الشرق الأوسط، والعوامل المختلفة التي أدت إلى تجسيد محور المقاومة الإسلامية لهذا العمق، وتداعياته على الأمن القومي العربي. ومن ثم، برز تساؤل رئيس مفاده: لماذا اتجهت إيران إلى بناء عمق استراتيجي لها بهذ المنطقة؟
التساؤلات الفرعية:
فرض التساؤل الرئيس للدراسة بدوره عدة تساؤلات فرعية أخرى مفادها:
– ما مكانة إيران الاستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط؟
– ما مفهوم العمق الاستراتيجي ومحور المقاومة الإسلامية وعوامل نشأته؟
– ما الركائز الجيوسياسية لمحور المقاومة، وما خصائصه؟
– ما المكاسب التي حصلتها إيران من هذا المحور، وما التحديات التي تجابهه؟
– ما مدي نجاح إيران في تحقيق أهدافها الإقليمية عبر محور المقاومة؟
– ما مدى الاستجابة الإقليمية والدولية لتكوين إيران عمق استراتيجي لها بالمنطقة؟
– ما مستقبل محور المقاومة المحتمل في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية؟
منهج الدراسة:
كان المنهج التاريخي القائم على الوصف هو الأنسب لهذه الدراسة؛ نظرا لأنه يمثل منهجا من مناهج التحليل القائم على المعلومات الكافية والدقيقة حول ظاهرة، أو موضوع بعينه، أو فترة زمنية محددة، للوصول إلى نتائج علمية موضوعية. وهو الأمر الذي يسهم في تناول الجوانب الخاصة بهذا الموضوع تناولا علميا دقيقا.
فرضية الدراسة:
يرى الباحث أن إيران تسعى إلى الهيمنة الإقليمية، عبر زيادة وزنها النسبي مقابل القوى الإقليمية الأخرى، وأن هذا المسعي سوف تكون له تداعيات كبرى على المنطقة العربية بأكملها. وهو أمر يستوجب كبح جماحه وتحييده.
تقسيمات الدراسة:
تنقسم الدراسة إلى خمسة مطالب رئيسة هي:
– مكانة إيران الاستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط
– مفهوم محور المقاومة وعوامل نشأته
– المرتكزات الجيوسياسية لمحور المقاومة الإسلامية
– مكاسب محور المقاومة والتحديات التي تواجهه
– سيناريوهات مستقبل محور المقاومة
– النتائج والتوصيات
والله أسال أن تكون هذه الدراسة قد حققت أهدافها المرجوة، وأن يوليني القارئ الكريم بعض حلمه ورحابة صدره، ويرى هفواتها موضعًا لتسامحه؛ خاصة أن القارئ يكون أبصر بمواقع الخلل في أي دراسة من منشئها.
الدكتور سعيد الصباغ
مكانة إيران الاستراتيجية بمنطقة الشرق الاوسط
مما لا شك فيه أن إيران تعد ركيزة من ركائز التوازن الاستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط؛ وذلك بفضل تمتعها بجملة من المزايا التالية:
أولا: محورية الموقع الجغرافي:
تنعم إيران بموقع جغرافي يتميز بالداينامية والتأثير؛ حيث تقع جنوب غرب آسيا، بالجزء الشمالي من الكرة الأرضية، بين خطي عرض 24 ـــــ 40 شمال خط الاستواء، وخطي طول 44 ـ 64 شرق جرينتش، في نقطة التقاء بين منطقة غرب آسيا ووسطها وجنوبها. وتتقاسم حدودها الجغرافية مع سبع دول، فتحدها من جهة الشمال ثلاث دول: تركمانستان (992كم) وجمهورية أذربيجان (380 كم) وإقليم نخجوان التابع لها (179 كم) وأرمينيا (35 كم) إضافة إلى بحر قزوين (657كم) ويحدها من الغرب: العراق (1458كم) وتركيا (499كم) وتطل من ناحية الجنوب على سواحل بحر عمان والخليج العربي (2043كم) وتحدها من ناحية الشرق: أفغانستان (936كم) وباكستان (909كم). ( )
ومن ثم، تعد إيران، وفق الحقائق الجغرافية، امتدادا طبيعياً للمنطقة العربية من ناحية الشرق، وجسراً يربط بين وسط آسيا وجنوبها وبين دول شرق البحر المتوسط. كما تشكل جسرا يربط بين آسيا الوسطى والقوقاز في الشمال ومنطقة الخليج العربي في الجنوب. وبالتالي تمثل أقصر الطرق لنقل الطاقة وعبور خطوط الغاز والبترول من آسيا الوسطى إلى أوروبا، مرورا بالأراضي التركية. كما تمثل أيضا أحد أهم دول النطاق الداخلي لتطويق روسيا الاتحادية من اتجاه الجنوب، وفقاً للمنظور الغربي. فضلا عن أنها تشكل ممراً برياً لروسيا الاتحادية إلى مياه الخليج العربي والمحيط الهندي، إلى جانب أنها تعد الممر البري والمعبر الجوي الذي يربط بين معظم المطارات المدنية والقواعد العسكرية في كل من آسيا وأوروبا والشرق الأوسط( )
ثانيا: الدينامية الجيوستراتيجية:
منح الموقع الجغرافي لإيران محورية جيوستراتيجية، من حيث:
تعدد الجوار: تتقاسم إيران حدودا برية بطول 5440 كم مع الدول السبع المجاورة لها مباشرة، وتتاخم ثلاث عشرة دولة أخرى. فمن المعروف أن إطلالها على السواحل الشرقية لمياه الخليج العربي وبحر عمان من جهة الجنوب، يجعلها متاخمة لست دول عربية مطلة على ذات السواحل من الجهة الغربية المقابلة لها. كما تتاخم من جهة الشمال روسيا الاتحادية وتركمانستان وكازخستان وطاجيكستان بمنطقة آسيا الوسطى، وداغستان وجورجيا والشيشان بمنطقة القوقاز.
المساحلة البحرية: تطل إيران على سواحل بحرية يبلغ إجمالي أطوالها 2700كم تقريبا، (منها2043كم على بحر عمان والخليج العربي، و657كم على بحر قزوين) وقد أدت هذه المساحلة إلى تعظيم مكانتها في مجال الملاحة والنقل البحري، فضلا عن تعاظم مواردها من النفط والغاز والمصائد البحرية، التي تعد في حد ذاتها من مقومات قدراتها الشاملة.
امتلاك جزر استراتيجية: تمتلك إيران إحدى وثلاثين جزيرة بمياه الخليج العربي، منها اثنتي عشرة مأهولة، ولكنها ترتكز على ست منها لتكوين قوس دفاعي/ هجومي يضمن لها التفوق العسكري على جيرانها بالخليج، هي: «هرمز» و«لارک» و«قشم» و«أبو موسى» و«تنب الكبرى» و«تنب الصغرى» فضلا عن جزيرة «خارک» التي تضمن لها التفوق أيضا بمضيق هرمز الاستراتيجي. ناهيك عن أن هذه الجزيرة تحديدا محاطة بأعمق غاطس بحري بمياه الخليج وبها أكبر رصيف نفطي في العالم.
التحكم بمضيق هرمز: الذي يمثل شريانا حيويا للاقتصاد العالمي، وتمر عبره خطوط الملاحة الدولية. كما يمثل نقطة ارتكاز هجومي/ دفاعي لأي قوة تنوي فرض السيادة على مياه المحيط الهندي. فضلا عن أنه يعد أحد أهم المحاور الاستراتيجية المكونة لقدرات إيران الشاملة؛ نظرا ليسطرته على سواحله الشمالية، الذي يمنحها القدرة على التحكم بحركة تدفق الطاقة المتجهة من منطقة الخليج العربي إلى الأسواق العالمية.( )
ثالثا تنوع الخصائص الطبوغرافية:
تمتلك إيران مزايا طبوغرافية تحقق لها تماسكا جغرافيا يمنحها القدرة على فرض سيطرتها الأمنية والدفاعية، من حيث:
المساحة الشاسعة: تتمتع إيران بمساحة جغرافية واسعة، تبلغ 1,648,195 كيلومتراً تقريبا، أي ما يعادل مجموع مساحات سبع دول أوربية (بريطانيا وإيرلندا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج) ومن ثم تحتل الترتيب السادس عشر عالميا في هذا الشأن. والثالث بين الدول الإسلامية الآسيوية، بعد كل من السعودية واندونيسيا. والثاني بين دول الشرق الأوسط، بعد السعودية.( )
وتمثل هذه المساحة عقبة أمام أي قوى خارجية تنوي السيطرة عليها بمفردها. ولذلك لم تستطع القوات العراقية الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها في بداية الحرب بين البلدين (1980 ـ 1988م) ناهيك عن أنها كانت أحد العوامل التي شجعت الولايات المتحدة على اتخاذ إيران مرتكزا استراتيجيا لإدارة سياستها تجاه الشرق الأوسط، طوال عهد الشاه (1941 ـ 1979م) وعلى الرغم من ذلك فإن ترامي أطراف إيران ربما يسهم أيضا في اختراق عناصر الاستطلاع المعادية إلى الداخل، الأمر الذي يلقي عليها عبئا أمنيا ثقيلا.( )
الهيئة المتوسطة: تشكل خارطة إيران من حيث الهيئة، كتلة وسطا ما بين الاستدارة والطول، إذ تشكل مربعا غير منتظم الأضلاع، يبلغ طول ضلعه الأكبر من الاتجاه الشمالي الغربي باتجاه الجنوب حوالي 2225 كم، وضلعه الأصغر من الاتجاه الشرقي باتجاه الجنوب الغربي حوالي 1400كم. ويبلغ وزنها النسبي، 0,428
الوعورة الجبلية: تُعد إيران إحدى دول العالم الأكثر وعورة جبلية؛ إذ تقع على هضبة مرتفعة، تهيمن عليها سلاسل جبلية شاهقة جرداء، وهضاب تتخللها الوديان والسهول والصحاري المتنوعة.
الحماية الطبيعية: تحيط بإيران سلاسل جبلية شاهقة، أهمها سلاسل جبال «زاجروس» و«كردستان» التي تشكل لحدودها موانع طبيعية يصعب اجتيازها إلى قلب الدولة، إلا من خلال ممرات جبلية يسهل لقواتها المسلحة السيطرة عليها. في حين أن وسطها يمثل صحنا طبوغرافيا قاحلا يحقق لها قدرة دفاعية طبيعية.
رايعا: الثقل الديموغرافي
يبلغ عدد سكان إيران حوالي 89 مليون و764 ألف نسمة، طبقا لأحدث البيانات المستخرجة من موقع التعداد التابع للأمم المتحدة، في يونيو 2024م، وبهذا تحتل المرتبة الـ 17 عالميا من حيث عدد السكان. ( ) وهو ما يمثل عنصر قوة لها مقارنة بدول الجوار العربية، كما يمثل عامل ضغط ديموغرافي على دول مجلس التعاون الخليجي، عدا السعودية، نتيجة لتزايد الهجرة وفائض العمالة الإيرانية، وما ترتب عليه من تعددية اثنية وقومية ببعض هذه الدول خاصة البحرين. فضلا عن تضافره مع عامل الأرض (الإقليم) ليجعلها أكثر ثقلاً من حيث الكتلة الحيوية، على الرغم من تفوق السعودية عليها من حيث المساحة.
خامسا: القوة الاقتصادية
تمتلك إيران العديد من عناصر القوة الاقتصادية التي تجعلها تحتل مركزاً اقتصاديا متقدماً مقارنة بدول الجوار؛ ومكانة بارزة من حيث سياسة الطاقة العالمية والاقتصاد؛ ويرجع ذلك إلى ضخامة احتياطياتها من النفط والغاز، إذ تمتلك ثاني أكبر احتياطي نفطي داخل الأوبك، بعد السعودية، وثاني أكبر احتياطي عالمي من الغاز، بعد روسيا الاتحادية. وهو الأمر الذي يزيد من أهميتها الاستراتيجية ويعزز موقفها السياسي ويربط مصالحها بمصالح العديد من القوى الدولية. كما تنفرد إيران بامتلاك احتياطات كبيرة من خام الحديد والنحاس والكروم والنيكل والمنجنيز والذهب، والذي يشكل ركيزة أساسية للتطور الصناعي. ناهيك عن أن 40٪ من إجمالي مساحتها صالح للزراعة (المستغل منها لا يتجاوز 35٪ من هذه المساحة) بما يحد من تأثير الضغوط الخارجية عليها، خاصة أنها نجحت في تحقيق اكتفاء ذاتيا من بعض المحاصيل والسلع الاستراتيجية مثل القمح، والذرة، والسكر، والزيوت النباتية، وإنتاج حوالي 85٪ من احتياجاتها من السلع الأساسية الأخرى( )
عوامل نشأة محور المقاومة وخصائصه
يجسد محور المقاومة الإسلامية مقاربة إيران الإقليمية ولمكانتها الاستراتيجية ومصالحها العليا، ويعزز من تأثرها على الوحدات السياسية الأخرى بمنطقة الشرق الأوسط. وقبل أن نلقي الضوء على مفهوم محور المقاومة الإسلامية وعوامل نشأته، يتعين علينا أن نعرف بإيجاز مفهوم العمق الاستراتيجي.
أولا: مفهوم العمق الاستراتيجي:
تشير التعريفات التقليدية لمفهوم العمق الاستراتيجي إلى نجاح دولة ما في استخدام ما تمتلكه من أدوات سياسية ودبلوماسية، وميزات جغرافية، وكتلة حيوية، ومعتقدات وقيم تاريخية وثقافية، إلى جانب قدراتها الدفاعية، الفعلية منها والمحتملة، في الدفاع عن نفسها ضد دول معادية. كما يُعرَّف في الأدبيات العسكرية، بالمسافة الفاصلة بين خطوط المواجهة العسكرية والمناطق الرئيسية بقلب الدولة المعادية. وبالتالي فإن الدولة التي تنجح في خلق عمق استراتيجي لها داخل بلد آخر، سوف تضمن لنفسها التفوق عليها في أي مواجهة محتملة بينهما، بعيدا عن خطوط المواجهة العسكرية معها. ( )
وعادة ما يتضمن مفهوم العمق الاستراتيجي بعدًا آخر، يمكن أن يطلق عليه «العمق التفاعلي الاستراتيجي» الذي يمكن الدولة من استخدام قوتها الناعمة لتحقيق نفوذ إقليمي لها، أو لتعزيز التفاهم المتبادل بينها وبين دول الجوار. وبهذا يتضح لنا أن العمق الاستراتيجي يتمتع أيضا بدرجة تأثير روحي واسع، يمكن أن نسميه «العمق الاستراتيجي الثقافي» وهو الذي منح إيران فرصا لأن تتمتع بعمق ثقافي وروحي ملموس داخل العراق وسوريا ولبنان واليمن، أدارت من خلاله جميع عمليات التفاعل التي عززت مصالحها داخل هذه الدول، حتى ولو جاء ذلك على حساب سلامة هذه الدول ووحدة أراضيها. ( )
ويرى كثير من الإيرانيين أن بلدهم أصبح يمتلك أقوى عمق استراتيجي بالمنطقة، مستند إلى الوشائج التاريخية والروابط الثقافية، أكثر من كونه قائما على المصالح العسكرية والأمنية، وأن لديه الطموح والقدرة على توسيع دائرة هذا العمق لأبعد من ذلك بالقوة الناعمة. خاصة بعدما اتضح تأثيرها القوي عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان، في 7 أكتوبر 2001م، وللعراق في 20 مارس 2003م، والذي كانت له تداعيات خطيرة على كلا البلدين. ( )
وقد كثفت إيران تحركاتها تجاه التأثير على سلوك الشعوب المجاورة لها، بالتزامن مع مساعيها لاختلاق عمق استراتيجي بالمنطقة، اعتمادا على:
1. نمذجة الثورة الإسلامية على مستوى السياسي والقيمي، لتصبح نموذجا يحتذى به في مقاومة الظلم والاستبداد والدفاع عن المستضعفين ومناهضة الهيمنة الأمريكية والغطرسة الإسرائيلية، ونصرة الشعب الفلسطيني.
2. استقطاب الجماهير انطلاقا من القواسم المشتركة القائمة على الانتماء المذهبي والتقريب بين المذهب والقيم السياسية المشتركة، لتكوين ظهير شعبي مساند لها. على نحو جعل القوى الغربية تقر بأن أي حوار بشأن القضايا التي تخص سوريا والعراق ولبنان واليمن لن يكون ذا جدوى إلا بوجود إيران.
3. نشر اللغة الفارسية؛ بوصفها وسيلة مناسبة لنشر قيم الثورة الإسلامية وتوسيع دائرة نفوذها الثقافي، ومن ثم بناء أجيال مؤيدة لمواقفها السياسية، وداعمة لمصالح إيران المشتركة مع الدول التي ينتمون إليها، وتوطيد علاقاتها الثنائية على نحو يمنح هذه المصالح الاستدامة والنمو. ( ) وقد استهدفت إيران من وراء خلق هذا تحقيق جملة من الأهداف المرحلية، منها:
– تعزيز قدرتها على التأثير على دول الجوار بشكل مباشر وغير مباشر.
– فرض تصوراتها الأمنية داخل الإقليم، وزيادة قدرتها على مجابهة التهديدات.
– زيادة وزنها النسبي، على نحو يضمن لها التفوق الجيوسياسي على القوى الإقليمية المنافسة. ( )
ثانيا: مفهوم محور المقاومة الإسلامية:
بما أن محور المقاومة الإسلامية يمثل تجسيدا لمقاربة إيران الأيديولوجية لمنطقة الشرق الأوسط، فإن مفهومه ينصرف، وفق المدرك الإيراني، على: كل نظام، أو منظمة، أو جماعة، أو طائفة تقف إلى جانب إيران في رفض الهيمنة الأمريكية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيل للأراضي العربية. مثل حزب الله اللبناني، وفصائل المقاومة الإسلامية بفلسطين، وجماعة أنصار الله الحوثية باليمن، ومليشيات الحشد الشعبي بالعراق، والطائفة الشيعية بكل من سوريا والبحرين. ( )
وعلى الرغم من أن محور المقاومة قد يبدو للوهلة الأولى أنه مصطلح إيراني، إلا أن الباحث الإيراني «محمدی سیرت» ذكر أن جريدة «الزحف الأخضر» الليبية هي أول من طرحه، يوم 29 يناير 2002م، ضمن مقال لها بعنوان «محور الشر أم محور المقاومة» ردا على كلمة سبق وألقاها الرئيس الأمريكي «جورج بوش» الابن (George W. Bush) وصف فيها إيران والعراق وكوريا الشمالية بأنها محور الشر بالعالم واتهم أنظمتها بدعم الإرهاب والسعى لامتلاك أسلحة الدمار الشامل. وقالت الصحيفة المذكورة إن «القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع بين هذه الدول الثلاث هو مجابهة الهيمنة الأمريكية». ( )
ومنذ ذلك الوقت، أصبح «محور المقاومة» من أوسع المصطلحات استخداما في الأدبيات السياسية الإيرانية، فاستخدمته مثلا جريدة «جمهوري إسلامي» أثناء معالجتها لانتفاضة الشيعة بجنوب العراق، في مارس 1991م، كما استخدمه «علي أكبر ولايتي» مستشار المرشد الأعلى ووزير الخارجية الأسبق، في أغسطس 2010م، ضمن تصريح قال فيه: إن سلسلة (محور) المقاومة ضد إسرائيل، تضم إيران وسوريا وحزب الله والحكومة العراقية الجديدة وحماس، وتتمتع فيها سوريا بدور ذهبي. وذكره أيضا «سعيد جليلي» الأمين العام الأسبق لمجلس الأمن القومي الأعلى، خلال محادثاته مع الرئيس بشار الأسد، في أغسطس 2012م، عندما قال: «إن ما يحدث في سوريا ليس شأنا داخليا، بل هو معركة بين محور المقاومة وأعدائه بالمنطقة والعالم؛ ولذلك لن تتسامح إيران تجاه أي تحرك مناوئ لهذا المحور». ( )
ثالثا: عوامل نشأة محور المقاومة:
على الرغم من أن الباحث الإيراني «چوبين گودرزي» ذكر أن نشأة محور المقاومة تعود إلى عام 1979م، وأن سوريا هي الركيزة الأولى لهذا المحور؛ لأنها الدولة العربية الأولى التي اعترفت بنظام الثورة الإسلامية، وأول من أقامت معه تحالفا استراتيجيا، حقق لإيران توازنا نسبيا مع العراق وإسرائيل والولايات المتحدة، في ظل التغير المتسارع في نمط التفاعلات الإقليمية حينئذ، وأن هذا التحالف لا يزال قائما. ( ) إلا أن نشأة محور المقاومة يعود في الحقيقة إلى جملة من العوامل المختلفة، أهمها:
1. البيئة المواتية:
كانت الخصائص والسمات العامة التي تميزت بها البيئة الإقليمية من بين أهم العوامل التي أسهمت في نشأة محور المقاومة وتغيير ميزان القوى لصالح إيران. منها:
أ- ضعف البنية العربية: نظرا لاستمرار احتلال إسرائيل للأراضي العربية، وبقاء القضية الفلسطينية دون حل، وتفاقم الخلافات بين الدول العربية وتدهور علاقاتها البينية، على نحو عكس ضعف هكيل البنية العربية التقليدية وعجزها عن حماية التماسك العربي. إلى جانب تحول المسألة الكردية إلى نموذج للانقسام العرقي الذي يمثل تهديدا لسلامة الأراضي الإيرانية والتركية والعراقية والسورية. خاصة أن الأكراد لا يزالون مصرين على نيل الحكم الذاتي، أو قيام دولة كردستان الكبرى.( )
ب- قيام الثورة الإسلامية: الذي أدى إلى تصاعد الاتجاهات الأصولية بالمنطقة، خاصة في ظل إيمان نظام هذه الثورة بعالميتها ووجوب تصديرها إلى الخارج، وخلق نوع من التضامن بينها وبين الشعوب العربية، والمناداة بالوحدة الإسلامية، والتقريب بين المذاهب، والترويج لنظامها السياسي الذي يجمع بين الدين والديمقراطية. على نحو ولد الأمل لدى جماعات الإسلام السياسي للوصول إلى السلطة، وعزز في نفس الوقت مكانة الثورة الإسلامية لدى الجماهير العربية ( )
ج- عدم الاستقرار الإقليمي: إذ اجتاحت المنطقة العربية موجات متتابعة من الفوضى، جراء العمليات التي نفذتها القوات الأمريكية؛ ردا على الهجوم الذي شنه تنظيم القاعدة على برجي التجارة في ينويورك، في 11 سبتمبر 2001م، أفضت إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي وخلل بميزان القوى لصالح إيران، خاصة بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق. كما أدت في نفس الوقت إلى تقليص قدرة القاهرة ودمشق على أداء دورهما بالشكل المعتاد، بعد أن كانا الأكثر دينامية وتأثيرا بالعالم العربي.
ثم اجتاحت المنطقة موجة من الفوضى الجيوسياسية الواسعة، عام 2011م، بدأت بالإطاحة بالرئيس التونسي «زين العابدين بن علي» 11 يناير، ونظيره المصري «حسني مبارك» 11 فبراير، وتدمير نظام العقيد «معمر القذافي» 20 أكتوبر، وتفكيك قواته المسلحة ونهب مخازن أسلحته وتوزيعها على أنحاء المنطقة، وتحويل ليبيا لمركز لاستقطاب الجماعات الإرهابية المسلحة. وقد أغرت هذه الفوضى القوى الإقليمية الفاعلة للدخول في صراعات مسلحة بالوكالة داخل العراق وسوريا واليمن، جسدت في مجملها مدى تغير المفهوم التقليدي للدولة القومية، من ناحية. والتغير في ميزان القوى الإقليمي لصالح إيران وتركيا وإسرائيل والسعودية والإمارات وقطر من ناحية أخرى.( )
بينما ظلت إسرائيل مستقرة وتشهد نمواً اقتصادياً كبيرًا، وتسعى لبناء تحالفات مع بعض الدول العربية. أما السعودية فكانت الدولة العربية الوحيدة التي احتلت، وفق الإرادة الأمريكية، قمة البنية الجيوسياسية الإقليمية. في حين واصلت أبو ظبي مساعيها للسيطرة على الموانئ الاستراتيجية بالقرن الإفريقي وشرق أفريقيا بعد أن سيطرت على مناطق حيوية باليمن. كما ظلت قطر تضطلع بدور دبلوماسي أكبر من وزنها الفعلي بالمنطقة. ( )
وكان من الطبيعي أن يكون لدى كل من هذه القوى الفاعلة أهدافا استراتيجية خاصة، فتنافست كل من إيران والسعودية على تحقيق التفوق الجيوسياسي، أو على أقل تقدير حفظ التوازن بينهما في وقت حرصت إسرائيل على تقويض برنامج إيران النووي. وهنا اشتركت مع السعودية في هدف استراتيجي واحد، هو ضرورة العمل على احتواء طموحات إيران النووية والإقليمية. ( )
2. الهيمنة الأمريكية:
أدى انفراد الولايات المتحدة بقطبية العالم؛ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى وجود بيئة إقليمية مواتية لنشأة محور المقاومة. خاصة أنها عمدت إلى دفع منطقة الشرق الأوسط نحو الفوضى، ضمن مساعيها لإعادة هيكلته على نحو يمنع ظهور منافس قد يهدد مصالحها، على غرار التهديد الذي كان يشكله الاتحاد السوفييتي. ويراعي في ذات الوقت مصالح حلفائها، ويضمن عدم قيام خصوم هؤلاء الحلفاء بعرقلة انفرادها بقيادة العالم. ( )
وفي هذا السياق، شهدت المنطقة متغيرات حادة شكلت في حد ذاتها عوامل تنامي محور المقاومة، بوصفه أداة لتعزيز نفوذ إيران الإقليمي، أهمها:
أ- غزو العراق، في مارس 2003م؛ بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل، حيث اجتاحت القوات الأمريكية اراضيه وتدمير نظامه بالكامل وتفكيك مؤسساته العسكرية والأمنية والقضائية والإنتاجية. كما فرضت عليه عملية سياسية قوضت روابط الوطنية والانتماء بين سكانه، واستبدلته بانتماء طائفي ذي امتداد خارجي؛ حوله إلى مجرد تابع إقليمي لإيران، تديره طبقة سياسية مدعومة من الاحتلال الأمريكي. الأمر الذي أدى لنشوب صراع طائفي دام، شجع الولايات المتحدة على الترويج لفكرة تقسيمه إلى ثلاث دول في إطار خطتها لإعادة ترسيم خارطة للشرق الأوسط. ( )
وقد أدى غزو العراق ووقوع أحداث الربيع العربي، فضلا عن تخلي واشنطن عن قيادة عملية السلام بالشرق الأوسط، إلى بروز نمطين من التحولات النوعية: انهيار واسع للنظام الإقليمي وتكثيف عمليات العنف والإرهاب. وفرض القوى الفاعلة نفسها على عملية صنع القرار الإقليمي. وهنا تبلور الوضع الجيوسياسي المواتي لنشأه محور المقاومة.
ب- تأجيج الصراع الطائفي، إذ لجأت الولايات المتحدة وحلفاؤها لإنتاج نسخ زائفة من أشكال الحكم الإسلامي السني مثل نظام طالبان بأفغانستان، وتنظي «داعش» الإرهابي الذي اختلقته بالعراق والشام. فضلا عن استخدامها الجماعات التكفيرية الأخرى في مواجهة نموذج الحكم الشيعي الذي يقوم عليه النظام الإيراني. الأمر الذي أدى بدوره إلى نشوب صراع طائفي واسع. ( ) استخدمت فيه كل من إيران، بوصفها زعيمة الإسلام بقراءته الشيعية، والسعودية، بوصفها زعيمة الإسلام بقراءته السلفية، شتى الوسائل المتاحة للانتصار على الأخرى، فقدمت كل دولة منهما الدعم والتسليح والتدريب للمليشيات التابعة لها، كما وفرت لها الغطاء السياسي. حتى تحولت المنطقة مرتعا للجماعات الإرهابية لتنتهج أبشع الوسائل لتحقيق أهداف داعميها. ( )
3. تقاطع مصالح المختلفة:
مثلت الأزمة السورية نقطه التقاطع الأبرز بين مصالح القوى الفاعلة؛ خاصة أن سوريا هي الحليف الاستراتيجي الوحيد لكل من روسيا، بوصفها القوة الدولية الصاعدة لمنافسة الولايات المتحدة، وإيران بوصفها القوة الإقليمية المناهضة للسياسات الأمريكية بالمنطقة. وبالتالي فإن تحالفهما مع سوريا كان من بين العوامل التي دفعت الولايات المتحدة للإطاحة بنظام بشار الأسد، فور نشوب الاحتجاجات ضده، في مارس 2011م، حتى أن وزيرة الخارجية «هيلاري كلينتون» (Hillary Clinton) قالت، في 6 ديسمبر من نفس العام: إن هدف بلادها هو القضاء على نفوذ إيران في سوريا، وأنها إذا تمكنت من ذلك، فسيكون إنجازًا كبيرًا. وبناء عليه، قدمت واشنطن، بالتعاون مع تركيا والدول الخليجية، الدعم المالي والأسلحة والتدريب لجميع الفصائل والجماعات السلفية والإخوان المسلمين وداعش وجبهة النصرة والقاعدة وغيرها بالعراق وسوريا. ( )
ومن ناحية أخرى، كان تدمير جيوش العراق وليبيا وسوريا يمثل في حد ذاته مصلحة لإسرائيل وتركيا معا. وبالتالي كان من الطبيعي أن تعملا على تدمير الجيش السوري، وإلحاق كارثة بسوريا، كالتي لحقت بالعراق. لأن ذلك كان سيوفر لإسرائيل فرصة تاريخية لكسر شوكة حزب الله اللبناني، ومن ثم ضم مرتفعات الجولان المحتلة. كما سيوفر لتركيا أيضا فرصة لاقتطاع أجزاء أخرى من شمال سوريا. ( )
وفي المقابل، كانت المصالح الروسية تقف وراء مساندة موسكو لدمشق، وتقديم الدعم والمساندة لنظام بشار الأسد لمواصلة خوض المعارك ضد القوى المناوئة له. خاصة أن تفاقم الصراع بسوريا كان يمثل فرصة مواتية لروسيا لاستدراج المقاتلين الشيشان لقتلهم هناك، وإلا سيتعين عليها قتالهم داخل روسيا. كذلك الأمر بالنسبة لطهران التي قدمت الدعم الكامل لدمشق؛ بوصفها مرتكزا جيوسياسيا مهما في مواجهة إسرائيل، خاصة أنها الجسر البري الذي يربط العراق بلبنان، حيث حزب الله المرتكز الثاني بمحور المقاومة. كما أنها إذا لم تقاتل الجماعات الإرهابية بالعراق وسوريا، فسيتعين عليها قتالهم داخل حدودها. ( )
4. إدارة الحرب غير المتكافئة
لا شك أن إدارة الحرب غير المتكافئة تعد إحدى استراتيجيات إيران الدفاعية، منذ قيام ثورتها، عام 1979م، لخوض أي حرب محتملة غير متكافئة مع قوة كبرى معادية، يصعب معها القتال الكلاسيكي. وقد تعززت أهمية هذه الاستراتيجية عندما فرض الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق تأثيرا إقليميا واسعا. دفع إيران إلى اللجوء لاستراتيجية الحرب بالوكالة في ظل عدم تكافؤ قدراتها مع القدرات الأمريكية. ويمكن أن تكون الوسيلة الأنسب أيضا إذا نشب صدام بينها وبين إسرائيل. بحيث تتولى مرتكزات محور المقاومة (حزب الله اللبناني وحركة حماس وجماعة الجهاد الفلسطينية وجماعة أنصار الله باليمن) الاشتباك معها على جبهات متعددة. ولكن إذا تعرضت إيران لأي هجوم أمريكي أو إسرائيلي. فسوف تقوم هذه المرتكزات بتوجيه ضربات مؤثرة لإسرائيل وللمصالح الأمريكية في كل مكان بأقل تكلفة ممكنة.
ويمكن تحديد ملامح استراتيجية إيران لإدارة الحرب غير المتكافئة عبر ثلاثة عناصر رئيسة، تستهدف في مجملها محاولة إقناع واشنطن وتل أبيب بعدم جدوى القيام بأي عمل عسكري مباشر ضدها، استنادا إلى قواتها المسلحة المكونة من الجيش والحرس الثوري، إلى جانب مقاتلي محور المقاومة:
التدريب: إذ يضطلع الحرس الثوري بمهمة تدريب كتائب حزب الله اللبناني وعناصر المليشيات التابعة لها بالعراق وأفغانستان وباكستان واليمن، تدريبا قتاليا فائقا داخل معسكرات خاصة.
التسليح: تسعى إيران إلى تعويض افتقارها للأسلحة الحديثة والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة عبر تطوير قدراتها الذاتية؛ كي تتناسب مع استراتيجية الحرب غير متكافئة. وذلك من خلال مايلي:
– تطوير وإنتاج أسلحة منخفضة التكلفة؛ لإحباط تأثير التكنولوجيا العسكرية المتطورة للعدو، بما فيها صواريخ أرض –بحر، والزوارق السريعة، والطائرات المسيرة طويلة المدى، والمركبات البرمائية.
– إنتاج برامجيات منخفضة التكلفة تساعدها على الصمود أمام تفوق التكنولوجيا العسكرية.
– تزويد قوات محور المقاومة بالأسلحة والمعدات اللازمة لإدارة المعارك، وفق تصوراتها الاستراتيجية.
المباغتة: من خلال شن هجمات مباغته وخاطفة على الطرف المعادي، تؤدي إلى إعاقة خططه الدفاعية والأمنية، وإلحاق أكبر قدر من الضرر بمصالحه في البر والبحر. ( )
رابعا: خصائص محور المقاومة:
يتميز محور المقاومة بمجموعة من الخصائص المهمة، أهمها:
النهج شبه العسكري: هو نهج عملياتي فعال، أثبت قدرة إيران على إجراء عمليات عسكرية أكبر من المعتاد وبأقل تكلفة ممكنة، ولا تترك له أثرا يمكن أن يصبح دليلا على تورطها فيها. ولقد مكنها هذا النهج من بناء عمق استراتيجي لها بالمنطقة.
المرونة في الحركة: التي تمنح فصائل محور المقاومة القدرة على زيادة وجودها، أة تقليصه حسب مقتضيات الحاجة. الأمر الذي اكتسب هذا المحور القدرة على بناء القوة وتعزيز الولاء لصالح إيران. وفي هذا الإطار قام فيلق القدس التابع للحرس الثوري بتدريب الفصائل الفاعلة فيه وتقديم المشورة لها وإعادة تأهيلها.
الانتشار العابر للحدود: إذ تعلمت إيران والميليشيات التابعة لها كيفية تنفيذ العمليات العسكرية في دول أخرى. مثلما نفذ حزب الله مهام استشارية في اليمن لصالح الحوثيين، وفي العراق مع قوات الحشد الشعبي، وأجرى عملية برية طويلة الأمد في سوريا. كما قاد فيلق القدس وحزب الله والميليشيات الشيعية القادمة من العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان عمليات عسكرية لصالح النظام السوري.
التشغيل البيني: تمتلك إيران مجموعة متنوعة من المليشيات ذات المهارات القتالية والخبرات العسكرية في تنفيذ العمليات المشتركة على جبهة واحدة، أو جبهات متعددة في آن واحد. وفد أثبتت على سبيل المثال، قدرات قتالية عالية في حلب بسوريا وفي تكريت بالعراق، وعمليات تطهير الجبال والصحراء الواقعة بغرب وشرق سوريا على التوالي، فضلا عن شن هجمات برية وصاروخية على الأراضي والمنشآت الحيوية السعودية من داخل اليمن. ( )
المرتكزات الجيوسياسية لمحور المقاومة الإسلامية
اقتضت مقاربة إيران الأيديولوجية لخلق عمق استراتيجي لها بمنطقة الشرق الأوسط أن تقوم بتشكيل قوس جغرافي مترابط، بطول 1235,8 كم، يمتد من منفذ «مهران» الحدودي مع العراق، إلى بيروت على ساحل البحر المتوسط. وبإجمالي مساحة تبلغ 1,551,852كم، تضم العراق (437,072كم) وسوريا (185,180كم) وجنوب لبنان (929,6كم) إلى جانب المناطق الاستراتيجية الحساسة، التي تسيطر عليها قوات أنصار الله الحوثية بالقرب من مضيق باب المندب، حيث المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. تشكل جميعها مرتكزات محور المقاومة، نوردها بنحو من التفصيل علة النحو التالي:
1. نظام بشار الأسد:
تتمتع سوريا بأهيمة بالغة في مقاربة إيران الإقليمية، منذ التحالف الاستراتيجي الذي قام بينهما عشية قيام الثورة 1979م، ومساندة دمشق لطهران طوال حربها مع العراق (1980 ـ 1988م) وتعاون الجانبين في تأسيس حزب الله اللبناني. ( ) إلى جانب حاجة إيران لموقع سوريا الجيوستراتيجي، الذي يمثل محور اتصال بين آسيا وإفريقيا وأوروبا؛ لزيادة وزنها النسبي بالمنطقة، وتقليص هامش المناورة أمام خصومها.
أي أن سوريا تمثل لنفوذ إيران الإقليمي أهمية استراتيجية، بما تمتلكه من موانئ وسواحل على البحر المتوسط بطول 186 كم، من شأنها تسهل وصول الصادرات الإيرانية إلى أسواق شمال إفريقيا وأوروبا، وتخفض تكلفة وصولها ملاحيا إلى مياه المحيط الأطلسي وأمريكا اللاتينية. فضلا عن امتلاك سوريا حدودا مشتركة مع كل من العراق ولبنان وفلسطين، تمثل لإيران فرص جيوسياسية تجعلها قادرة على تطويق إسرائيل والحد من تهديداتها. ( )
ولهذا، تعتقد إيران أن أي محاولة لزعزعة استقرار نظام بشار الأسد، سوف تؤدي تلقائيا إلى تقويض نفوذها الإقليمي وإضعاف محور المقاومة. ( ) خاصة بعد أن تبنى استراتيجية البحار الخمسة، التي تهدف للربط بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي والبحر الأسود وبحر قزوين؛ انطلاقا من أن الدول المطلة عليها تمتلك عوامل النهضة والتنمية، والحق في توحيد جهودها لحماية شعوبها وتحقيق مصالحها، وبالتالي مواجهة المشروع الأميركي -الإسرائيلي، الذي يعمل على تفتيت تماسك المنطقة. ( )
ولذلك عندما بدا لطهران أن الاحتجاجات، التي نشيت ضد نظام بشار الأسد، في 26 يناير 2011م، ليست بفعل قوى المعارضة الداخلية فقط، وأن حليفها الاستراتيجي أصبح عرضة لمؤامرة كبرى تتورط فيها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا والسعودية وقطر؛ هرعت لنجدته، للدوافع التالية:
أ- الحفاظ على هيبتها الإقليمية وإبقاء ميزان القوى لصالحها عبر دعم أهم مرتكزات محور المقاومة خاصة أن الإطاحة بحليفها العربي الوحيد، سوف يقلص وزنها النسبي على المستوى الإقليمي.
ب- حماية أمنها الداخلي بإبقاء أي صراع مسلح خارج حدودها؛ نظرا لاعتقادها أنها مستهدفة استراتيجيا وأنها إذا لم تقاتل المليشيات المعادية لها داخل سوريا، فستكون مضطرة لمحاربتهم على الأراضي الإيرانية.
ج- زيادة قدرتها على تخريب أي عملية تسوية نهائية تهدد مصالحها بسوريا. ناهيك عن أن تعزيز وجودها العسكري هناك يقلل من قيمة أي تحرك عسكري يمكن أن يهدد وجود حزب الله في لبنان. ( )
د- السيطرة على أنشطة الفصائل والمليشيات الطائفية السورية، بما يضمن لها القدرة على تأسيس حكومة ظل تعمل على تحقيق أهداف طهران الجيوسياسية. ( )
وفي هذا الإطار، نجحت إيران في إعادة بناء جهاز الأمن السوري بطريقة عززت نفوذها لدى دمشق، كما تمكن الحرس الثوري من إحكام قبضته على أهم أركان السلطة السورية، لدرجة أنه في حال حدوث أي تغيير سياسي محتمل، فلن تواجه مصالح إيران أي مشاكل. كما تمكنت أيضًا من إجبار الحكومة السورية على منح الجنسية لعشرات الآلاف من الشيعة العراقيين والإيرانيين واللبنانيين؛ الأمر الذي يعزز من فرص تدخلها مستقبلا في الشئون الداخلية السورية؛ بدعوى حماية هؤلاء الشيعة المستضعفين. ( )
وعلى الرغم من تزايد أهمية سوريا بالنسبة لإيران، إلا أن الظروف الداخلية بسوريا بات تحتم عليها عدم الاكتفاء بإقامة علاقات مع دولة واحدة في المستقبل؛ نظرا لأنها أصبحت في حاجة أكثر لعلاقات اقتصادية وثقافية أكبر وأوسع؛ وبالتالي يرى الخبراء الإيرانيون أنه إذا أرادت طهران أن تحافظ على تحالفها مع دمشق على المدى البعيد، فعليها أن ترتبط معها بأبعاد جديدة ومختلفة؛ لأن انخراطها العسكري والأمني المساند للرئيس بشار الأسد لم يعد كافيا لاستمرار التحالف بينهما في المستقبل ( )
2. حزب الله اللبناني:
يمثل حزب الله اللبناني ركيزة فريدة بمحور المقاومة، بوصفه الداعم الأهم لنفوذ إيران الإقليمي وغطاء لوجود عناصر الحرس الثوري على حدود إسرائيل الشمالية. خاصة أنه قام، منذ تأسيسه عام 1985م، على المبادئ والأهداف الاستراتيجية الإيرانية. وأنه نجح في اكتساب شرعيته المحلية وشعبيته الإقليمية عن طريق مشاركته في مقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان، عام 1982م، وأكد ولائه لإيران، منذ صدور بيانه التأسيسي بأنه «ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة «.
ومن المعروف أن كل عناصره يتخذون الولي الفقيه بإيران مرجعا دينيا وسياسيا لهم. فضلا عن أنه يتلقى دعما ماديا كاملا منها، إضافة إلى التبرعات التي يتلقاها من أنصاره. وأنه وظف شتى قدراته في ترسيخ نفوذ الطائفة الشيعية بالدولة اللبنانية، وتعزيز نفوذ إيران الإقليمي. وبات نموذجا يحتذى تحرص المليشيات والتنظيمات الأخرى التابعة لإيران على الاحتذاء به انتهاج سياساته. ( )
خاصة أنه أصبح يمتلك جيشا مؤهلا يمكنه من أداء دور أكبر من الدولة اللبنانية، لا سيما أنه اكتسب، بعد مشاركته بالمعارك التي دارت على الأراضي السورية، مهارات وخبرات في إدارة المعارك البرية الكلاسيكية، بالإضافة إلى تقنيات حرب العصابات. ولهذا ترى إيران أن حرب الله أصبح، في ظل تراكم خبراته وتعزيز قدراته العسكرية، يمثل أداة ضغط بيدها ضد إسرائيل، والتي لم يعد بمقدورها القضاء عليه بمجرد عملية عسكرية. كما لا يمكن لأي قوة منافسة لإيران أن تنال من شعبيته الداخلية ولا سمعته الإقليمية خاصة أن قوة «مقاومة» وطنية مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ( )
3. شيعة العراق:
مما لا شك فيه، أن الإطاحة بنظام صدام حسين، عام 2003م، كان من بين الأهداف التي كانت تتطلع إليها إيران لاتخاذ أهم خطواتها في بناء عمقها الاستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط، حتى ولو اقتضى الأمر الدخول في تعاون تكتيكي مع الولايات المتحدة. خاصة أنها كانت تترقب الفرصة للهيمنة على العراق، وتحويل شيعته، بما يمثلونه من وزن ديموغرافي، يناهز الـ 60٪ تقريبا من عدد السكان، إلى قوة تحقق لها النفوذ السياسي والأمني، بل والسيطرة على شؤون العراق. ومن ثم تقوم بتوظيف هؤلاء الشيعة في زيادة وزنها النسبي بمنطقة الخليج. خاصة أنهم يعدون أهم جماعة شيعية بالوطن العربي، نظرا لتمركزهم بشكل رئيس بالبصرة والنجف وكربلاء بالجنوب، عند رأس الخليج العربي. الأمر الذي منحهم شكلا من أشكال التكامل الجيوسياسي المفترض مع مواطنين دول الخليج الشيعة، إضاقة إلى نظرائهم بلبنان وسوريا ( )
وبالتالي، سارعت إيران لملء الفراغ الناجم عن انسحاب القوات الأمريكية من العراق في عهد الرئيس الأسبق «باراك أوباما» (Barack Obama) وأسست، بفتوى من «آية الله السيستاني» الحشد الشعبي الذي يعد أبرز نموذج تم استنساخه على غرار الحرس الثوري. ثم ما لبثت أن أجبرت وزارة الدفاع العراقية على إدماج جميع عناصره ضمن قواتها. كما جعلت من «حزب الدعوة» بوصفه أقوى حزب شيعي بالعراق، ويشكل ائتلافًا سياسيا واسعا بقيادة «هادي العامري» يسمى «فتح» ومن ثم كانت محصلة ذلك كله التأكيد على أن إيران اصبحت تنفرد بقدر كبير من القوة والنفوذ السياسي والأمني داخل العراق بوصفه عمقا استراتيجيا لها. ( )
وقد أخذت إيران ترويج لجملة من الأفكار الملتبسة لدى الأجيال العراقية الشابة بهدف طمس هويتها العربية. مفادها أن العراق كان تاريخيا جزءا من إيران؛ بدليل أنه ذاخر بشواهد حضارتها وتقاليدها، حتى أن أصل كلمة «العراق» نفسها فارسية معربة من «أراک» وذلك ضمن برنامج مدروس، يستهدف مايلي:
تهميش حوزة «النجف» العلمية؛ بزعم أنها لم تعد محور قيادة شيعة العالم، بعد أن أصبح لحوزة «قم» علماء وفقهاء لديهم القدرة على إحداث التغيير السياسي داخليا ونشر المذهب خارجيا بينما لا تزال حوزة النجف تتبنى فقها تقليديا لم يصنع للشيعة مكانة تُذكر بالعالم، وأن نظرية الخميني حول الحكومة الإسلامية هي التي أصلّت التحول من الفقهه التقليدي إلى آفاق الفقه السياسي؛ خاصة أن مقولاته الفقهية كانت محملة بمفاهيم سياسية أجازت للشيعة الخروج على الحاكم المستبد.
تأسيس وحدة ثقافية واجتماعية بين الشعبين، يمكن من خلالها تكوين كوادر عراقية مقربة من إيران، ومؤهلة لتلقي رسائلها السياسية، بما يسهم في التحكم بالاتجاهات العامة للعراقيين ولنظام بغداد. ( )
وعلى الرغم من هذا، يجب الإشارة إلى أن ثمة مجموعة من المؤشرات الدالة على أن النفوذ الذي تسعى إيران لترسيخه بالعراق، ما هو إلا نفوذ متآكل من تلقاء ذاته، يحمل في جوهره عوامل التراجع والانحسار التدريجي، بمرور الوقت. خاصة أن به كثير من نقاط الضعف، منها:
اختلاف طبيعة النظام السياسي بالعراق عن نظيره الإيراني، من حيث أن النظام العراقي فيدرالي يجمع السنة والأكراد مع الشيعة في هياكل السلطة، بينما النظام الإيراني يمنع ذلك تماما.
اختلاف موقف حوزة النجف عن حوزة قم حول ولاية الفقيه، وبالتالي فإن الققه السياسي المعمول به في إيران لا يمثل أولوية للعراقيين، ماعدا عناصر السلطة العراقية، الموالين لإيران.
انكشاف موقف إيران أمام الشعب العراقي وتناقض علاقتها بالأكراد، فتحتفظ بعلاقة طيبة مع عائلة «طالباني» وحزب الاتحاد الوطني بينما يسود التوتر علاقتها بعائلة «بارزاني» والحزب الديمقراطي.
تدهور سمعتها الاقتصادية لدى العراقيين مقارنة بسمعة تركيا، التي تحظى منتجاتها بالرواج في الأسواق، مقارنة بالمنتجات الإيرانية، التي وغالبا ما يتم إعادتها إلى إيران، أو إتلافها داخل العراق. ( )
4. أنصار الله الحوثية:
يتمتع اليمن بموقع استراتيجي تحده السعودية من الشمال، وخليج عدن وبحر العرب من الجنوب، وسلطنة عمان من الشرق. ويطل من الغرب على مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات المائية الذي يربط بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، عبر قناة السويس. ولطالما حظي اليمن باهتمام إيراني منذ أمد بعيد؛ فنذكر مثلا أن الشاه أرسل خبراء لتدريب قوات الجيش اليمني خوفا من تغول اليمن الجنوبي عليه الذي كان تحت حكم نظام شيوعي آنذاك ( )
وقد تحول اليمن، إلى بؤرة صراع جيوسياسي بين السعودية وإيران، بعد أن أدخلته إيران ضمن معادلة نفوذها الإقليمي؛ وقدمت الدعم لجماعة أنصار الله الحوثية كي تكمل سيطرتها على كل الأراضي اليمنية، على نحو يمثل تهديدا للسعودية، وللملاحة الدولية بالبحر الأحمر. ( )
ومما لا شك فيه أن الامتدادات القبلية الموجودة على الحدود اليمنية السعودية، كان لها دور في تعميق مخاوف الرياض من احتمال اختراق الحوثيين للمجتمع السعودي، انطلاقا من «نجران» التي تشكل المعقل الأساسي للطائفة الإسماعيلية بها، لتشكيل حزام شيعي يمتد من «نجران» إلى «جازان» داخل الأراضيها، ومن «صعدة» إلى «حرب» ثم «ميدي» داخل الأراضي اليمنية. وهو الأمر الذي سبق وحذر منه الرئيس اليمني السابق «علي عبد الله صالح» في بداية معركته السادسة مع الحوثيين، عام 2009م، ثم إن الواقع السياسي الذي فرضته العلاقة بين إيران ومعظم شيعة المنطقة يزيد من مخاوف السعودية أيضا ( )
إضافة إلى أن تنامي نفوذ إيران بالعراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن؛ قد فرض معادلة توازن استراتيجي مضادة للسعودية بالمنطقة المتاخمة لحدودها الجنوبية. ( ) كما أن احتمال هيمنة الحوثيين على مضيق باب المندب، جنبا إلى جنب سيطرتهم على ميناء «الحُديدة» يعني تغير ميزان القوى لصالح إيران، من حيث سيطرتها على حركة الملاحة البحرية العابرة من الخليج باتجاه قناة السويس، ومن ثم زيادة قدرتها على مساومة خصومها ( ) الأمر الذي اضطرت معه المملكة للتدخل العسكري باليمن، في مارس 2015م، خاصة بعد أن انكشفت طوحات الحوثيين للسيطرة على اليمن بأكمله. ( )
ويمكن تلخيص الأهداف الإيرانية، من وراء تقديم الدعم والمساندة لأنصار الله باليمن، فيما يلي:
أ- محاولة التحكم بالمناطق الاستراتيجية المهمة بالأخص، في المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الأحمر ولاسيما الجزر الاستراتيجية المهمة، مثل: البريم وزقر وكمران وجبل الطير، وباب المندب، وممر باب إسكندر وممر ميون المائيين. وهي جميعا تراقب الأنشطة البحرية المختلفة بالمنطقة وتتحكم فيها. وبالتالي تكتمل قبضة إيران على المنطقة العربية وتصبح هي فاعلا في اتجاهاتها السياسية الاقتصادية.
ب- تعظيم مكانة إيران بالداخل اليمني عبر تعزيز مكانة أنصار الله السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ لإكمال تطويق للمنطقة العربية عبر محور المقاومة.
وهكذا، نجحت إيران في خلق عمق استراتيجي لها بمنطقة الشرق الأوسط، عبر تكوين مليشيات وفصائل طائفية مسلحة تحت مظلة محور المقاومة الإسلامية، في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن، وجعلت منها قوة داعمة لمصالحها وصراعاتها الإقليمية. فضلا عن كونها تمثل خزانا طائفيا يسهم في إحداث تغيير ديموغرافي لصالح أبناء الطائفة الشيعية الموالية لها بهذه الدول.
مكاسب محور المقاومة والتحديات التي تواجهه
حصدت إيران جملة من المكاسب الإقليمية من وراء محور المقاومة، بوصفه التجسيد الحقيقي للعمق الاستراتيجي الذي خلقته بالمنطقة الشرق الأوسط، غير أنها تجابه تحديات كبرى قد تؤثر على مستقبل هذا المحور. والذي نلقي عليه الضوء على النحو التالي:
أولا: مكاسب إيران من محور المقاومة:
1. تعزيز النفوذ الإقليمي:
فرضت إيران لنفسها واقعا جيوسياسيا يتسم بالمرونة والديناميكية، بقد ما يسهم في تعدد خياراتها السياسية وتعزيز نفوذها الإقليمي وزيادة قدرتها على المناورة أمام الأطراف المناوئة لها، نظرا لما يلي:
– عززت استراتيجيتها الدفاعية على نحو قلص مخاطر شن هجوم عسكري تقليدي مباشر على أراضيها.
– عززت قدرتها على التأثير الإقليمي عبر إدارة وتدريب وتمويل تسليح جماعات ما دون الدولة الموالية لها.
– رفعت وعي الأقليات الشيعية بالمنطقة، حتى بات بعضها إما شريكا أيديولوجيا أو حليفا سياسيا لها.
– طورت مفهوم «محور المقاومة» إلى «تحالف» إقليمي داعم لمركزها التفاوضي في ملفها النووي
– فتحت أسواقا جديدة لمنتجاتها، بما يزيد من قدرتها على الالتفاف على العقوبات الدولية وألأممية.
2. تطويق شبه الجزيرة العربية:
كونت إيران تحالفا يحقق الأمن الجماعي المتبادل بينها وبين حلفائها، ولديه القدرة على ردع المناوئين لها، استنادا إلى القدرة على الحركة العابرة للحدود. وهذا ما يعد أحد أهم مكاسبها. فقد كان من الطبيعي، في ظل ديناميات العلاقة بينها وبين محور المقاومة من حيث الدور والخطط والمهام، والمكاسب الإقليمية، أن يرتقي مفهوم هذا المحور إلى مرحلة التحالف، من حيث التوازن بين تهديدات الأعداء (إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية) وبين متطلبات الأمن الجماعي والدفاعي المتبادل، وكذا الإدراك الكامل للتهديد الخارجي المشترك. خاصة بعد أن اكتسب حلفاؤها شرعية سياسية وعسكرية وتفكيرًا إقليميًا يتميز بالولاء التام لها والالتزام الأيديولوجي تجاهها ( ) بعد أن نجحت في تحقيق الأهداف التالية:
– تعزيز قدراتها على فرض طوق إقليمي طائفي حول ثروات دول الخليج وابتزازها في هذا الإطار
– حولت جماعة أنصار الله باليمن من مجرد جماعة محلية إلى قوة تقاتل السعودية وتحطم هيبتها الإقليمية.
– أهلت الحشد الشعبي بالعراق للحد الذي يمكنه زعزعة استقرار دول الخليج، وقتما تشاء.
– جعلت من تحالفها مع سوريا أحد التحديات الفعالة للدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط.
– حولت حزب الله اللبناني من مجرد قوة محلية، إلى ركيزة إقليمية من ركائز محور المقاومة.
– طورت ديناميكية محور المقاومة من الدفاع إلى الهجوم، على نحو يهدد الاستقرار الإقليمي.
3. تنمية الولاء الطائفي العابر للقومية:
خلقت إيران مسار ولاء لدى الأقلية الشيعية بأفغانستان وباكستان وربطتهم بمعاركها في العراق وسوريا واليمن. بما يعني أنها نجحت في الربط الجيوسياسي بين الأقلية الأفغانية بمقاتليها «فاطميون» والباكستانية بمقاتليها «زينبيون» وبين نفوذها الإقليمي. واستخدام فاطميون في تعزيز المكون الشيعي داخل الدولة الأفغانية، وتشكيل مستقبلها وفق مصالحها الخاصة. كذلك يمكنها تحويل مقاتلي زينبيون إلى أداة لتحقيق أهدافها في باكستان، أو للمساومة مع الهند مثلا إذا نقلتهم إلى إقليم كشمير.
ولعل الفهم الدقيق للتحدي الإقليمي الذي فرضته إيران من خلال محور المقاومة، وتطوير استراتيجيته من الدفاع إلى الهجوم، يفسر لنا قوة مواقفها الإقليمية والدولية، استنادا إلى مكاسبها العسكرية والأمنية في العراق وسوريا واليمن. كما يشير أيضا إلى أنها أتمت المرحلة الرئيسية الأولى من بناء العمق الاستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط، والأكثر عدوانية وتهديدا للاستقرار الإقليمي.
ويمكن أن ندرك مدى هذا التحدي، إذا علمنا أن الولاء الطائفي لها بالعراق يستهدف في جوهره تقويض سيادته. بدليل أنها لا تزال تعرقل مساعيه نحو تحقيق الاستقرار والتنمية، بواسطة بعض المليشيات، التي نجحت في تحويلها إلى قوة قادرة على فرض نفوذها بالدولة العراقية خاصة بعد أن دمجتها بالمؤسسات الرسمية. مثل الحشد الشعبي التي تهيمن عليها شخصيات موالية للحرس الثوري، وتتلقى أوامرها من قيادتها التنظيمية وليست الحكومية، وكثيرا ما خالفت الأوامر الحكومية بزعم أنها تتعارض ومصالح طهران؛ الأمر الذي أدى إلى تآكل سلطة الدولة العراقية لحساب إيران والقوى الموالية لها. ( )
لقد أصبحت إيران تتحكم بالعراق، منذ عام 2006م، عبر الحشد الشعبي، بما له من ثقل سياسي وعسكري وأمني وإعلامي واقتصادي، وبات بمثابة رديفا للحرس الثوري الايراني، يمكن استخدامه أداة للتدخل في شؤون الدول العربية الأخرى وزعزعة استقرارها. كما أن سيطرة الفصائل المسلحة الأخرى، مثل سرايا السلام، وكتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، وفيلق بدر على مناطق معينة ببغداد وبعض المحافظات ذات المكون الشيعي، يزيد من فرضية تهديد استقرار العراق، إذا دب الخلاف بينها. بدليل إن هذه الفصائل سبق وخاضت صدامات مسلحة فيما بينها بجنوبي العراق. ( )
ومن ناحية أخرى، أسهمت إيران، بالتنسيق مع روسيا، في إحباط جميع محاولات الإطاحة بنظام بشار الأسد؛ بوصفه الشريان الجيوستراتيجي لإيران في الشرق الأوسط، وبالتالي بقي الرئيس في الحكم، واضطرت القوى الفاعلة للاعتراف، ضمنيًا أو رسميًا، بالوضع القائم بدمشق، وهذا ما يعد في حد ذاته انتصاراً لإيران ولتحالف محور المقاومة( )
أما فيما يخص الصراع باليمن، الذي تؤثر على الأمن الإقليمي، فقد أفشلت إيران المحاولات السعودية لإضعاف أنصار الله الحوثية والفصائل التابعة لها. واستدرجتها لخوض حرب استنزاف تركت تداعيات سلبية على أوضاعها الداخلية والخارجية، كما دمرت صورتها الذهنية أمام الشعب اليمني. ونجحت في رفع قدرة الحوثيين على إدارة المعارك والتعامل مع المواقف القتالية الصعبة والمعقدة، ودفعهم لتطبيق معادلات الردع باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز ضد المواقع العسكرية، وضرب منشآت أرامكو في بقيق وخريص بشرق السعودية، واستهداف مطارات الرياض وجدة والطائف وخميس مشيط وجيزان ونجران وأبها بصواريخ باليستية. ( )
4. ضمان القدرة على ردع الخصوم:
تمكنت إيران من توسيع خياراتها أمام التهديدات المحتملة وجعلت الخصوم يتحسبون لنشوب صراع إقليمي، أو على أقل تقدير التحسب من انتقامها، حال تعرضها أو تعرض أي من حلفائها لهجوم مباشر. ولهذا يشدد كثير من الخبراء الأمريكيين على أن خيارات إيران، حال تعرضها لأي هجوم مباشر، أصبحت متعددة للرد على هذا الهجوم، إذ يمكنها أن تقوم بما يلي:
أ- إحداث أزمة طاقة عالمية، إذ لديها القدرة على إغلاق مضيق هرمز، بوصفه شريان النفط بمنطفة الخليج العربي، وتعطيل مرور ناقلاته، بما يؤدي لارتفاع أسعار الطاقة على نحو يجعل الاقتصاد العالمي أمام أزمة عميقة. كما يمكنها أيضًا استهداف المصافي والمنشآت النفطية بجميع الدول الخليجية، كجزء من الحرب غير المتكافئة ضد الولايات المتحدة. ( )
ب- ضرب المصالح الأمريكية، تدرك الولايات المتحدة أنه في حال شن هجوم على إيران، فإن قواعدها العسكرية بالعراق وأفغانستان ستكون هدفاً لها، كما أن قواعدها المنتشرة بدول الخليج لن تكون في مأمن منها. بل يمكنها أيضًا استهداف أسطولها بمياه الخليج العربي وبحر عمان والبحر الأحمر، وتعريض مصالحها بالمحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأسود للخطر. خاصة أن قواتها البحرية قادرة على ضرب الأهداف بسرعة؛ لأنها مزودة بزوارق سريعة وبسفن قادرة على زرع الألغام. ( )
ج- شن هجوم صاروخي على إسرائيل، يعتقد خبراء غربيون أن ثمة بعد آخر لايجعل الهجوم على إيران ذي جدوى، وبجل وضعه في الاعتبار، وهو قدرتها على شن هجوم صاروخي مباشر على إسرائيل، وشن هجوم مضادة إذا لزم الأمر، انطلاقا من جنوب لبنان. وعندها لن تصبح إسرائيل آمنة. ( )
ثانيا: التحديات التي تواجه محور المقاومة
يجابه محور المقاومة، عدد من التحديات الكبرى، التي ربما تؤثر على مستقبل وجوده واستمرار تماسكه، نذكر منها ما يلي:
1. ضعف التماسك مع بعض شركاء محور المقاومة:
يعاني محور المقاومة من مسببات التفكك الانهيار؛ منها ما يتعلق بتباعد المصالح بين إيران وبعض شركائها بهذا المحور على نحو أدى مثلا لانسلاخ «مقتدى الصدر» وابتعاد حركة حماس النسبي عنها. ومنها ما يعود لاختلاف المنطلقات الأيديولوجية والمنظور الفقهي للحكم بين «السيستاني» و«خامنئي» الأمر الذي من شأنه أن يحدث انقساما بين المليشيات العراقية. إلى جانب تراجع مستويات التعاون بين طهران وموسكو في سوريا؛ وتيقن طهران من أن الروس غالبًا ما يتخلون عن حلفائهم بفعل تفاهماتهم مع الولايات المتحدة وحلفائها. ناهيك عن تعرض بعض المصالح الإيرانية للتراجع في سوريا بفعل تحسن علاقات دمشق مع محيطها العربية، في ظل احتياجها إلى إعادة الإعمار والاستثمارات العربية. ( )
2. تعرض إيران لعقوبات اقتصادية صارمة:
تتعرض إيران لعقوبات أمريكية وأوربية وأممية مختلفة، فاقمت من أزمتها الاقتصادية قلصت قدرتها على مواصلة دفع المخصصات المالية لمعظم المليشيات التابعة لها. خاصة أن العقوبات الأمريكية التي فرضها الرئيس «دونالد ترامب» (Donald Trump) عقب الانسحاب من الاتفاق النووي، في 8 مايو 2018م ألحقت الضرر الأكبر بالاقتصاد الإيراني؛ لا سيما أنها شملت المؤسسات الداعمة لمحور المقاومة، مثل الحرس الثوري (أبريل 2019م) والبنك المركزي (سبتمبر 2019م) ومؤسسة المستضعفين (نوفمبر 2020) ولجنة تنفيذ أوامر الإمام الخميني ومؤسسة العتبات الرضوية المقدسة وهيئة الصناعات البحرية والجوية والطيران (يناير 2021م) إلى جانب الكيانات الداعمة والممولة للإرهاب والتنظيمات الإرهابية في المنطقة. ( )
ناهيك عن أن إدراج إيران بالقائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF) في فبراير 2020م، قلص قدرتها أيضا على الارتباط بشبكة البنوك الدولية ومنها البنوك الصينية والروسية، الأمر الذي أدى إلى حرمانها من الحصول على الخدمات البنكية، ورفع تكلفة نقل الدولار من وإلى الاقتصاد الإيراني، وهو ما سوف يساعد، إلى جانب العوامل الأخرى، على إضعاف محور المقاومة ودفع المجتمع الإيراني نحو دائرة الفوضى ومحاسبة النظام على إهدار قدرات الدولة الاقتصادية في مغامرات خارجية خاسرة ( )
3. رفض الأطراف المناوئة لنفوذ إيران الإقليمي:
يمثل رفض الأطراف المناوئة لاستمرا النفوذ الإيراني المخل بتوازن القوى تحديا ملموسا لنفوذ إيران الإقليمي، وتقف الولايات المتحدة، على راس هذه الأطراف، وتسعى بالتعاون مع حلفائها لبناء استراتيجية إقليمية لاحتواء محور المقاومة وإضعاف مرتكزاته. ولكن مع حرصها على ضرورة وجود بدائل خشية أن يؤدي إضعاف هذه المرتكزات إلى خلق فراغ يؤدي لظهور التنظيمات الإراهابية بمنطقة الشرق الأوسط مرة أخرى، كأن يستغل تنظيم القاعدة تراجع الحوثيين في اليمن لتوسيع دائرة نفوذه هناك. ( )
كذلك تعد إسرائيل من أقوى المناوئين لنفوذ إيران الإقليمي وتنتهج لنفسها طريقة لتقويض هذا النفوذ عبر استهداف عمق الأمن القومي الإيراني، بتصفية علماء برنامجها النووي والصاروخي، وتدمير جانب مهم من منشآتها بمفاعل «نطنز» ومجمع «بارچين» العسكري، فضلا عن الهجمات السيبرانية التي أعطبت عددا كبيرا من أجهزة الطرد المركزي، والسطو على أخطر وثائق البرنامج النووي والصاروخي من منطقة تورقوزآباد إلى جانب استهداف عناصر الحرس الثوري وقادة المليشيات التابعة له على الأراضي السورية.
وعبرت دول الخليج العربية، عن رفضها للنفوذ الإيراني بطرقها الخاصة؛ فقامت السعودية، بالتعاون مع قطر وتركيا، بتسليح الجماعات السلفية المقاتلة في العراق وسوريا، وسعت لإنشاء محور سني لمجابهة محور المقاومة. وعملت على الإطاحة بنظام الأسد ودفع حماس بعيد عن إيران. حتى وصل الأمر بها إلى درجة العمل على إنشاء محور سري يقوم على اتفاق غير مكتوب مع تل أبيب لمواجهة إيران، وتبادل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بتنفيذ عملياتها العسكرية ضد مقاتلي أنصار الله الحوثية باليمن. ( )
ثم يلغ التوافق الخليجي الإسرائيلي بشأن مجابة النفوذ الإيراني، مرحلة التطبيع البحرين الإمارات علاقاتهما مع إسرائيل، بموجب «الاتفاقات الإبراهيمية» التي تم التوقيع عليها برعاية أمريكية عام 2020م، التي منحت إسرائيل صفة التواجد الرسمي على الشاطئ المقابل لإيران بمياه الخليج العربي، فيما يمكن أن يدخل ضمن عملية تطويق النفوذ الإيراني. وفي هذا الإطار قامت الولايات المتحدة بضم إسرائيل إلى قيادة المنطقة الوسطى «سينتكوم» (CENTCOM) المسئولة عن الشرق الأوسط وآسيا الوسطي، بتاريخ 15 يناير 2021م، تمهيدا لقيام حلف أمني إسرائيلي – عربي مضاد لإيران. ( )
أما فيما يخص تركيا، فترى أن نفوذ إيران الإقليمي يهدد مصالحها وطموحاتها الإقليمية، في ظل مساعي أنقرة لمد خطوط نقل النفط والغاز من منطقة الخليج إلى أوروبا عبر أراضيها، وإنشاء خط اتصال بري مباشر مع دول الخليج عبر الأراضي العراقية، مما يعني توصيل هذه الدول بأوروبا مباشرة. فضلا عن مشروع مد أنابيب لنقل المياه من تركيا إلى منطقة الخليج وإسرائيل، والذي كانت تخطط له كي يمر عبر الأراضي العراقية أو السورية ثم الأردن، ومنه إلى دول الخليج العربي وإسرائيل. ولكنه لاقى معارضة عراقية وسورية، استنادا إلى أنه يقلل من حصصهما مياه نهري دجلة والفرات. ( )
وأخيرا، تدرك إيران أن روسيا تستهدف تعظيم المردود السياسي والعسكري والاقتصادي لتواجدها بالشرق الأوسط، مع تقليص الفرص قصيرة المدى للجهات الفاعلة المتنافسة. وأن سياستها تسمح بمزيد من حرية العمل إلى الحد الذي يمكنها فيه تضمين الجهات الفاعلة المتنافسة مثل السعودية وإيران وإسرائيل في سلة دبلوماسية خاصة بها. بدليل أنه تعاونت عسكريًا مع إيران، وأبرمت اتفاقيات عسكرية مع السعودية، وتبادلت المعلومات الأمنية والاستخباراتية مع إسرائيل ( )
مستقبل محور المقاومة المحتمل
من المحتمل أن تلجأ إيران، في ظل ضغوط الدولية وإصرار القوى الفاعلة على تفكيك محور المقاومة وتقويض مرتكزاته الإقليمية، بوصفها أداة إيران لإعادة تشكيل أنماط القوة الإقليمية وفق تصوراتها الخاصة، إلى تسوية قضاياها الخلافية مع المجتمع الدولي ومحيطها الإقليمي بهذا الشأن. على أن تحفظ هذه التسوية نفوذها المهيمن داخل الدائرة الأولى لأمنها القومي، ودورها السياسي المؤثر داخل الدائرة الثانية، بما يؤهلها في المستقبل للقيام بدور الوسيط في الأزمات الإقليمية الكبرى. خاصة بعد أن وضعت نفسها في قلب المشاكل البنيوية لمستقبل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز، وجعلت من نفسها محور ربط جيوسياسي بين الأقلية الشيعية بأفغانستان وباكستان وبين نفوذها بمنطقة الشرق الأوسط.
ومما يرجح هذا الاحتمال، أن فوز «جو بايدن» (Joe Biden) في 7 يناير 2021م، هيأ المناخ العام، لدى واشنطن وطهران في آن واحد، للاستناف المباحثات حول تسوية القضايا الخلافية بينهما بشأن برنامج إيران النووي وطبيعة نفوذها الإقليمي، ومن ثم رفع العقوبات. وبالتالي إنهاء الخصومة السياسية بينهما وربما إعادة علاقتهما إلى سابق عهدها. خاصة في ظل رغبة واشنطن في التفرغ لمجابهة الصين، وإدارة ملفاتها الخلافية مع روسيا. ويحقق لطهران في ذات الوقت طموحها في الاعتراف لها بدور إقليمي متفوق، انطلاقا من الواقع الجيوسياسي الذي فرضته بالمنطقة، ويزيد من احتمال تحسن علاقاتها مع المجتمع الدولي أيضا، والذي سوف يؤدي من تلقاء ذاته إلى تحسن علاقاتها بدول المنطقة، بما فيها السعودية وإسرائيل.
خاصة أن معظم المؤشرات أصبحت تبرهن على أن طهران وواشنطن اتخذتا خطوات عملية باتجاه التوصل إلى حلول تتعلق بالعقوبات المفروضة على إيران، وبملفها النووي وقدراتها الصاروخية. بدليل أنهما دفعا بالأهداف الإقليمية تباعا صوب تقريب وجهات النظر القائمة على النوايا الحسنة، مثل ملف معسكرات منظمة مجاهدي خلق الموجودة بألبانيا، وضرورة التوصل إلى حل سياسي لأزمة اليمن، التي أثرت بالسلب على أمن المملكة العربية السعودية ومنطقة باب المندب. ومن بين هذه المؤشرات المذكورة، ما يلي:
تبدل الموقف الأمريكي: الذي جسده تأكيد «بايدن» في خطابه الأول بمقر وزارة الخارجية، في 28 أبريل 2021م، بقوله إن إدارته سوف «تعزز جهودها الدبلوماسية لإنهاء الحرب في اليمن» التي «تسببت بكارثة إنسانية واستراتيجية» مشددا على أن «هذه الحرب يجب أن تنتهي» ومعلنا أيضا عن إنهاء «كل الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة. إضافة إلى إلغاء تصنيف الحوثيين في اليمن منظمة إرهابية”( )
رسائل الطمأنة الإيرانية: من خلال تأكيد الخارجية الإيرانية أن طهران مستعدة للحوار مع السعودية بشأن مخاوفها، ويمكن وفي أي وقت تريده حل الأزمة في اليمن، في حال ابتعادها عن ممارسة العنف وإهمال الأمن الإقليمي والتعاون مع القوى خارج المنطقة. وقال المتحدث باسم خارجيتها سعيد خطيب زادة: «إذا رأينا هذا التغيير في تصرفات السعوديين وخطابهم، فإن إيران بالتأكيد ستكون منفتحة على الحوار معها «( )
اكتمال الهدف الإيراني: والذي تمثلت في تعظيم دور المكون الشيعي بالمجتمعات العراقية والسورية واللبنانية، وخلق جماعة أنصار الله الحوثية المسلحة، بوصفها ركيزة مكملة لمحور المقاومة بشبه الجزيرة العربية وأداة لكبح نفوذ الإقليمي للسعودية، واستدراجها بعيدا عن العراق وسوريا ولبنان، عبر صراع جيوسياسي يقوض هيبتها ويستنزف قدراتها. ومن المحتمل أن تدفع إيران أنصار الله لمحاولة السيطرة على مأرب والجوف، ليكون جزءا من الوضع النهائي للحل، وفق تصوراتها الخاصة.
وعلى الرغم من ذلك، يمكن الإشارة إجمالا إلى أن إيران أمام خيارين في هذا الشأن: إما أن تضطر إلى تقليص التزاماتها المالية تجاه محور المقاومة بسبب أزمتها الاقتصادية المتفاقمة والضغوط الإقليمية والدولية المستمرة، خاصة في ظل تعرضها لتحديات استراتيجية من قبل بعض المنافسين الإقليميين، من ثم اللجوء لتفصفية خلافاتها مع دول الجوار وتخفيض حدة التوتر الإقليمي(محتمل) أو مواصلة تصعيد التوتر الإقليمي، وتعزيز قوة مرتكزات محور المقاومة. وهنا سوف يصبح محور المقاومة عدوانيًا، وتبدأ إيران في دفع مليشياته وفصائله المسلحة إلى مناطق جديدة مثل فلسطين ودول الخليج وأفغانستان. (مستبعد) ( )
وبناء عليه، فمن المحتمل أن تأتي خطوات التفاهم الأهم بشأن العراق؛ الذي يمثل أهمية خاصة لإيران من حيث الحدود الجغرافية المشتركة، وطبيعته الديمغرافية ذات الاثنية الدينية والعرقية، التي تمثل إلى حد كبير حاضنة مواتية لاستمرار نفوذها الأيديولوجي والسياسي؛ بما يؤهلها لاستمرار دورها في معادلاته المستقبلية.
وربما تكون سوريا هي الخطوة التالية، خاصة أن إيران نجحت في بناء نفوذ طويل الأمد فيها، من خلال شراء العقارات والمصانع، وتأسيس الشركات، وتعزيز الأعمال التجارية لبناء شبكة من الانتماءات. إلى جانب أنها أعادت تنظيم قوات الشبيحة واللجان الشعبية في قوة شبه عسكرية كبيرة تعرف باسم قوات «الدفاع الوطني» على غرار قوات الباسيج. وهناك اعتقاد واسع أن الحرس الثوري هو الذي يقود هذه القوات، حتى أصبحت منافسة للجيش العربي السوري. ( )
وعلى الرغم من ذلك، يمكن القول إن إيران لن تستطيع استنساخ تجربتها بالعراق في سوريا؛ نظرا لأن زيادة نفوذها أو استمراره على النحو القائم في سوريا يمثل في حد ذاته تهديدا لن تقبل به إسرائيل على الإطلاق، كما لن تقبل به تركيا، أو ترضى عنه روسيا من الأساس؛ نظرا لأن سوريا هي الحليف الاستراتيجي العربي لها بالشرق الأوسط. والأهم من ذلك أنها دولة علمانية معظم سكانها من السنة الذين شهدوا على بشاعة الممارسات الإيرانية بحق بلدهم، ناهيك عن أن الثقافة العربية السورية قادرة على حصر النفوذ الإيراني داخل أماكن تغلغله فقط.
النتائج
توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج، يمكن إبراز أهمها على النحو التالي:
1) نجحت إيران في خلق عمق استراتيجي لها بمنطقة الشرق، ضم لبنان والعراق وسوريا واليمن تحت مظلة محور المقاومة، وجعلت منه قوة داعمة لمصالحها الإقليمية وصراعاتها الجيوسياسية. فضلا عن كونه يمثل خزانا طائفيا يسهم في إحداث التغيير الديموغرافي لصالح أبناء الطائفة الشيعية الموالية لها في هذه الدول.
2) عزز محور المقاومة قدرة إيران على خلق مصالح أمنية داخل بعض الدول العربية على نحو أسهم في تنويع خياراتها السياسية، وزيادة قدرتها على المناورة والحصول على تنازلات دولية لتعزيز نفوذها الإقليمي.
3) خلقت إيران مسارات ولاء لدى الأقلية الشيعية بأفغانستان وباكستان وربطتهم بمعاركها بالعراق وسوريا واليمن. كما نجحت في الربط الجيوسياسي بين هذه الأقليات وبين نفوذها بالشرق الأوسط. وبإمكانها استخدام مقاتلي فاطميون الأفغان في تعزيز مكانة الأقلية الشيعية داخل الدولة الأفغانية، وتشكيل مستقبلها وفق مصالحها الخاصة. كما يمكنها تحويل مقاتلي زينبيون إلى أداة لتنفيذ أهدافها في باكستان.
4) طورت إيران استراتيجيتها الإقليمية من مرحلة الدفاع عن حلفائها وشركائها الإقليميين، إلى مرحلة الردع والهجوم على المناوئين. كما جعلت القوى الفاعلة تتحسب من نشوب حرب إقليمية، أو على أقل تقدير التحسب من انتقامها، حال تعرضها أو تعرض أي من مرتكزاتها الإقليمية لعمل عسكري.
5) خلقت إيران لنفسها تحالفا يحقق الأمن الجماعي المتبادل بينها وبين حلفائها، لديه القدرة على ردع المناوئين لها، استنادا إلى قدرة هؤلاء الحلفاء على الحركة العابرة للحدود.
6) ارتقى مفهوم محور المقاومة إلى مفهوم التحالف، بفضل ديناميات العلاقة بين إيران ومرتكزات هذا المحور من حيث الدور والخطط المهام، والمكاسب الإقليمية، والتوازن بين تهديدات أعدائها وبين متطلبات الأمن الجماعي والدفاعي المتبادل، ناهيك عن الإدراك الكامل للتهديد الخارجي المشترك والوحدة الأيديولوجية.
7) يتسم محور المقاومة بخصائص أسهمت في تحقيق مكاسب إقليمية عديدة لصالح إيران، ومن بين هذه السمات: النهج شبه العسكري ومرونة الحركة، والقدرة على الانتشار العابر للحدود، والتشغيل البيني.
8) تواجه محور المقاومة جملة من التحديات الرئيسية، تتمثل في ضعف التماسك مع بعض شركائها بهذا المحور، وتعرض إيران لعقوبات اقتصادية صارمة، فضلا عن رفض القوى الإقليمية لنفوذها الإقليمي
9) من المحتمل أن تنجح إيران في التوصل إلى تفاهمات إقليمية ودولية تحفظ لها دورها المهيمن داخل الدائرة الأولى لأمنها القومي، ودور سياسي مؤثر داخل الدائرة الثانية، بما يؤهلها في المستقبل للقيام بدور الوسيط بالأزمات الإقليمية الكبرى. خاصة بعد أن وضعت نفسها في قلب المشاكل البنيوية لمستقبل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز.