استراتيجية إيران تجاه القرن الأفريقي
بواسطة :
إشكالية الدراسة:
تنبع إشكالية الدراسة من كونها ترصد المساعي الإيرانية للحصول على نقطة ارتكاز استراتيجي بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، يمكن من خلالها توسيع عمقها الاستراتيجي، في ضوء استراتيجية الخطوة الثانية، التي أطلقتها عام 2019م، بمناسبة الذكرى السنوية الأربعين لقيام الثورة الإسلامية، وكذا الدوافع التي أدت إلى تكثيف هذه المساعي في هذا الشأن، ومدى الاستجابة الأفريقية لذلك. وفى هذا الإطار يبرز تساؤل رئيس مفاده: لماذا اتجهت إيران إلى توسيع عمقها الاستراتيجي بمنطقة القرن الأفريقي، وما هي طبيعة الأهداف التي تسعى إلى تحقيقيها من وراء ذلك؟
التساؤلات الفرعية:
فرض التساؤل الرئيس للدراسة عدة تساؤلات فرعية أخرى، سوف تحاول الإجابة عنها، أهمها:
– ما أهمية القارة الأفريقية بالنسبة لإيران؟ ولماذا اتجهت إلى منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا؟
– ما المحددات السياسية والجيوسياسية التي تحكم علاقة إيران بدول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا؟
– كيف تمكنت من التأثير الأيديولوجي وكسب الدعم السياسي وعقد شراكات مع القوى التابعة وغير التابعة لها؟
– ما المكاسب التي حققتها بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وطبيعة التحديات التي واجهت تحركاتها؟
– ما أهدافها من وراء محاولة توسيع عمقها الاستراتيجي بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا؟ وما الأدوات والوسائل التي يمكن أن تستعين بها لتحقيق هذه الأهداف؟
أهمية الدراسة
تنبع أهمية هذه الدراسة من كونها تسعى إلى تحليل سياسة إيران تجاه منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، في ضوء تطلع قيادتها إلى تأكيد نفوذها الإقليمي ومكانتها الدولية، وتوسيع عمقها الاستراتيجي بمنطقة غرب آسيا، عبر الاستحواذ على نقاط ارتكاز استراتيجي بالقرن الأفريقي، يمكن ربطها بمنطقة الشرق الأوسط؛ لتحقيق أهدافها المختلفة، سواء باستخدام أدوات القوى الناعمة، أو بالاعتماد على قوى ما دون الدولة.
فرضية الدراسة:
تقوم فرضية الدراسة على أن مساعي إيران الرامية لزيادة وزنها النسبي مقابل القوى الإقليمية والدولية، على نحو يحقق لها أهدافها الاستراتيجية والأيديولوجية والاقتصادية والأمنية، عبر إيجاد نقطة ارتكاز بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، يمكن ربطها بكل التفاعلات القائمة بمنطقة الشرق الأوسط. سوف تكون لها تداعيات إقليمية وإفريقية مؤثرة على الأمن القومي العربي.
حدود الدراسة
الحدود المكانية: تقتصر هذه الدراسة على تناول استراتيجية إيران تجاه منطقة القرن الأفريقي ومحيطها الاستراتيجي الأوسع بشرق أفريقيا.
الحدود الزمانية: تبدأ الحدود الزمانية لهذه الدراسة من عام 2019م، نظرا لأنه العام الذي أطلق فيه المرشد الأعلى للثورة استراتيجية الخطوة الثانية، التي تستهدف خلق مساحة نفوذ لإيران بمنطقة القرن الأفريقي على غرار الذي اختلقته بمنطقة غرب آسيا.
منهج الدراسة:
اعتمدت الدراسة على منهجين: المنهج الوصفي الذي يمثل أسلوبا من أساليب التحليل القائم على المعلومات الكافية حول ظاهرة أو موضوع بعينه، أو فترة زمنية محددة. والمنهج الاستقرائي الذي يقوم على رصد جزئيات المشكلة وتحليلها. وهو الأمر الذي يسهم في تناول الجوانب الخاصة بهذا الموضوع تناولاً دقيقا يفضي إلى نتائج علمية موضوعية.
والله أسال أن تكون هذه الدراسة قد حققت أهدافها المرجوة، وأن يوليني القارئ الكريم بعض حلمه ورحابة صدره، ويرى هفواتها موضعًا لتسامحه؛ خاصة أن القارئ يكون أبصر بمواقع الخلل في أي دراسة من منشئها.
الدكتور سعيد الصباغ
أهمية منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا
تحظى منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بوزن استراتيجي كبير في الإدراك الإيراني؛ نظرًا لأنها تعد المساحة الجغرافية الأوسع والأكثر دينامية وتأثيرًا، مقارنة بمنطقتي آسيا الوسطى والقوقاز، التي يمكن أن تخلق فيها مساحة نفوذ أو ارتكاز استراتيجي موصول بمنطقة الخليج العربي وبعمقها الاستراتيجي بغرب آسيا، يحقق لها طموحاتها الإقليمية، ويمكن أن يصبح ساحة مواتية لنقل المواجهة الجيوسياسية مع خصومها، بعيدًا عن الدائرة الأولى لأمنها القومي بمنطقة الخليج. خاصة أنها موصولة أيضا بكل التفاعلات التي تجري بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما تعول إيران كثيرا على الأصوات الأفريقية التي تناهز ثلث أصوات أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة والمنظمات الأخرى ذات الصلة، في تحقيق أهدافها الدولية، ومواجهة الضغوط التي يمكن أن تمُارس ضدها. خاصة أن هذه الأصوات كانت فعالة في دعم الصين لشغل مقعد تايوان بمجلس الأمن، ومساندة إندونيسيا في حل قضية تيمور الشرقية.
الأهمية الاستراتيجية:
تتمتع منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بأهمية استراتيجية من حيث أنها حلقة اتصال مركزية بين أفريقيا أوروبا وآسيا؛ وتشكل كتلة استراتيجية متماسكة قوامها تسع دول، تبلغ مساحتها 2,725,551 كم2، أربع منها بمنطقة القرن الأفريقي (إريتريا والصومال وجيبوتي وإثيوبيا) وثلاث بمنطقة شرق أفريقيا (كينيا وتنزانيا وأوغندا) واثنتان ينتميان لشمال أفريقيا ولكنهما يمثلاًن امتدادا جيوسياسيًا وجيواقتصاديًا لها، هما السودان وجنوب السودان. وتطل هذه المنطقة على المحيط الهندي والبحر الأحمر، الذي يعد محورا مهما لمرور سلاسل الإمداد الاستراتيجية والأمن الغذائي العالمي، فضلا عن 60% من احتياجات أوروبا، و25% من احتياجات الولايات المتحدة من الطاقة. ( )
ناهيك عن أنها تضم جزرا استراتيجية بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، تمتلك إريتريا 126جزيرة منها عند باب المندب، أهمها أرخبيل «دهلك» وجزيرتي «حالب» و«فاطمة» بينما تمتلك اليمن183 أخرى، أهمها جزيرتي «سقطرى» و«بريم» وأرخبيل «حنيش» التي تمثل جميعها قواعد ساحلية متقدمة، لكل من إريتريا واليمن وجيبوتي، يمكن استخدامها في المراقبة والاستطلاع البحري وتأمين المجرى الملاحي وإحكام السيطرة على حركة الملاحة البحرية كلها. ( )
كما تضم مضيقًا لا يقل أهمية عن مضيق هرمز، هو باب المندب الذي يربط خطوط الملاحة المتجهة من المحيط الهندي جنوبًا إلى القارة الأوروبية شمالًا، مرورًا بقناة السويس، التي تعد محور الاتصال والتجارة العالمية ونقل الطاقة من مصادرها بشبه الجزيرة العربية وإيران إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية. ( ) ولكنه يمتاز عن مضيق هرمز بصعوبة إغلاقه؛ نظرًا لكبر عمقه واتساع عرضه، ويمكن فقط جعله غير آمن بزرع الألغام، على نحو ما حدث، عام 1984م، وتضررت أكثر من 19 سفينة بسبب الألغام التي زرعتها ليبيا بالأطراف الشمالية والجنوبية للبحر. كما يمكن أن يؤدي التنافس الدولي والإقليمي للسيطرة عليه إلى زيادة احتمالات إغلاقه، حال نشوب صراع مستقبلي، على غرار ما فعلته مصر، عام 1967م، عندما منعت عبور السفن الإسرائيلية التي كانت تدخل منه محملة بوارداتها النفطية من شركة النفط الوطنية الإيرانية. ( )
الأهمية الجيوسياسية
تمثل منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا أهمية بالنسبة لإيران لكونها امتدادا جيوسياسيًا لمنطقة الخليج العربي، وممرًا استراتيجيًا لمعظم التحركات العسكرية الأجنبية فيها، وممرًا لعبور سفن التجارة وناقلات النفط المتجهة إلى أنحاء العالم، مرورًا بشمال المحيط الهندي وخليج عدن ومضيق باب المندب وصولًا إلى البحر الأحمر، الذي يجب ألا يكون عرضة لأي توتر أو صراع يمكن أن يهدد سلامة تدفق التجارة ونقل الطاقة. ناهيك عن أنها دائرة مؤثرة في توازن القوى، بموانئها المحورية وجزرها الاستراتيجية. ولذا تضعها إيران ضمن حسابات المواجهة المفتوحة بينها وبين جميع خصومها ومنافسيها. ( )
وقد أكد لها الصراع الجيوسياسي بينها وبين السعودية صحة حساباتها من حيث أن الحرب التي شنتها قوات التحالف العربي ضد مقاتلي أنصار الله الحوثية باليمن، تستهدف تطويق عمقها الاستراتيجي بغرب آسيا، والحيلولة دون امتداده لجنوب الجزيرة العربية والقرن الأفريقي. بدليل أن السعودية والإمارات سعتا لإنشاء قواعد عسكرية والحصول على تسهيلات بحرية وجوية بالقرن الأفريقي؛ لتنفيذ عملياتهما العسكرية باليمن. كما انتهزت تركيا هذه الحرب فرصة لتعزز وجودها الأمني والعسكري هناك. بينما وقعت إسرائيل اتفاقيات أمنية لهذا الغرض. ناهيك عن أن دول هذه المنطقة تحولت إلى مركز لتجمع القواعد العسكرية التابعة للقوى الدولية، الأمر الذي دفع إيران للبحث عن مساحة نفوذ بحري لها بهذه المنطقة الحساسة. ( )
وقد حاولت إيران، عشية اندلاع الصراع باليمن، استخدام التسهلات العسكرية والأمنية التي سبق وحصلت عليها بميناء عصب، لتطويق دول الخليج من جهة القرن الأفريقي بوصفها الجناح الأمني الغربي للجزيرة العربية. بالتزامن مع استخدام مقاتلي أنصار الله الحوثية صواريخ متقدمة مضادة للسفن والألغام لهزيمة البحرية السعودية والإماراتية. غير أن محاولاتها باءت بالفشل أمام سياسة التمويل مقابل التحالف التي انتهجتها الدولتان، وأتاحت لهما مجالاً لنشر قوات بحرية في جيبوتي وميناء عصب الإريتري والقاعدة الجوية القريبة منه وميناء جدة؛ لأخذ زمام المبادرة في الحرب وفرض حصار بحري وجوي على اليمن، وتأمين الملاحة بالبحر الأحمر. الأمر الذي زاد من إصرار إيران على إيجاد نقطة ارتكاز استراتيجي لها بأي من الموانئ التي تمتلكها الدول الساحلية الست بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا. ( )
حيث يوجد بهذه المنطقة اثني عشر ميناء محوريًا بين الأسواق الناشئة بشرق أفريقيا وأوروبا وآسيا، منها سبع موانئ بالقرن الأفريقي، تمتلك إريتريا منها ميناءان، الأول ميناء عصب الذي يبعد عن باب المندب بحوالي 20 ميلاً بحريًّا وعن ميناء «المخا» اليمني بحوالي 40 ميلًا، والثاني هو ميناء «مصوع» (Massawa) الأكبر مساحة والأكثر نشاطًا مقارنة بميناء عصب.( ) بينما تمتلك الصومال أربعة أخرى( ) هي ميناء «بربرة» بإقليم صومالي لاند، ويوصف بأنه مفتاح البحر الأحمر وبديل مستقبلي محتمل لميناء جيبوتي يُعتمد عليه تجاريًّا وعسكريًّا.( ) وميناء «مقديشو» المتميز بإطلالة استراتيجية على المحيط الهندي، والذي أهلته الصين ليكون ضمن مبادرة الحزام والطريق.( ) ثم ميناء «بوصاصو» (Bosaso) الذي يقع بالقرب من مدخل باب المندب، ويطل على خليج عدن من الجهة المقابلة لميناء «المكلا» اليمني. ثم ميناء «هوبيو» (Hobyo) الذي يقع شمال شرق الصومال بالقرب من خليج عدن وباب المندب، ويمثل حلقة وصل بين شمال الصومال وجنوبه، ويمكن أن يمثل بوابة لعبور صادرات إثيوبيا النفطية من إقليم «أوجادين» (Ogadeen) إلى العالم الخارجي. ( ) أما جيبوتي ( ) فتملتك ميناء جيبوتي الاستراتيجي، الذي يطل على مضيق باب المندب، ويعد مركزًا إقليميًّا لنقل البضائع بين أسواق شرق ووسط أفريقيا، ولهذا اعتمدته الصين ضمن مبادرة الحزام والطريق. ( ) كما يمتلك السودان ميناء «بور سودان» الاستراتيجي الذي يمكن أن تعتمد عليه كل من جنوب السودان وأوغندا والكونغو الديمقراطية. ( )
أما منطقة شرق أفريقيا، فتمتلك فيها دولتان أربع موانئ استراتيجية، اثنان منها في كينيا ( ) هما ميناء «مومباسا» (Mombasa) وهو أكبر موانئ شرق أفريقيا، والمركز الإقليمي لمنطقة شرق أفريقيا ووسطها، خاصة لأوغندا ورواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية. وميناء «لامو» (Lamu) الذي يعد مركزا للنقل بمنطقة شرق أفريقيا، وجزءًا من مشروع «لابسيت» (LAPSSET) لتسهيل حركة التجارة بين جنوب السودان وكينيا وإثيوبيا. ( ) بينما يقع الميناءان الآخران بتنزانيا ( ) الأول هو ميناء «دار السلام» الذي تتم عبره 95٪ من تجارة تنزانيا الدولية. كما يخدم الدول غير الساحلية الأخرى مثل ملاوي وزامبيا الكونغو الديمقراطية وبوروندي ورواندا وأوغندا، وهو ميناء شحن مناسب ليس فقط بين دول شرق أفريقيا ووسطها، بل إلى الشرق الأوسط والأقصى وأوروبا وأستراليا والقارة الأمريكية. أما الميناء الآخر فهو ميناء «باجامويو» (Bagamoyo) الذي يقع على بعد 75 كيلومترًا شمال دار السلام. ( )
الأهمية الجيواقتصادية:
لا تقتصر أهمية القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، بالنسبة لإيران، على المزايا الاستراتيجية والجيوسياسية فقط، وإنما تتعداها أيضًا إلى الأهمية الجيواقتصادية من حيث وفرة الموارد الطبيعية والاحتياطيات الكبيرة من النفط والغاز والخامات الاستراتيجية والثروة المعدنية مثل الذهب والحديد والنيكل والفوسفات والكوبالت واليورانيوم، التي يتزايد الطلب العالمي عليها، في ظل تقلص انتاجها معدلات احتياطاتها العالمية. ( )
ومن ثم تعول إيران على القارة الأفريقية عامة، وعلى منطقة القرن القرن الأفريقي وشرق أفريقيا خاصة؛ لتحقيق أهدافها الاقتصادية، في ظل تفاقم أزمتها الاقتصادية الناجمة عن العقوبات المفروضة عليها، والخلل البنيوي والهيكلي في إدارة ثرواتها ومواردها، حتى باتت أمام تحد كبير. خاصة أن 70٪ من ميزانيتها تعتمد على عوائد النفط، الذي أوشك على النضوب، لدرجة أنها ربما تصبح غير قادرة على تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي منه. الأمر الذي دفعها للبحث عن حلول بديلة ومستدامة لذلك بالقارة الأفريقية.
وتدرك إيران أن أفريقيا هي قارة الفرص التي يمكن أن تلبي طموحاتها؛ نظرًا لاعتبارات كثيرة، منها أنها ثاني أكبر قارات العالم من حيث المساحة؛ حيث تبلغ 30,370,000 كيلومتر، بما يعادل خمس مساحة اليابسة، وتتكون من أربع وخمسين دولة، يبلغ عدد سكان دولها، طبقا لتقديرات يوليو 2023م، حوالي 1،448،719،070 نسمة، يمثلون 17,8% من سكان العالم، يشكل المسلمون منهم 42,4% تقريبًا. ( )
كما تؤكد التقديرات العالمية، ومنها تقديرات منظمة التجارة العالمية، أن معظم الدول الأفريقية زاخرة بالموارد والثروات الطبيعية، والأراضي الزراعية الشاسعة والغابات الكثيفة والمياه العذبة، والاحتياطيات الهائلة من النفط والغاز الطبيعي والفحم والخامات الاستراتيجية المتنوعة ( ) وأشار تقرير لجنة أفريقيا الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة، إلى أن هذه الدول تمتلك حوالي 54٪ من احتياطيات العالم من البلاتين، و78٪ من الماس، و40٪ من الكروم، و28٪ من المنجنيز ( ) و50٪ من الكوبالت، و40٪ من البوكسايت، و13٪ من النحاس، و50٪ من الفوسفات، و65٪ من الذهب و30٪ من الثوريوم واليورانيوم، والكولتان المستخدم في تصنيع الهواتف. كما تمتلك ما بين 20 و25% من إمكانات الطاقة الكهرومائية غير المستغلة بالعالم. ناهيك عن الكميات الهائلة من خام الحديد والقصدير والزنك والرصاص والنيكل غير المستغلة. ( )
وبناء عليه، أخذت إيران تعزز علاقاتها الأفريقية؛ في ظل إدراكها أن القارة سوف تطور استراتيجيتها في المستقبل، بحيث تستخدم مواردها وثرواتها بشكل استراتيجي للفوز بصفقات مربحة للجميع، وأنها سوف تصبح لاعبًا استراتيجيًا على المستوى الدولي، بحلول 2050م، خاصة أن القوى الدولية الفاعلة أبدلت أدواتها الاستعمارية القديمة بأخرى قائمة على الاستثمار وتمويل مشروعات التنمية ونقل التكنولوجيا، حتى أضحت قارة الفرص. على الرغم من تفاقم المنافسة عليها وكثرة التحديات السياسية والاقتصادية وتفاقم المخاطر الناجمة عن التغيرات المناخية وانعدام الأمن الغذائي التي ربما تفضي إلى عدم الاستقرار فيها. ( )
تطور علاقات إيران الأفريقية
لفهم سياسة إيران تجاه القارة الأفريقية عامة ودول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا خاصة، علينا أن نلقي الضوء أولاً على المحددات التاريخية والسياسية لهذه العلاقات، منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979م، التي استندت إلى الأيديولوجية الثورية والقواسم المشتركة في مخاطبة الشعوب الأفريقية، بوصفها نصيرا لكل مستضعف، وسند لكل مضطهد كابد التفرقة العنصرية، وداعم لكل مناضل قضت الإمبريالية على حرية بلاده ونهبت ثرواتها. وفي هذا الإطار قسم معظم المراقبين هذه العلاقة إلى مراحل زمنية متمايزة.
المرحلة الأولى: والتي بدأت مع قيام الثورة الإسلامية، وانتهت بوفاة «الخميني» في يونيو 1989م وشهدت أحداثا كبرى، منها احتلال السفارة الأمريكية بطهران في 4 نوفمبر 1979م، واندلاع الحرب مع العراق، في 22 سبتمبر 1980م، وتفاقم الصراع الداخلي على السلطة الذي حُسم بالإطاحة بالرئيس «بني صدر» في يوليو 1981م، واجتياح إسرائيل للبنان، في 5 يونيو 1982م، ولجوء إيران للعمليات الإرهابية ضد خصومها. فقامت عناصر حزب الله اللبناني وحزب الدعوة العراقي المواليان لها بتفجير مقر السفارة العراقية في بيروت، في 15 ديسمبر 1981م، ونسف مقر قيادة قوات المارينز الأمريكية والنخبة الفرنسية، في 23 أكتوبر 1983م، واختطاف أكثر من 96 شخصا من الرعايا الأجانب بلبنان، منهم 25 أمريكيًا. وكانت المحصلة النهائية لهذه المرحلة فرض عزلة إقليمية وعقوبات دولية على إيران. الأمر الذي دفعها إلى محاولة تشكيل واقع إقليمي ودولي يجبر خصومها على الاعتراف بقوتها الإقليمية ومكانتها الدولية.
ومن ثم، اتجهت إيران نحو أفريقيا، من خلال الاتحاد الأفريقي وحركة عدم الانحياز، ومنظمة التعاون الإسلامي؛ بهدف كسب أصوات دولها بالأمم المتحدة، أثناء الحرب مع العراق، واحتواء نفوذه بأفريقيا، وتصدير الثورة الإسلامية. ( ) فضاعفت عدد سفاراتها، وقام «علي خامنئي» بأول جولة لرئيس إيراني بأفريقيا، عام 1986م، زار خلالها تنزانيا وموزمبيق وأنجولا وزيمبابوي. وبدأت علاقات إيران تتحسن مع بعض دول القارة؛ بفضل المنح المالية وأسعار النفط التفضيلية، ودعم اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة لأنشطة «جهاد البناء» في مجال التنمية الزراعية، مثل التوسع في الميكنة الزراعية، وزيادة إنتاج الحبوب والانتاج الحيواني، وصيد الأسماك، والرعاية الصحية، وتوفير الأدوية والأمصال الخاصة بالأمراض المتوطنة. إضافة إلى شق الطرق وتشييد السدود، والتدريب المهني. إلا أن أنشطة نشر المذهب الشيعي وسط الأغلبية السنية الساحقة لمسلمي أفريقيا، واستقطاب الطلاب للدراسة بالحوزة العلمية والجامعات الإيرانية، أدى إلى تدهور سمعتها الأفريقية وخلق نوع من التوتر داخل بعض الدول، أدى إلى قطع العلاقات معها، مثلما فعلت السنغال عام 1984م ( )
المرحلة الثانية: وهي التي أعقبت وفاة الخميني، واستمرت حتى عام 2005م، وشهدت تراجع الوزن الحزبي للتيار الأصولي المتشدد، وانتهاء الحرب مع العراق، وإعادة الإعمار، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية، في عهد الرئيس البرجماتي (Pragmatist) «هاشمي رفسنجاني» (1989 ـ 1997م) وخليفته الإصلاحي «محمد خاتمي» (1997 ـ 2005م) وتزامن معها أيضا عدد من المتغيرات الإقليمية والدولية الحاسمة، أبرزها غزو العراق للكويت، عام 1990م، وتداعياته، وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، وانكشاف الأنظمة الأفريقية الموالية له، وانفراد الولايات المتحدة بقطبية العالم، وتبنيها استراتيجية «الاحتواء المزدوج» ضد إيران العراق؛ لمنعهما من ارتكاب أي أعمال قد تضر بمصالحها أو بحلفائها بالمنطقة، واحتواء قدراتهما العسكرية، وفرض عقوبات اقتصادية عليهما، وعزلهما عن المجتمع الدولي ( )
وقد هيأت هذه المتغيرات بيئة مواتية لإيران لتعزز نفوذها الإقليمي، خاصة بعد الإطاحة بنظام طالبان في كابل، عام 2001م، ونظام صدام حسين في بغداد، عام 2003م، فسعت لإثبات قدرتها على مجابهة العقوبات وكسر العزلة المفروضة عليها، وكسب الأصوات الأفريقية بالمحافل الدولية، ونيل عضوية التكتلات الاقتصادية ( ) ونشر التشيع السياسي والترويج لخطابها المناهض للهيمنة الغربية، ودعم جماعات الإسلام السياسي بالتدريب والتسليح، وبناء علاقات سياسية واقتصادية وأيديولوجية قوية مع بعض الدول الأفريقية
ومن ثم، اتجهت نحو توثيق علاقاتها بالسودان عقب الانقلاب العسكري الذي قاده «عمر البشير» في 30 يونيو 1989م، للاطاحة بحكومة رئيس الوزراء «الصادق المهدي» ودفع الجبهة الإسلامية إلى السلطة. وكان ذلك بمثابة فرصة مواتية لها كي تخترق شرق أفريقيا. فبادر رفسنجاني بزيارة الخرطوم على رأس وفد اقتصادي كبير، عام 1991م، وتوفيع اتفاقيات سياسية واقتصادية وتجارية وعسكرية، وتقديم منحة مالية تقدر بـ 17 مليون دولار، وأسلحة صينية تقدر بـ 300 مليون، ومليون طن نفط سنويًا. تلاها وصول ألفي عنصر من الحرس الثوري إلى السودان لتدريب قوات الدفاع الشعبي أثناء الحرب الأهلية في الجنوب.
وعلى هذا، تحول السودان لأحد أهم حلفاء إيران بشرق أفريقيا، وإحدى قواعدها لتدريب الإرهابيين، وممرًا لنقل الأسلحة إلى حزب الله بلبنان وحركتي وحماس والجهاد بغزة، وملاذا لإيواء العناصر الإرهابية، من أمثال «أسامة بن لادن» و«إليش راميريز سانشيز» Ilich Ramírez Sánchez الشهير بـ «كارلوس» (Carlos) الأمر الذي أدى في النهاية إلى تدهور سمعة السودان الدولية والإقليمية وتوتر علاقاته مع إثيوبيا وإريتريا، حتى بلغت حافة الحرب. ثم مع مصر، خاصة عقب تورطه في محاولة اغتيال الرئيس مبارك بأديس ابابا في يونيو 1995م، والذي أدى إلى وضعه على قائمة الإرهاب التابعة لوزارة الخارجية الأميركية. ( )
كما زار رفسنجاني السنغال لبناء علاقات سياسية وتجارية معها، ووطد علاقات بلاده مع كل من مع تنزانيا المطلة على سواحل شرق أفريقيا، وغانا وسيراليون بمنطقة غرب أفريقيا، ودولة جنوب أفريقيا، الداعم التقليدي لإيران بالوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس الأمن، والتي زارها ضمن جولة إفريقية أخرى، عام 1996م، ونجحت وساطته في توقيع السودان وأوغندا اتفاقية سلام أنهت الخلافات بينهما. ( )
كذلك كثفت إيران أنشطتها السرية بالتعاون مع عناصر حزب الله اللبناني لدعم حركة التحرر الإريترية حتى نالت الاستقلال عن إثيوبيا، في 29 مايو 1991م، ونجحت في تجنيد العملاء وتسليح وتدريب العناصر والجماعات الإرهابية لتهديد المصالح الأميركية والإسرائيلية ومنشآتها ورعاياها المقيمين بشرق أفريقيا، مثل تنظيم «اتحاد المحاكم الإسلامية» الصومالي، قبل القضاء عليه عام 2007م.
في المقابل بدأت الولايات المتحدة في مراقبة تنامي الاتجاهات الإرهابية والأنشطة الإيرانية بأفريقيا، خاصة عقب التفجير الذي نفذه تنظيم القاعدة لسفارتيها في كينيا وتنزانيا، عام 1998م، بينما أخذت بعض الدول الأفريقية تبلغ الأمم المتحدة عن الاختراقات الأمنية التي تورطت فيها إيران على أراضيها. ( ) كما اتهمتها الجزائر بدعم الجناح العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ، خاصة بعد إلغاء نتائج الانتخابات النيابية، في ديسمبر 1991م، ثم قطعت العلاقات معها، في مارس 1993م.
ثم تدهورت سمعة إيران الدولية أكثر، بعد تورطها في تنفيذ عمليات إرهابية حول العالم، مثل تورطها في تفجير مطعم «ميكونوس» (Mykonos) بمدينة برلين، في سبتمبر 1992م، الذي أودى بحياة أربعة عناصر من المعارضة الكردية، على رأسهم «صادق شرفكندي» الأمين العام للحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وتفجير مبنى «آميا» AMIA اليهودي بمدينة «بوينس آيرس» عام 1994م، الذي راح ضحيته أكثر من ثلاثمائة شخص، منهم 85 أرجنتينيًا ( ) إضافة إلى مواصلة الحرس الثوري نقل الأسلحة للأطراف المختلفة بمناطق الصراع، مقابل شراء اليورانيوم لصالح تطوير البرنامج النووي، حتى فرضت الأمم المتحدة قيودًا دولية صارمة لمنع مثل هذه المبيعات، عام 2007م.( )
ومع ذلك، حدث نوع من الانفراج النسبي مع الولايات المتحدة وتحسن صورة إيران الدولية والإفريقية، على نحو خفف من عزلتها الخارجية، خاصة بعد تبنى الرئيس «خاتمي» سياسة خارجية تدعو لـ «حوار الحضارات» بدلاً من الدعوة لمناوأة الامبريالية، وضخ مزيد من رأس المال الجيوسياسي للدول الأفريقية. ومن ثم، قام رئيس الوزراء الكيني بزيارة طهران، عام 1998م، وقام خاتمي بزيارة السودان، عام 2004م، أتبعها بجولة إفريقية واسعة، عام 2005م، شملت نيجيريا والسنغال ومالي وبنين وسيراليون وزيمبابوي وأوغندا؛ أدت إلى زيادة حجم التجارة غير النفطية مع القارة بنسبة 50%. ( )
المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي امتدت حتى عام 2011م، وشهدت صعود المحافظين إلى السلطة وتولي «محمود أحمدي نجاد» الرئاسة (2005 ـ 2011م) وانتهت بأحداث الربيع العربي واندلاع الحرب الأهلية بسوريا، كما تزامن معها إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 24 سبتمبر 2005م، عدم امتثال إيران لالتزاماتها الدولية، وتكثيف واشنطن مساعيها الدولية لتشديد العزلة عليها. تلتها سلسلة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بفرض عقوبات صارمة ألحقت ضررًا بالاقتصاد الإيراني، على نحو أفضى إلى تدهور شعبية النظام لأدنى مستوى له، عام 2009م، واندلاع الاحتجاجات الرافضة لنتائج الانتخابات التي منحت أحمدي نجاد ولاية رئاسية ثانية، على حساب منافسه الإصلاحي «مير حسين موسوي». ( )
وبالتالي لم يكن أمام طهران، في ظل هذا الوضع المتدهور، سوى إثبات قيمتها الاستراتيجية وقدرتها على زيادة التبادل التجاري والاقتصادي مع الدول الصديقة مثل جنوب أفريقيا وليبيا والسودان وبوروندي والكونغو والصومال وزيمبابوي وجمهورية أفريقيا الوسطى وساحل العاج. حيث كثفت أنشطتها طوال عهد أحمدي نجاد، في تنفيذ عدد من المشاريع الزراعية والرعاية الصحية والتدريب الفني وتقديم المساعدات وتكثيف الزيارات المتبادلة. كما سعت للحصول سرا على رواسب اليورانيوم لرنامجها النووي ( )
كما ركزت على تطوير علاقاتها بإريتريا؛ بهدف الحصول على منفذ بحري على سواحلها، فتبادلت تعيين السفراء غير المقيمين، عام 2007م، أعقبه إعلان البلدين تطابق وجهات نظرهما حيال القضايا الإقليمية والدولية. ثم اتخذت العلاقات بينهما بعدًا استراتيجيا، كشف رغبة إيران فيما هو أبعد من الخروج من عزلتها الدولية باختراق منطقة القرن الأفريقي، عبر التواصل مع أسمرة. الذي تأكد بوصول مدمرتين إيرانيتين لميناء عصب، في يناير 2009م، وحصولها على امتيازات عسكرية. وهو الأمر الذي أثار الشكوك حول نواياها بالقرن الأفريقي، خاصة في ظل وجود شبكة تهريب تابعة لها بأفريقيا تتولى نقل الأسلحة لحماس والجهاد بقطاع غزة ولأنصار الله الحوثي باليمن. وقد تأكدت هذه الشكوك فور ضبط السلطات النيجيرية شبكة تهريب قاذفات صواريخ وقنابل وقذائف مدفعية إيرانية على أراضيها في 2010م، في انتهاك للقرارات الأممية المتعلقة بحظر بيع ونقل الأسلحة الإيرانية( )
ويرى بعض المراقبين أن رئاسة أحمدي نجاد، تعد نقطة تحول في علاقات إيران الأفريقية، ومد نفوذها لما وراء الشرق الأوسط، عبر تفعيل استراتيجية «التعاون بين الجنوب والجنوب» مع دول جنوب الصحراء، من باب تقديم القروض الميسرة والمساهمة في إنشاء البنية التحتية واستضافة قمة «المنتدى الإيراني الأفريقي» في سبتمبر 2010م، بحضور40 دولة أفريقية، سعيًا لتقويض التكتل الدولي المضاد لها داخل أروقة الجمعية العامة ومجلس الأمن والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتحييد التهديدات بخلق تهديدات مضادة. التي شكلت، فيما بعد أساسًا لاستراتيجية المقاومة. وعلى الرغم من هذا، فشلت المساعي الإيرانية في تحقيق توقعاتها، خاصة بعد فرض الرئيس «باراك أوباما» (Barack Obama) عقوبات اقتصادية أخرى عليها. إضافة إلى الضغوط الإقليمية التي أدت في محصلتها إلى تراجع رغبة معظم الدول الأفريقية في توسيع العلاقات معها أكثر مما ينبغي، على نحو عكس عمق الفجوة بين ما كانت تتصوره إيران وبين الواقع الأفريقي. ( )
المرحلة الرابعة: التي امتدت حتى عام 2021م، وتزامنت مع أحداث الربيع العربي التي تعاملت معها إيران من منطلق انتهازي، فعقدت «المؤتمر الدولي الأول للصحوة الإسلامية» بطهران، في 17 سبتمبر 2011م، وزعم فيه «قاسم سليماني» قائد فيلق القدس أن الميزان الجيوستراتيجي بالشرق الأوسط يتغير بشكل لا يمكن إدراكه ولكنه يتجه نحو ترجيح كفة المصالح الإيرانية بعيدًا عن المصالح الأمريكية. وقال «اليوم، أصبح هناك عدد من الدول الإيرانية التي ولدت بالمنطقة، ومصر اليوم هي إيران ثانية». كما تزامنت أيضًا مع التدهور السريع للاقتصاد الإيراني، على نحو ألزم الرئيس «حسن روحاني» الذي جاء خلفا لأحمدي نجاد، عام 2013م، بتكثيف جهود التفاوض مع الأطراف الدولية الخمس (روسيا والصين والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا) حول البرنامج النووي حتى تم التوقيع على اتفاق 5+1، في يوليو 2015م، الذي رحبت به بعض الدول الأفريقية، بينما ظلت بعضها الآخر حذرة تجاه فتح صفحة جديدة من العلاقات مع إيران؛ مفضلة الاحتفاظ بعلاقات أقوى مع الولايات المتحدة والقوى الغربية وإسرائيل. بل انضم بعضها إلى التحالف الذي كونته السعودية، عام 2015م، لمحاربة الإرهاب وقتال جماعة أنصار الله الحوثية المتمردة باليمن واحتواء قوة إيران. ( )
وكانت السعودية قد بدأت مواجهة تنامي النفوذ الإيراني، عبر تقديم حوافز مالية؛ أغرت إريتريا بإنهاء شراكتها الاستراتيجية مع إيران، عام 2015م، والتحالف مع الرياض، والسماح لقوات التحالف العربي باستخدام ميناء عصب ومجالها الجوي ومياهها الإقليمية لشن هجمات ضد مقاتلي أنصار الله الحوثية. كما أعاد السودان اصطفافه بجوارها، على نحو جعل طهران تشعر بالمرارة تجاه أسمرة والخرطوم لأنهما أصبحتا شركاء غير موثوق بهما وتبيعان ولاءهما لمن يدفع أكثر. ( )
كما شهدت هذه المرحلة أيضًا انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، في 8 مايو 2018م، وإصدار الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» (Donald Trump) أمرًا بإعادة العمل بالعقوبات المرتبطة ببرنامج إيران النووي وفرض العقوبات القصوى عليها، عام 2019م ( ) والتي فاقمت الأزمة الاقتصادية، حتى اندلاع الاحتجاجات الشعبية الواسعة اعتراضًا على التدابير الاقتصادية التي اتخذتها طهران ورفع سعر البنزين، في 15 نوفمبر 2019م وتزايد الانتقادات الموجهة للنظام بعدم ترتيب أولوياته الاقتصادية بين واجبات الداخل وضرورات الخارج، وإسرافه في دعم محور المقاومة. ( )
وقد شملت العقوبات الأمريكية الجديدة أكبر مؤسسات إيران الاقتصادية الداعمة والممولة للجماعات الإرهابية، مثل: البنك المركزي والمؤسسة التعاونية، وهيئة تنمية وتطوير المناجم، والبتروكيماويات والطاقة، والشحن والطيران المدني، وصناعة السيارات. كما شملت الحرس الثوري، الذي يستحوذ على جزء كبير من الأصول الحكومية من مصانع شركات اقتصادية كبيرة. ناهيك عن استهداف أهم قادتها وعلمائها، وتعرض بعض منشآتها الاستراتيجية لعمليات مؤثرة نالت من أمنها الداخلي وهيبتها الإقليمية، بدءًا من اغتيال قائد فيلق القدس «قاسم سليماني» في يناير 2020م، وتفجير منشأة «بارچين» العسكرية في نهاية يونيو، أعقبه انفجار آخر، في يوليو، دمر جانبًا مهمًا من منشأة «نطنز» النووية. وصولاً لاغتيال كبير مهندسي البرنامج النووي «محسن فخري زاده» يوم 27 نوفمبر من نفس العام. إلى جانب العمليات التي استهدفت مناطق تمركز عناصر الحرس الثوري والجماعات المسلحة التابعة لها داخل الأراضي العراقية والسورية. ( )
المرحلة الراهنة: وهي التي بدأت عشية فوز «إبراهيم رئيسي» برئاسة الجمهورية، في 19 يوليو 2021م، خلفا لـ «حسن روحاني» الذي لم يزر أفريقيا مطلقا، وإعادة هيكلة علاقات إيران الخارجية، على نحو يحقق أهداف إيران الخارجية. ولهذا أسندت وزارة الخارجية لـ «أمير حسين عبد اللهيان» الوثيق الصلة بالحرس الثوري والخبير بالشئون الأفريقية، بحكم أنه كان مديرًا للإدارة العربية والإفريقية بالخارجية التي أسسها «محمد جواد ظريف» في مايو 2015م، كي يتولى تحسين علاقات إيران الخارجية وإعادة التوازن لتفاعلاتها الدولية وتوسيع دائرة عمقها الاستراتيجي إلى القارة الأفريقية. بالتوازي مع مواصلة جهود إحياء المفاوضات المتعلقة بخطة العمل الشاملة المشتركة. ( )
ويعتقد بعض المراقبين أن «رئيسي» مؤمن بضرورة العمل على تحييد العقوبات الدولية بدلاً من محاولة إلغائها، عبر تنمية علاقات إيران الأسيوية والأفريقية. وصرح بأن إيران سوف تفعّل كل قدراتها وإمكاناتها لتطوير علاقاتها الأفريقية، وإحياء سياسة أحمدي نجاد تجاه أفريقيا وتحقيق نتائج تتجاوز بها إيران العقوبات المفروضة عليها بتداعياتها الخطيرة، استغلالاً للمتغيرات الدولية المتسارعة، التي جعلت العالم لم يعد حكرا على الغرب وحده، ولن يكن كذلك في المستقبل. ويؤمن رئيسي بأن توجه إيران الجيوسياسي نحو الشرق وتعزيز علاقاتها الآسيوية خاصة مع روسيا والصين والهند هو الوسيلة الأنجع للتخلص من وطأة الضغوط الغربية وأن أفريقيا جزء من هذا التوجه لتحقيق الأهداف الاستراتيجية والاقتصادية والأيديولوجية والأمنية، ومد دائرة عمق إيران الاستراتيجي إلى أفريقيا ومواجهة خصومها ومنافسيها. ( )
ومن ثم، قام رئيسي في 11 يوليو 2023م، بأول زيارة لرئيس إيراني إلى أفريقيا، منذ أحد عشر عاما، شملت كينيا وأوغندا وزيمبابوي، رافقه فيها وفد اقتصادي كبير ضم رجال أعمال ومستثمرين، لفتح مسارات تخفف من عزلة إيران الدولية وتحد من وطأة العقوبات الاقتصادية، بقدر ما تعزز الوجود الإيراني بالاقتصاد الأفريقي، الذي يبلغ حجمه قرابة 600 مليار دولا ( ) وقد أسفرت هذه الزيارة عن توقيع إحدى وعشرين اتفاقية تعاون مع الدول الثلاث، تتعلق بالإعفاءات الجمركية للصادرات الإيرانية من المنتجات البتروكيماوية، واستيراد اللحوم الحمراء من كينيا، والحصول لأول مرة على مساحات زراعية واسعة في كمبالا بأوغندا.( )
وأشارت تصريحات رئيسي، التي سبق وأدلى بها في أغسطس 2021م، إلى عزم إيران تحقيق أهدافها المختلفة، واستكشاف طرق لنقل مجابهة المنافسين والخصوم إلى الساحة الأفريقية. مؤكدًا أن «طهران سوف تسعى إلى تطوير علاقاتها بشكل شامل مع الدول الأفريقية» وأنها سوف تكون «شريكًا حقيقيًا لها وسوف تنتهج سياسة المصالح المشتركة مع دولها» ناهيك عن أنه انتقد القوى الغربية «لسعيها بالأساس لتنمية مواردها الذاتية، في وقت لم تسهم في تنمية القارة الأفريقية إلا بالنذر اليسير». ( )
وفي هذا الإطار، عقدت طهران ورشة عمل بعنوان «تنمية التعاون الاقتصادي بين إيران وأفريقيا» في سبتمبر 2022م، لبحث فرص ومجالات تنمية العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول القار. ثم توجه بعدها «أمير عبد اللهيان» لزيارة مالي وتنزانيا، وسط مؤشرات تفيد بزيادة حجم التبادل التجاري مع الدول الأفريقية، مقارنة بالعام السابق، والتي ارتفعت، بحسب تصريحات المتحدث باسم الخارجية «ناصر كنعاني» من 600 مليون دولار إلى حوالي 1.3 مليار دولار، ليؤكد أن ثمة توجيهات لدفع سفارات إيران بأفريقيا نحو مزيد من الدينامية لتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية في المستقبل. ( )
وكانت الإحصاءات الرسمية الإيرانية قد أشارت لانخفاض صادرات إيران غير النفطية إلى أفريقيا، فيما بين عامي 2019 و2020، بنسبة 25%، من 640 مليون دولار، في عام 2019م، إلى 478 مليون، في عام 2020م، بينما ظلت قيمة وارداتها من أفريقيا مستقرة نسبيًا ما بين 100 مليون و91 مليون دولار على التوالي. وهي أرقام ضئيلة مقارنة بالدول المنافسة لإيران، وتشير أيضا إلى أن ثمة أسباب منطقية تقف وراء إخفاق المساعي التي بذلتها طهران على مدى العقود الماضية لتعزيز علاقاتها بالدول الأفريقية ( )
عوامل الإخفاق الأساسية:
تميزت علاقات إيران الأفريقية، طيلة العقود الأربع الماضية، بعدم الثبات تارة، والسلبية تارة أخرى، وبالتالي لم تتحصل منها على أي مكاسب سياسية أو اقتصادية مستمرة؛ وربما يعود ذلك للعوامل التالية:
1. افتقار إيران لرؤية استراتيجية واضحة تجاه أفريقيا، مقارنة بتركيا والصين وإسرائيل، واقتصارها على مجرد رؤية مرحلية قصيرة المدى ومتغيرة، كانت تتغير وفقا لطبيعة انتماء صانع القرار في طهران.
2. تغول أجهزة الأمن والحرس الثوري على صنع السياسات المتعلقة بأفريقيا، وقيامها بأنشطة سرية دون تنسيق بينها وبين وزارة الخارجية على نحو أوقع الدبلوماسسين في حرج دولي، كما تسبب في خلق تحديات كثيرة أمام علاقات إيران مع كثير من الدول الأفريقية.
3. أن عملية صنع القرارات المتعلقة بسياسات إيران الخارجية ليست من اختصاص رئاسة الجمهورية، بقدر ما أنها خاضعة لسلطة للمرشد الأعلى للثورة، والجهات السيادية ولجماعات الضغط. وبالتالي فإن سياسة إيران تجاه أفريقيا تدخل ضمن اختصاص الحرس الثوري والأجهزة الأمنية، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، ومنظمة الدعوة الإسلامية، ومنظمة الثقافة والاتصال، والمجمع العالمي لآل البيت ولجنة الإمام الخميني للإغاثة وجمعية الهلال الأحمر والمراكز والملحقيات الثقافية الإيرانية ( )
4. هيمنة البيروقراطية على بنية النظام السياسي، على نحو أعاق أي تقدم يمكن إحرازه في علاقات إيران الأفريقية، فإذا وقع وزير الخارجية اتفاقية مثلاً، فإنها غالبًا لا تدخل حيز التنفيذ إما بسبب كثرة الإجراءات الروتينية، أو عدم القدرة على الوفاء بما ورد بها. ( )
5. العقوبات الأمريكية والأممية المتتابعة، وانتشار فيروس كورونا، وإدرجها على القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF) Financial Action Task Force منذ فبراير 2020م، بسبب عدم تصديقها على القوانين المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، والتي حرمتها من المعاملات الدولية، ومن ثم عدم تحمس الدول الصديقة للتبادل التجاري معها، لأن أحد تلك القوانين يتعلق بغسيل الأموال، وهذا ما جعل التعاون معها مجازفة غير محمودة العواقب.( )
6. تأثر علاقات إيران ومصالحها بطبيعة علاقات أفريقيا بالولايات المتحدة والقوى الدولية والإقليمية المنافسة التي ترى في وجود إيران على الساحة الأفريقية تهديدًا لمصالحها. ولذا انتكست علاقاتها مع كل من نيجيريا والسنغال وزامبيا وإريتريا والصومال والسودان، وغيرها كما سترد الإشارة لاحقا.
7. عدم جاذبية سياسات إيران الاقتصادية تجاه الدول الأفريقية وعدم قدرتها على منافسة الصين والهند وتركيا وإسرائيل والسعودية وقطر والإمارات، لسببين:
أ- عزوف رجال الأعمال والمستثمرين الإيرانيين عن الاستثمار بالدول الأفريقية؛ بسبب عدم وجود خطط ودراسات واضحة تحدد الفرص وتوضح المخاطر. إضافة إلى ارتفاع المخاطر وعدم ضمان الحكومة التأمين على استثماراتهم، وبعد المسافة، وعدم وجود رحلات جوية مباشرة.
ب- نقص الدراسات والبحوث المتعلقة بالجوانب السياسية والاقتصادية التي تعين صانع ومتخذ القرار على فهم طبيعة الأوضاع بالدول الأفريقية. ( )
محددات علاقات إيران تجاه القرن الأفريقي وشرق أفريقيا
تدرك إيران أن التفوق الذي حققته القوى المنافسة بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا قلص نفوذها بهذه الدائرة الحيوية وخلق لها تحديات جيوسياسية على نحو يدعوها لتبني استراتيجية فاعلة لإعادة بناء هذا النفوذ، ومن ثم ربطه بعمقها الاستراتيجي في غرب آسيا، حتى تتمكن من مجابهة هذه التحديات، واستعادة التوازن مع تلك القوى، وتحقيق تفوق يرد لخصومها التحديات بالمثل. ناهيك عن الاستفادة من المزايا الاقتصادية لمنطقة القرن الأفريقي. ( )
التحديات الجيوسياسية:
تحولت منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا إلى ساحة منافسة بين القوى الدولية الفاعلة، على رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند وفرنسا، وإلى جزء من بعض المبادرات الدولية مثل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية و«ممر التنمية الآسيوأفريقي» الذي أطلقته الهند واليابان؛ لمواجهة تصاعد النفوذ الصيني. كما أصبحت ساحة لتنافس القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا وإسرائيل وقطر والإمارات والسعودية، التي نجحت في تعزيز نفوذها والسيطرة على الموانئ البحرية، وإيجاد نقطة ارتكاز عسكري لها باستخدام ورقة الاستثمارات، التي تتزايد حاجة دول هذه المنطقة إليها، قدر احتياجها لتطوير موانئها وتحسين قدراتها على ضمان استمرارية سلاسل التوريد، في ظل الزيادة السكانية المضطردة، واتساع الطبقة الاستهلاكية وزيادة الطلب على السلع المستوردة. ( )
وتدرك إيران أن التنافس الدولي والإقليمي للسيطرة الاستراتيجية على منطقة القرن الأفريقي، أدى إلى لوجود ست عشرة قاعدة عسكرية بأربع دول فقط بهذه المنطقة. منها ست قواعد بجيبوتي وحدها لكل من فرنسا وايطاليا والولايات المتحدة واليابان والصين وألمانيا وإسبانيا، إضافة إلى قاعدة سعودية. وثلاث قواعد بإريتريا لكل من روسيا والإمارات وإسرائيل. ثلاث أخرى بالصومال لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا، إضافة إلى مركز تدريب عسكري لتركيا. بينما تمتلك الإمارات قاعدة بإقليم صومالي لاند المنفصل عن الحكومة الفيدرالية. ناهيك عن وجود قاعدتين للولايات المتحدة وبريطانيا على الأراضي الكينية. ( )
وأن هذا التنافس دفع السعودية والإمارات وقطر وتركيا لضخ استثمارات ضخمة بشرايين الاقتصاد الإثيوبي، مثلاً، وتنازلت عن جزء من ديونها، وساندت الإمارات قواتها المركزية ضد مقاتلي إقليم «تجراي» على نحو عزز مكانة رئيس الوزراء «آبي أحمد» الداخلية، وهيأ في ذات الوقت المجال للتأثير عليه. كما أنشأت السعودية قاعدة عسكرية بها نفذت من خلاله العديد من الهجمات الصاروخية ضد مقاتلي أنصار الله. بينما تواصل إسرائيل تحركاتها للاستيلاء على الممرات المائية المجاورة لمنطقة القرن الأفريقي واتخاذ البحر الأحمر محورًا لتنفيذ استراتيجيتها الرامية إلى تفكيك الهيمنة العربية على باب المندب، وتعزيز علاقاتها بالدول المطلة على سواحله، وإحباط أي مساعي إيرانية لتعزيز نفوذها بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. ( )
وأن من بين التحديات التي تجابه مساعيها لإعادة بناء نفوذها بهذه المنطقة أنها من أكثر مناطق القارة اضطرابًا وتوترًا وعرضة للتقلبات السياسية والصراعات المسلحة والمخاطر الجيوسياسية المستمرة؛ الناجمة عن حساسية موقعها وطبيعتها الجغرافية وخلافاتها الحدودية ومكوناتها الداخلية المعقدة وهياكلها السياسية الضعيفة وأزماتها الاقتصادية المتفاقمة، التي حولتها إلى بيئة مواتية للقرصنة البحرية وانتشار الجماعات المتطرفة وعصابات تهريب الأسلحة والمخدرات، بل ومصدر تهديد لمنافذ الملاحة بجنوب للبحر الأحمر المتصلة بدورها بالخليج العربي. الأمر الذي دفع جميع القوى المتنافسة للاهتمام بتأمين هذه المنافذ بشتى السبل. فضلاً عن الاقتراب من مناطق إنتاج الهيدروكربونات واحتواء صعود الصين؛ بوصفها القوة الوحيدة القادرة على مقاسمة الولايات المتحدة نفوذها بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. ( ) خاصة أنها أقامت، عام 2018م، لأول مرة في تاريخها قاعدة عسكرية في جيبوتي، في إطار جهود مكافحة الجماعات المتطرفة وعمليات القرصنة البحرية. ( )
ومن جانبها، ترى إيران أن استهداف القراصنة المتكرر لناقلاتها النفطية يعد من بين التحديات التي تواجه تحركاتها بهذه المنطقة، والتي وقع آخرها بخليج عدن في صيف 2021م، إضافة لاقتراب زوارق صغيرة مجهولة الهوية بأطقم مسلحة بشكل غير آمن من سفينتين تجاريتين تابعتين لها عند مضيق باب المندب، في خريف 2022م، وعلى الرغم من ذلك يرى خصومها بالولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل أن مساعيها الرامية لتأطير وجودها البحري بالمنطقة ضمن مساعي مكافحة القرصنة، مجرد ذريعة منها للحفاظ على وجودها التكتيكي بالقرب من البنى التحتية التجارية بمياه البحر الأحمر وخليج عدن؛ ولتقدم الدعم العسكري لمقاتلي أنصار الله، بوصفهم وكيلاً يحقق لها أهدافها الجيوسياسية. بدليل أنها نقلت لهم الأسلحة ومعدات القتال؛ انتهاكًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216، إلى جانب إدارتها لشبكات تهريب محترفة تعمل بالمناطق البحرية المحصورة بين مضيقي هرمز وباب المندب. وأن دوريات مكافحة التهريب التي تجوب بحر العرب، قدمت أدلة واضحة على تورطها في تهريب أسلحة ومساعدات قتالية للحوثيين، وأكدت أن معظم القوارب التي تم اعتراضها كانت مجهزة بأجهزة GPS ومبرمجة بإحداثيات إيرانية، وضبطت مبحرة على طريق بحري يمني ـ إيراني معروف تاريخيًا بأنه يستخدم في تهريب البضائع والسلع. ( )
وبناء عليه، يرى كثير من المراقبين أنه إذا أرادت إيران مجابهة كل هذه التحديات وزيادة وزنها النسبي بهذه المنطقة، وخلق توازن مع القوى المنافسة، والتحرك باتجاه تحقيق التفوق الجيوسياسي عليها، وخلق تحديات أمام خصومها، بعيدًا عن حدودها البرية وسواحلها البحرية. فعليها أن تنطلق أولاً من نقطة تحسين علاقاتها المتدهورة مع معظم دول القرن الأفريقي، منذ اندلاع الصراع باليمن، عام 2015م، على نحو أدى إلى تقلص دورها بهذه المنطقة. على الرغم من تواجدها النشط بالمساحات البحرية القريبة من خليج عدن. بينما نجحت السعودية والإمارات وإسرائيل وتركيا والصين في السيطرة على بعض موانئ البحر الأحمر والجزر المؤدية إلى مضيق باب المندب، ولا تزال تواصل مساعيها لتوسيع نفوذها بشرق أفريقيا وخلق نفوذ استراتيجي يضاهي ما سبق أن حققته كل من فرنسا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة. ( )
كما يتعين عليها أن تضع في حسبانها حال تحركها لتحقيق أهدافها، أن بها ثلاثة محاور فاعلة تجمعها مصالح اقتصادية وأهداف أمنية وعسكرية، بقدر ما تشغلها قضايا ذات اهتمام مشترك. أهمها العمل على حماية التدفق الحر لحركة التجارة، ومحاربة القرصنة البحرية، ومنع انتشار الجماعات الإرهابية، وتحويل بعض الجزر لمناطق تجارة حرة. المحور الأول، وهو الأقدم والأكثر تأثيرًا والأطول سواحلاً على البحر الأحمر، ويضم السعودية ومصر واليمن، ثم الإمارات، التي انضمت إليه عشيه اندلاع الصراع باليمن. والمحور الثاني فيتمتع بثاني أطول سواحل على البحر الأحمر ويضم الصومال الذي يستضيف قاعدة تركية، والسودان الذي سبق وأجر مينائي سواكن وبور سودان لتركيا وقطر. أما المحور الثالث فيضم الولايات المتحدة وثماني دول بالاتحاد الأوروبي (ألمانيا وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا واليونان وهولندا، وبريطانيا والسويد) وقاعدته الرئيسة في جيبوتي وجزيرة حنيش اليمنية. ( )
وعلى الرغم من ذلك يرى بعض المراقبين أن التحدي الحقيقي الذي يجابه إيران بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا لا يكمن في استمرار عمليات القرصنة البحرية، على الرغم من تضاؤلها، أو في تدهور علاقاتها مع دولها، أو قوة تأثير منافسيها. بقدر ما تكمن في غياب استراتيجية أو خطة إيرانية محددة الأهداف تتعلق بتحركاتها الأفريقية. فلاتزال مكبلة بالعقوبات الاقتصادية ومتغيرات البيئة الخارجية، ومساعيها لتأمين نقطة ارتكاز لها بمنطقة القرن الأفريقي مقيدة، على الرغم من اتصالاتها الخاصة مع بعض القوى والجماعات المحلية الفاعلة، وخبرتها الوافية بديناميات التعامل مع حكوماتها ( )
ضراوة المنافسة الإقليمية:
تدرك إيران أن خصومها بمنطقة الشرق الأوسط هم خصومها بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وفي مقدمتهم إسرائيل والسعودية والإمارات، وأنهم اتخذوا من علاقاتهم بدول هذه المنطقة غطاءً أمنيًا واستراتيجيًا لمناوئة تحركاتها وتهديد مصالحها وإفشال أهدافها. وتأتي الولايات المتحدة في مقدمتهم، التي تضع إريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان ضمن القوة الرادعة للاتجاهات الإسلاموية بالمنطقة المقابلة لمضيق باب المندب الموصولة بدول حوض النيل. ( ) والواصلة بين شمال العالم وجنوبه، وبين شرقه وغربه. لتعزز سطوتها على المنافذ البحرية ومخزونات النفط، ومواجهة النفوذ الصيني، ومكافحة القرصنة البحرية ومحاربة الجماعات الإرهابية، التي فجرت سفارتيها بنيروبي ودار السلام، في 7 أغسطس 1998م، وقتل لها اثني عشر مواطنًا، ضمن 224 قتيلا، ومئات الجرحى من مواطني كينيا وتنزانيا. ولهذا أقامت قاعدة عسكرية بجيبوتي، وأسست قوة مشتركة مع جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وتنزانيا وأوغندا، في 19 اكتوبر 2002م، لمكافحة حركة شباب المجاهدين الصومالية المسلحة وتنظيم القاعدة باليمن. كما أنشأت قاعدتين بكينيا، إحداها بميناء «مومبسا» والأخرى بمنطقة «نابلوك» إضافة لقاعدة أخرى بمنطقة «أوروبا مینش» الإثيوبية للاستطلاع وإطلاق المسيرات، عام 2011م ( )
أما إسرائيل فلها استراتيجية واضحة تجاه القرن الأفريقي، يبدو أنها تمثل نموذجا تسعى كل من إيران والإمارات للاقتداء به. خاصة أنها تقوم على دينامية التفوق الجيوسياسي الذي يحمي أمنها القومي، ويحبط أي تحرك قد يعوق أهدافها أو يهدد مصالحها بهذه المنطقة، من خلال:
1. مراقبة مضيق باب المندب، بوصفه المنفذ الحيوي لتحركاتها نحو أفريقيا وآسيا وتأمين مصالحها الأمنية والاستخباراتية ومنع الدول العربية من فرض حصار عليها، مثلما حدث خلال حربي 1967 و1973م، ولهذا عقدت اتفاقيات تعاون مع إريتريا، أنشأت بموجبها قاعدة عسكرية لمراقبة الملاحة بباب المندب ومراقبة الأنشطة العربية والإيرانية بالبحر الأحمر. ( )
2. الاقتراب من هرم السلطة بدول القرن الأفريقي، وتشكيل تحالفات سياسية تقلل من تأثير الدول العربية وإيران على هذه الدول، فضلاً عن محاولة التسلل لمنظمة الوحدة الأفريقية للتمتع بأوسع تأييد إفريقي لها بالمحافل الدولية، وإضعاف أي مساندة للقضايا العربية. غير أن الجزائر وجنوب أفريقيا ونيجيريا نجحت في وقف هذا التسلل، حتى أن الاتحاد الأفريقي علق الموافقة على انضمامها 2023م. ( )
3. بيع الأسلحة ومعدات القتال وتقنيات الاستطلاع، ومحطات الإنذار والمراقبة، وتقديم خبراتها في مجال العمليات الأمنية ومكافحة الإرهاب، وتدريب الحراسات الرئاسية والوحدات الخاصة الأفريقية على التعامل مع التحديات والتهديدات الأمنية ومكافحة التجسس والسيطرة على الانتفاضات الشعبية. ( )
4. مواجهة مشكلة نقص المياه العذبة بالحصول على حصة من نهر النيل، بتوظيف علاقاتها المتميزة مع كل من كينيا وأوغندا وإثيوبيا وروندا في الضغط على مصر والسودان للحصول على هذه الحصة. ولهذا وقعت اتفاقية للمياه مع هذه الدول، عام 2009م، للحصول على كمية ثابتة من مياه النيل. وفي المقابل، وفرت لإثيوبيا الدعم المالي والفني لبناء السدود على منابع النهر وهو الشريان الحيوي لمصر والسودان، وساندت انفصال جنوب السودان بالتخطيط والدعم العسكري. إضافة إلى أنها لم تكف يوما عن محاولة إشعال حرب بين دول حوض النيل حول المياه. ( )
5. السيطرة على الأنشطة التجارية والاقتصادية والزراعية بالقرب من مصادر المياه العذبة، ومنها بحيرة فيكتوريا، عبر شركاتها التي تتحكم في جانب كبير من اقتصادات كينيا وأوغندا وإثيوبيا مثل شركة «سوليل بونيه» المتخصصة في شق الطرق وتشييد الجسور والمطارات والموانئ البحرية والاستثمار العقاري. وشركة «جريد أب» للتنمية الزراعية «كور» لإنتاج الإلكترونيات وشركة «موتورولا» لمد شبكات الكهرباء والمياه وشركة «كارميل» للصناعات الكيماوية. ( ) والتي نفذت جميعها مشاريع كثيرة في إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي ورواندا وكينيا وأوغندا وأسست شركات للطيران والنقل البحري والتنقيب عن المعادن، وغيرها. ( )
وبالتالي، تدرك إيران أن إسرائيل لديها خططا لإحباط تحركاتها وتهديد مصالحها بالمناطق القريبة منها، ولها أهدافًا خطيرة يتعين على إيران مواجهتها، منها: السيطرة على موارد النفط والغاز والمعادن الاستراتيجية والثروة الحيوانية والأراضي الخصبة بجنوب السودان، وكبح نفوذها ومنع انتشار التشيع بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، ناهيك عن إنشاء محطة استخبارات. ( ) لتتبع تحركاتها الرامية لتعزيز وجودها بهذه المنطقة، ومحاولة السيطرة على الجزر المهمة بالبحر الأحمر وخليج عدن. نظرًا لأن إيران تشكل تهددًا خطيرًا لأمنها القومي، على نحو لا يقل عن تهديد محور المقاومة لها بمنطقة غرب آسيا. خاصة أن المتغيرات التي أخذت تشهدها منطقة الشرق الأوسط، منذ عام 2011م، خلقت لإيران فرصًا جديدة قد تساعدها على تحويل أفريقيا إلى ساحة مواجهة معها، وجعل منطقة البحر الأحمر هدف رئيس في المنافسة الاستراتيجية معها ( )
غير أن إسرائيل تفوقت على إيران في هذه المنافسة طول العقود الماضية، وقضت على كل نجاح حققته بالقرن الأفريقي، خاصة أنها حولت جنوب السودان لفناء خلفي لكبح تحركاتها، ونشرت فرقًا بحرية صغيرة في أرخبيل دهلك وميناء مصوع بإريتريا لمراقبة تحركات سفنها بخليج عدن، وأقامت محطة تنصت لنفس الغرض في «أمباسفيرا». وعلى الرغم من أن إريتريا سبق وعززت علاقاتها بإيران ودافعت عن برنامجها النووي ومنحتها منفذا بحريا بمينائي مصوع وعصب، عام 2007م، للمشاركة في عمليات مكافحة القرصنة. إلا أن إسرائيل لم تكف يوما عن اتهام إيران باستخدام ميناء عصب لنقل الأسلحة إلى حركة حماس بقطاع غزة والحوثيين باليمن. بل استهدفت قافلة محملة بأسلحة إيرانية كانت متجهة إلى غزة، في نوفمبر 2009م، داخل الأراضي السودانية، وقتل عناصر الحرس الثوري التي كانت تقودها. ومن ناحية أخرى لم تؤد الضغوط الدولية والمغريات الإقليمية إلى أن تكتفي إريتريا بسحب أي امتيازات عسكرية أو أمنية سبق وقدمتها لإيران، أو يمكن أن تستغلها في نقل الأسلحة لمقاتلي أنصار الله الحوثية، بل إنها قطعت علاقاتها مع طهران عام 2015م، وانضمت للتحالف العربي بقيادة الرياض خصمها الإقليمي والأيديولوجي. ( )
وكانت الرياض، تراقب بانزعاج شديد التعاون الاستراتيجي المتنامي بين إيران وإريتريا، وتزايد وجودها البحري بخليج عدن، وقيامها بنقل الأسلحة من إريتريا إلى الحوثيين لدعم موقفهم ضد الحكومة الشرعية. ولكن عندما أرسلت مدمرتين لميناء عصب بحجة محاربة القرصنة في يناير 2009م، اعتبرت الرياض وجود هذه القطع البحرية بخليج عدن بمثابة تهديد لها. خاصة أنها ربطت بين مغزى وجود هذه القطع وبين القطع الأخرى الراسية بميناء عصب، بأنه لتمكين الحرس الثوري من تهريب الأسلحة لمقاتلي أنصار الله في صعدة الواقعة بالقرب من حدودها. لهذا أرسلت الرياض قطعًا بحرية لمراقبة السواحل الشمالية اليمنية. ( )
وعندما تم القضاء على الجماعات المسلحة بسوريا والعراق، وتأكد لإيران اكتمال انتصار الجماعات الشيعية الموالية لها، بإجبار جماعة أنصار الله «عبد ربه منصور هادي» على الاستقالة. شعرت السعودية بنوع من الهزيمة حتم عليها تدارك أبعادها، فشنت الحرب ضد أنصار الله، عام 2015م، وجعلت مسألة تطويق النفوذ الإيراني بمنطقة القرن الأفريقي هدفًا استراتيجيًا لها. ( ) وعينت وزير دولة للشؤون الأفريقية، وضخت استثمارات كبيرة بدول المنطقة، وأدرجت القضايا الثقافية والدينية ذات القراءة السلفية على أجندة تحركاتها المناوئة لإيران. كذلك توسعت الإمارات في إنشاء وتأجير وإدارة الموانئ وتعزيز التجارة غير النفطية بينها وبين هذه الدول. الأمر الذي أدى إلى تقلص دور إيران بمنطقة القرن الأفريقي فعلاً. ( )
ولقد أوجد الصراع الجيوسياسي باليمن فرصة للقوى الإقليمية المنافسة لإيران أن تمارس نفوذها السياسي والاقتصادي للتأثير على علاقة إيران بدول القرن الأفريقي، مقابل تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية التي هي في أمس الحاجة إليه، فأعلنت جيبوتي هي الأخرى دعمها للسعودية وفتح أجوائها أمام عمليات التحالف العربي في اليمن. وما لبثت أن قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران تضامنا مع السعودية، بعد أن أمهلت البعثة الدبلوماسية الإيرانية 48 ساعة لمغادرة البلاد، على خلفية اقتحام السفارة السعودية بطهران، عام 2016م، لتخسر إيران منفذًا بحريًا آخر بالقرن الأفريقي. بينما أخذت علاقات جيبوتي بالسعودية تشهد تعاوناً مثمرا، كما وقع البلدان اتفاقية أمنية تتعلق بتأمين الملاحة بمضيق باب المندب ومنع عمليات التهريب باتجاه الأراضي اليمنية عبر إنشاء قاعدة بحرية سعودية. ( )
كما انتكست العلاقات السودانية الإيرانية، بعد أن كانت قد بلغت مستوى عال من التعاون، لدرجة أنها أرسلت قطعا بحرية إلى ميناء بور سودان، بعد أسبوع من القصف الجوي الذي تعرض له مجمع اليرموك للصناعات العسكرية بالخرطوم، في 23 أكتوبر 2012م، للتأكيد على أنها لن تسمح بتحويل السودان إلى منطقة غير آمنة، وأنها سوف تشارك في مواجهة القراصنة وتأمين البحر الأحمر.( ) حيث قضت بإغلاق الملحقية الثقافية الإيرانية بالخرطوم والمراكز التابعة لها، وطرد الملحق الثقافي والعاملين بالملحقية، في سبتمبر 2012م، ثم قطعت علاقاتها بطهران، عشية اقتحام السفارة السعودية، وانكشاف حقيقة نقل الحرس الثوري أسلحة ومعدات قتال لمقاتلي جماعة أنصار الله الحوثية، وتمويل الجماعات الإرهابية والتخطيط لمهاجمة المصالح والسفارات الأجنبية العاملة في السودان وكينيا وجنوب السودان وتنزانيا وموزمبيق.( )
وتدهورت علاقاتها مع الصومال، بعد اعتقال عنصرين إيرانيين مرتبطين بجماعة «أنصار الخميني» عام 2015م، ومع كينيا، عام 2016، عشية اعتقال سلطاتها إيرانيين كانوا يجمعون معلومات لاستهداف السفارات الأجنبية بعدد من الدول الأفريقية المجاورة. ولكنها ظلت شريكًا تجاريًا مهمًا لها، تشجع الاستثمارات في البنية التحتية الكينية وإنتاج النفط. ومن ثم لم تفرض قيودًا على دعم إيران للشيعة وتمويل وبناء المدارس لهم، ونشر اللغة الفارسية، وتقديم المنح الدراسية للطلبة الكينيين، كما لم تحظر تمويل شبكة تلفزيون «المهدي» التي تم إنشاؤها، عام 2018م، لبث برامجها المذهبية إلى شرق أفريقيا. ( )
كما تدهورت علاقاتها بأديس أبابا، على الرغم من أنها زودتها بالأسلحة بما فيها المسيرات لقصف إقليم «تيجراي» فور اكتشاف سلطاتها خلية إيرانية على أراضيها، عام 2021م، بحوزتها أسلحة ومتفجرات، كانت تخطط لمهاجمة المصالح الإماراتية في إثيوبيا والسودان. ( ) كذلك ساءت علاقاتها بكل من أوغندا وتنزانيا؛ عقب ضبط السلطات الأوغندية، بالتعاون مع الموساد، أحد عناصر حزب الله اللبناني، في 23 يوليو 2019م، كان مكلفًا بتحديد أهداف إسرائيلية وأمريكية، وتجنيد عملاء محليين وإرسالهم كعملاء إيرانيين إلى مكة لأداء فريضة الحج. وإعلان السلطات التنزانية، في نوفمبر 2022م، اعتقال ضابط إيراني تابع لوزارة الاستخبارات الإيرانية، يُدعى «حميد رضا محمد آبراهه» واسمه الحركي «حميد سالاري» واعترافه بالتسلل إلى البلاد عبر نافذة التعاون الاقتصادي، بهدف تجنيد العملاء وإنشاء محطة استخبارات إيرانية بدار السلام، بالاستعانة بقومية البلوش الأفارقة، وتنفيذ عمليات اغتيال واختطاف بحق مواطنين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل وأذربيجان في أنحاء أفريقيا. ( )
وهكذا، اتضح لإيران أن مساعيها لبناء شراكات مع دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، مجرد التقاء مصالح مؤقت وليس تحالفًا استراتيجيًا لديه القدرة على مجابهة التحديات؛ بدليل أنها طُردت من السواحل الجنوبية الغربية للبحر الأحمر، على نحو جعل ميزان القوى يميل لصالح المحور المناوئ لها، والذي أطلق بدوره مبادرة «منتدى دول البحر الأحمر» في يناير 2020م، لتسهيل عمليات التعاون الأمني بين الدول المطلة على سواحله، باستثناء إسرائيل. ( )
وعلى الرغم من ذلك، سرعان ما تمكنت إيران من مواجهة هذه الانتكاسات السياسية والاستراتيجية، عندما نجحت في استخدام مقاتلي أنصار الله الحوثية للحصول على نقطة ارتكاز استراتيجية بديلة على السواحل الجنوبية الشرقية للبحر الأحمر، بل وأصبحت القوة الأجنبية الوحيدة التي لها ارتكاز استراتيجي على السواحل اليمنية، ولديها القدرة على تعطيل الملاحة بمضيق باب المندب عند اللزوم. خاصة بعد سيطرة أنصار الله على ميناء «الحُديدة» وتحويله لميناء رئيس لإيران على البحر الأحمر ونقطة مراقبة لتحركات أساطيل الدول الأخرى بميناء «مصوع» وأرخبيل «دهلك» في إريتريا. ( )
الأهداف الإيرانية بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا
على الرغم من أنه ليس من السهل أن تجد إيران نقطة ارتكاز استراتيجي لها بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا، إلا أن تحركاتها الأخيرة تؤكد أن هذه المنطقة أصبحت أحد أهدافها الاستراتيجية التي تحشد لها كل الجهود في مسارات متكاملة. فالدبلوماسية النشطة تسلك مسار تحسين علاقات إيران الأفريقية إلى جانب تفعيل أدوات القوى الناعمة التي تضطلع بها المراكز الثقافية والمنظمات والمؤسسات المعنية بإدارة هياكل البنية الشيعية من مساجد وحسينيات ومدارس وجمعيات خيرية وغيرها، لتحقيق أهدافها الأيديولوجية بنشر المذهب الشيعي بين الأوساط السنية، وتكوين قواعد جماهيرية معبأة طائفيًا مؤمنة بقيم الثورة الإسلامية ومبادئها. بينما يتكفل فيلق القدس، بالتعاون مع حزب الله والعناصر اللبنانية المهاجرة والعناصر المحلية الموالية لها، بتحقق أهدافها الأمنية، من تحديد لأهداف الخصوم ورصدها ومهاجمتها إذا لزم الأمر، وتهريب الأسلحة والخامات الاستراتيجية. فضلا عن الترويج للمنتجات والسلع الإيرانية.
أولاً: أهداف استراتيجية:
وانطلاقًا من استراتيجية الخطوة الثانية الرامية لتوسيع دائرة عمق إيران الاستراتيجي جددت القيادة السياسية والعسكرية اهتمامها بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بشكل فعلي، بعد تولي «إبراهيم رئيسي» في 19 يونيو 2021م، استنادا إلى كونها واحدة من أهم المناطق العسكرية والأمنية بالعالم، المتصلة بكل التفاعلات الجارية بمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، والتي يمكن ربطها بمنطقة الخليج العربي وركائز محور المقاومة الذي أنشأته في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن. ومن ثم تحقيق طموح إيران الجيوسياسي والانتقال بها إلى وضع القوة الإقليمية المهيمنة، التي تمتلك القدرة على مجابهة التحديات ومناوأة الخصوم.
وقد تجدد اهتمام إيران بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، بعد أن فرضت استراتيجية مضادة للبنية الجيوسياسية والهيكل السياسي، الذي فرضته الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتمكنت من خلق قوة ردع ضد كل القوى الإقليمية التي طالما شكلت لها تهديدًا. ويشير هذه الاهتمام إلى أنها عازمة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية بالقارة الأفريقية، بدليل أننا إذا استنبطنا المدى الجيوسياسي من خطب قادة الحرس الثوري، فسوف يتضح لنا أن طموحها الأوسع لا يتوقف عند تعزيز قدرتها على ردع أي تهديد لنظامها، أو التأكيد على مكانتها بين دول الجنوب الأفريقي وأمريكا اللاتينية وآسيا، بل يتعداه إلى العمل على توسيع عمقها الاستراتيجي بالقرن الأفريقي. خاصة بعد أن أثمرت استراتيجيتها للاتجاه شرقا، اتفاقية تعاون استراتيجي مع الصين، ربطت بموجبها بين خطط التنمية الداخلية ومبادرة الحزام والطريق والانضمام لمنظمة «شنغهاي» للتعاون (Shanghai Cooperation Organization) وتجمع «البريكس» (BRICS) والانخراط في المساعي الرامية إلى إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب. ( )
ويمكن تفسير هذا الاهتمام أيضًا في إطار تخلي القيادة السياسية الإيرانية عن منطق التيار المعتدل الداعي إلى ضرورة تكيف إيران مع النظام الدولي القائم بكل تناقضاته لاستخلاص أفضل النتائج لصالحها؛ وانحيازها إلى منطق التيار الأصولي الداعي إلى تبني الواقعية الهجومية والتمسك باستراتيجية المقاومة، التي عززت قدرة إيران على الصمود أمام السطوة الأمريكية ومواجهة القوى الإقليمية المنافسة. وذلك بحثًا عن مساحة نفوذ استراتيجي بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. وبناء عليه، صممت طهران استراتيجية واضحة يمكن أن تحقق لها عدد من الاهداف، أهمها:
أ- تطوير العلاقات مع دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، سعيًا للالتفاف على العقوبات الدولية، التي تكبل نمو الاقتصاد الإيراني.
ب- تصدير قيم الثورة الإسلامية لتكوين قواعد جماهيرية مؤيدة لمواقفها السياسية، ومستعدة للقتال دفاعًا عن مصالحها.
ج- تعزيز قدرات إيران الشاملة وتعزيز نفوذها بمنطقتي غرب آسيا وشرق أفريقيا؛ للهيمنة على ممرات الملاحة البحرية.
د- تعزيز وجودها بالدول والموانئ التي يمكن أن تهدد الممرات الملاحية الحيوية وقت الأزمات، ولا سيما بمداخل البحر الأحمر.
ه- إنشاء مسارات بحرية وبرية يمكن استخدامها، وقت اللزوم، لنقل الأسلحة إلى مناطق الصراع الرئيسة بالشرق الأوسط. ( )
و- خلق مناطق تواجد عسكري دائم بخليج عدن ومضيق باب المندب، مع التأهب لمجابهة تهديدات الخصوم والمنافسين وإحباط المؤامرات التي يمكن أن تحاك ضدها بالمناطق الساحلية للقرن الأفريقي
ز- محاولة منع إسرائيل من تعزيز علاقاتها بالدول الأفريقية، وتحسين وجودها بالاتحاد الأفريقي والتكتلات الاقتصادية الأفريقية المختلفة.
ح- توسيع شبكة علاقاتها بالشركاء الأفارقة المتقاربين معها، سواء بشكل رسمي مع الحكومات، أو بشكل غير رسمي مع قوى ما دون الدولة، على نحو يماثل الديناميات التي استخدمتها بنجاح في بناء عمقها الاستراتيجي، بالعراق وسوريا ولبنان واليمن، في منطقة غرب آسيا. ( )
ط- التأكيد على أن أفريقيا تمثل فرصة لرفض النظام العالمي، الذي تعده تهديدًا لهويتها وخطابها السياسي، ولإقناع الخصوم بأن إيران لديها خيارات أخرى. مع الحرص على إحياء مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة؛ لتخفيف الضغط الأمريكي، وتتمكن من متابعة مصالحها السياسية والاقتصادية والأيديولوجية والاقتصادية والأمنية بالقارة الأفريقية.( )
ولعله من قبيل التكرار، القول إن هذه الأهداف تعكس مدى تعويل إيران على البعد الجيوسياسي في محاولة تعزيز انتمائها للقرن الأفريقي وشرق أفريقيا بوصفه امتدادا طبيعيا لمركزية وجودها بمنطقة الخليج واليمن. كما تضيف لها مزيدًا من المزايا الاستراتيجية والاقتصادية، وتفسح لها المجال للاضطلاع بدور فاعل في تأمين حركة الملاحة البحرية. خاصة أن هذا البعد هو الذي يحدد سمات وأنماط المنافسة مع القوى الفاعلة بهذه المنطقة، بدليل أن هذه القوى تنظر إلى محاولات إيران لتعزيز نفوذها بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا على أنها تمثل تهديدًا لـ «البنية الجيوسياسية» لهذه المنطقة، وأن نشاطها البحري المتنامي هناك يعد جزءًا من استراتيجية المقاومة القائمة على تكتيكات المواجهة غير المتكافئة. لا سيما أنها تروج لنفسها على أنها القوة الإسلامية المدافعة عن المستضعفين والمظلومين في شتى أرجاء العالم وجميع أنحاء أفريقيا.
وبناء عليه، فمن المحتمل أن تسعى إيران لتكييف ديناميات بناء عمقها الاستراتيجي بغرب آسيا، مع منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا. خاصة بعد نجاحها في توظيف علاقاتها بشركائها المحليين بالقرن الأفريقي في توصيل الدعم لجماعة أنصار الله الحوثية باليمن وحركة حماس والجهاد الإسلامي بغزة. وربما تنتهز حدوث أي اضطرابات بهذه المنطقة للتغلغل والإمساك ببعض الأوراق التي تمكنها من التأثير على تطوراتها الجيوسياسية، والحيلولة دون تحول البحر الأحمر وخليج عدن إلى بحيرة معادية لها. قد تحول دون تحقيق طموحاتها الجيوسياسية هناك. بدليل أنها خلقت، بدعمها للتمرد الحوثي باليمن، فرصة لتواجدها البحري الفعال بالمجرى الملاحي للبحر الأحمر، يمكنها تعطيل خطوط الملاحة المهمة به وبما وراءه. ( )
وتفيد العناصر الاستراتيجية والجيوستراتيجية لنشاط إيران البحري، المستنبطة من تصريحات قياداتها العسكرية، أنها تسعى إلى توسيع نطاق وجود قواتها البحرية لأبعد من الخليج العربي والمحيط الهندي، لتصل إلى البحر الأحمر والبحر المتوسط. منها تصريح اللواء «محمد حسين باقري» مدير الاستخبارات العسكرية والعمليات، الذي قال فيه: «نحن بحاجة إلى قواعد بعيدة، وقد يصبح من الممكن يومًا ما ونمتلك قواعد على سواحل اليمن أو سوريا، أو حتى قواعد على جزر، أو قواعد عائمة … وهل وجود قواعد بعيدة أقل أهمية من التكنولوجيا النووية؟ أقول إنه أولى منها عشرات المرات» ويعد هذا التصريح امتدادًا لتصريحات رسمية أخرى أكدت أهمية القرن الأفريقي وشرق أفريقيا في الإدراك الاستراتيجي الإيراني. ( )
وتحقيقًا لهذا الهدف، أخذت إيران تعيد هيكلة قواتها البحرية، منذ عام 2007م، حيث كُلفت البحرية التابعة للحرس الثوري بمسئولية خط الدفاع الأول في نطاق المياه الإقليمية المباشرة، بينما كُلفت البحرية التابعة للجيش بمسؤولية الخط الثاني الواقع بشكل أساسي في نطاق بحر عمان والبحر الأحمر. وقد صرح الأدميرال «حبيب الله سياري» قائد البحرية الإيرانية (2007 ـ 2017م) عقب توليه منصبه، بأن الإنجاز الأكبر الذي حققته القوات البحرية هو تطورها من مجرد قوات تنحصر مهامها داخل مياه الخليج العربي ومضيق هرمز وبحر عمان، إلى بحرية استراتيجية. وهو الذي أدى إلى خروجها من منطقة عملياتها لتثبت تواجدها الفعال في عمق المياه الحرة. كما أكد «سياري» مرة أخرى، عام 2013م، أهمية أن يكون مثلث التفتيش البحري الدولي «المكلا ـ باب المندب ـ مضيق هرمز» تحت السيطرة الإيرانية. خاصة أن «أكثر من 90 بالمئة من واردات إيران وصادراتها» تمر من خلاله. ( ) ولهذا أنشأت مدنًا بحرية تحت الأرض لتخزين الصواريخ وزوارق الانتشار السريع.( ) ولهذا أطلقت إيران «استراتيجية الذراع الطولى» عام 2020م، بهدف توسيع نطاق المهام العسكرية بالبحر الأحمر وبحر العرب، وألمحت إلى أنها تنوي إنشاء قوة أعالي البحار وإقامة قاعدة عسكرية بالمحيط الهندي. ومن ثم بدأت القوات البحرية الاستراتيجية في مراقبة الملاحة بالمياه الدولية التي تدور حول أفريقيا، اعتبارا من عام 2021م. ( )
وبالتالي أصبح القرن الأفريقي وشرق أفريقيا هدفا رئيسًا لإيران، خاصة بعد المكاسب التي حققها مقاتلو أنصار الله باليمن، ولهذا كتبت وكالة «تسنيم» التابعة للحرس الثوري مقالا بتاريخ 8 يناير 2020م، بعد اغتيال «قاسم سليماني» قائد فيلق القدس بخمسة أيام تحت عنوان «توسيع عمق إيران الاستراتيجي حتى أفريقيا» تجاوبت فيه مع المقال الذي كتبه «صادق إمامي» بنفس العنوان على موقع «فرهیختگان آنلاین» ( ) لكي تؤكد بعض النقاط، منها أن اغتيال سليماني لن يفت في عضد الحرس الثوري، أو يثنيه عن استهداف المصالح الأمريكية. وأنه إذا تمكن فيلق القدس من تحويل القارة الأفريقية إلى عمق استراتيجي لإيران فإنها سوف تصبح شريكاً لدول القارة على المستوى الاقتصادي والأمني ولهذا فإنه سيواصل مهامه الإقليمية بذات القوة والتأثير، انطلاقًا من أن ذلك هو التكليف الرئيس لقائد فيلق القدس الجديد «اسماعيل قاآني» الذي يتمتع بخبرة كبيرة بأفريقيا، اعتبارًا من تاريخ تعيينه في 3 يناير ( )
ولا يبعد عن ذلك قيام عناصر حركة الشباب الموالية لتنظيم القاعدة بشن هجوم مسلح على قاعدة «كامب سيمبا» Camp Simba الجوية بمنطقة «لامو» الساحلية الواقعة بجنوب شرق كينيا، فجر يوم 5 يناير 2020م، أدى إلى مقتل ثلاثة أمريكيين وتدمير طائرتين ومروحيتين وعدد من الآليات الأخرى؛ رداً عن اغتيال سليماني. بينما كان الإعلام يعد الهجوم الصاروخي على قاعدة «عين الأسد» بالعراق، يوم 18 يناير، أنه رد الفعل الإيراني على هذا الاغتيال. ( )
ثانيًا: أهداف اقتصادية:
لا شك أن لإيران أهدافًا اقتصادية بالقارة الأفريقية. وقد حصرت الدراسات والبحوث التي أجرتها المراكز المتخصصة والتقارير التي أعدتها الأجهزة المعنية الفرص التجارية والاستثمارية المتاحة في كل دائرة إفريقية، ومنها القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، كما أكدت أن محصلة التعاون الاقتصادي بين إيران والقارة الأفريقية، على مدى العقود الماضية، كانت متواضعة. على الرغم من تنوع الفرص التي كانت متاحة أمامها لتعزيز مكانتها لدى الشعوب الأفريقية، وفتح أسواق واسعة لصادراتها، وتجاوز العقوبات الاقتصادية، والاستفادة من اليورانيوم المتوفر لخدمة برنامجها النووي.
خاصة أنها سبق وأنشأت بعض الهياكل الاقتصادية المخصصة لإفريقيا، مثل صندوق تنمية الصادرات ومجلس الأعمال الأعلى الإيراني الأفريقي وغيرها، وعرضت قروضًا بنكية لتمويل مشروعات مشتركة، وبناء مصافي للنفط وأرصفة بحرية، وتنفيذ الصفقات التجارية. كما حثت رجال الأعمال على توسيع أنشطتهم التجارية داخل الأسواق الأفريقية ذات المنافسة المحدودة، وكثفت الزيارات الرسمية على جميع المستويات. إلا أن حجم تجارتها مع أفريقيا، طبقًا لما صرح به «مسعود كمالي أردكاني» مدير مكتب الدول العربية والأفريقية بمنظمة التنمية التجارية، ظل ضئيلاً مقارنة بتركيا مثلاً، التي بلغ حجم تجارتها مع أفريقيا 26 مليار دولار، عام 2020م، ووصل حجم استثمارات شركاتها 46 مليار دولار، خلال العام 2018-2019م، بينما استقر حجم التجارة الإيراني عند 600 مليون دولار تقريبًا، خلال نفس الفترة. ( )
وقد أبرزت هذه الدراسات أهم الأسباب التي كانت وراء عدم تحقيق الأهداف الاقتصادية المرجوة من علاقات إيران بدول القارة. وهي إجمالا على النحو التالي:
أ- انعدام ثقة القادة الأفارقة بإيران، وتفضيلهم التعامل مع قوى دولية وإقليميه أخرى، في ظل إدراكهم أن مشاريعها التنموية لم تكن مدفوعة بالاستثمار بقدر ما كانت مصممة لشراء النفوذ، وغطاء لأنشطتها السرية المخلة بأمن دولهم. إضافة إلى الدعاية المضادة التي يقوم بها خصوم إيران ومنافسوها؛ لتصويرها على أنها لن تتخلى عن أداء دور المفسد بالقرن الأفريقي.
ب- افتقار الدول، التي أبدت اهتمامًا بالتجارة مع إيران، للبنية التحتية اللازمة، فضلاً عن هشاشة هياكلها الاقتصادية.( )
ج- تشابه معظم السلع والمنتجات الإيرانية المعدة للتصدير إلى الدول الأفريقية مع مثيلتها الأجنبية ذات الجودة الأعلى.
د- عدم وجود اتفاقيات تنظم التجارة مع معظم الدول الأفريقية، إضافة إلى نقص المعلومات لدى رجال الأعمال والمستثمرين.
ه- عدم وجود بنية تحتية مصرفية أو صناديق ضمان تحفز رجال الأعمال للتجارة أو ضخ استثمارات بالسوق الأفريقية؛ وبالتالي لم يكن منطقيًا أن يتركون بيئة آمنة كما في أوروبا وجنوب شرق آسيا ومنطقة الخليج، للاستثمار بمناطق غير مستقرة( )
و- عدم وجود خطوط ملاحة منتظمة، باستثناء شرق أفريقيا التي يسير إليها خط واحد، مما جعل صادرات إيران تتم عبر دول ثالثة مثل قطر وعمان وتركيا والإمارات. ولذا نجد أن إحصائيات مصلحة الجمارك الإيرانية لا تعبر عن حجم التبادل التجاري مع القارة الأفريقية، لأنها تحسب ضمن العمليات التي تنفذها الدول الوسيطة. كما أن عدم وجود رحلات جوية مباشرة يضطر رجال الأعمال الإيرانيين إلى استخدام خطوط جوية أخرى للوصول إلى أفريقيا ( )
ز- العقوبات الصارمة التي قوضت مصالحها الاقتصادية وقدرتها على تطوير علاقاتها بالدول الأفريقية.
وبناء عليه، أوصت الدراسات المذكورة بوضع خطة استراتيجية تحقق لإيران الحصول على حصة بالسوق الأفريقية، التي تتجاوز ألف مليار دولار؛ لإنجاح سياسة المقاومة وزيادة الإنتاج وتوفير فرص العمل. وذلك بتعزيز التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع دولها عامة، ودول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا خاصة. وفهم الثقافة الاستهلاكية لكل سوق. فإذا كانت هناك سوقا تفضل مثلاً السلع الرخيصة؛ نظرًا لانخفاض القدرة الشرائية؛ فيمكن لإيران توفيرها، أو كان هناك ريفي يتداوى بالأعشاب الطبية، فيجب توفيرها بالأصناف الإيرانية. أما إذا كانت السوق ناشئة فينبغي توجيه الاستثمارات فيها نحو الصناعة والبنية التحتية؛ للاستحواذ على السوق الاستهلاكية، واكتساب التأثير على المجتمع. أما إذا كانت هناك حاجة لتنشيط تجارة المواد الخام مع دول تعاني نقصًا في السيولة المالية، فيمكن تقديم القروض الميسرة لها. أما إذا كانت السوق موجودة بمنطقة صراع فيمكن أن تكون فرصة للتعاون العسكري وتصدير الأسلحة ومعدات القتال الإيرانية بأسعار تنافسية، وتدريب القوات المسلحة بالدول الصديقة، وهكذا. ( )
ولهذا فمن المحتمل أن تتركز أهداف إيران الاقتصادية مع الدول الأفريقية، خلال المرحلة القادمة، في ثلاث أنشطة متوازية، تتمثل في تنشيط التبادل التجاري، وزيادة الاستثمارات الزراعية، الاستثمار في السوق العقارية، وذلك على النحو التالي:
1. تنشيط التبادل التجاري: من خلال عدة إجراءات جاري تنفيذها، منذ وصول رئيسي للحكم، أهمها:
أ- تشجيع القطاع الخاص على زيادة التبادل التجاري مع نظيرتها والإفريقية، بشرط تحويل الأرباح إلى إيران عبر فروع البنوك الإيرانية، التي سوف يتم إنشاؤها بمراكز التجارة الرئيسة بأفريقيا، على أن تقدم التسهيلات اللازمة وتوفير العملة للاستثمار، وجذب الأموال غير النقدية لدى الشعوب الأفريقية بخطط مبتكرة تتناسب مع ظروف السوق بكل منطقة.
ب- إبرام اتفاقيات نفطية طويلة ومتجددة لشراء النفط من الدول الأفريقية؛ نظرًا لأن معظم الآبار الإيرانية سوف تنضب، في غضون العقدين القادمين، وهو الأمر الذي سوف يمثل كارثة لإيران؛ لأن 70٪ من ميزانيتها السنوية قائمة على عائداته بل ستكون غير قادرة على تلبية احتياجات الاستهلاك المحلي، إذا لم تسرع في إبرام هذه الاتفاقيات. ( )
ج- تشجيع الشركات الصغيرة وشركات القطاع الخاص للدخول إلى السوق الأفريقية لتسويق الدراسات التي توصلت إليها في المجالات الطبية وتحسين السلالات الزراعية وزيادة إنتاجية الحبوب والمحاصيل؛ لتلبية احتياجات أفريقيا. مثل مؤسسة صرح المعرفة «بنيان دانش» الخاضعة للعقوبات الأمريكية ضمن ستة عشر مؤسسة أخرى، منذ يناير 2021م، وبيت إيران للابتكار والتكنولوجيا ( ) House of Innovation and Technology (iHiT) Iranian الذي افتتح فرعا بكينيا، تمهيدا لإقامة منطقة اقتصادية إيرانية. ولهذا أسست إيران أيضا مكتبًا بأوغندا لتصدير منتجات التكنولوجيا الحيوية، ووقعت جامعة طهران للعلوم الطبية اتفاقية مع المركز الأفريقي للتنمية الصحية بدولة غانا، للتعاون في مجال تكنولوجيا النانو الطبية.( ) وقد أكد رئيسي ضرورة دعم هذه الشركات «لأنه إذا حسّنت إيران علاقاتها الاقتصادية بالدول الأفريقية وخلقت لمنتجات شركاتها الكبرى مكانًا بالسوق الأفريقية الواسعة فسوف يرجع الفضل في ذلك لهذه الشركات الصغيرة القائمة على المعرفة. ( )
د- إنشاء مجلس للتعاون الاقتصادي المشترك بمساعدة الاتحاد الأفريقي والدول الصديقة، وإدخال شركات القطاع العام للاستثمار المباشر في إنشاء السدود وشق الطرق البرية والحديدية ومشروعات التعدين والتكرير والبتروكيماويات وصناعة السيارات وقطع الغيار وتجميعها والجرارات الزراعية والأجهزة الطبية والصناعات الدفاعية. مقابل استيراد خامات الحديد بأسعار جيدة لتشغيل المصانع الموجودة بإيران. ناهيك عن الاستفادة من الاحتياطيات المتوفرة لديها من الذهب والماس والمعادن الاستراتيجية. ( )
2. زيادة الاستثمارات الزراعية، بما يؤدي إلى تحقيق عدد من الأهداف، أهمها:
أ- استغلال الظروف المناخية الملائمة وغزارة الأمطار لزيادة الاستثمارات الزراعية لتوفير احتياجات إيران من المحاصيل في ظل الشح الميائي، مثل الشاي والقهوة والكاكاو والبذور الزيتية والماشية الحية واللحوم بجودة أعلى وأسعار أرخص. فضلاً عن توفير الأخشاب المطلوبة لتطوير صناعة الأثاث. على أن تتوسع الشركات الخاصة في تصدير وسائل الري الحديثة والآلات الزراعية والأسمدة والمبيدات الحشرية والأمصال واللقاحات البيطرية. والمساعدة في تطوير التعليم الفني والزراعي وتنمية الثروة الحيوانية والسمكية ( )
ب- التنافس مع إسرائيل والإمارات والسعودية الذين أبرموا، عقب توقيع اتفاقيات إبراهيم، عام 2020م، اتفاقيات للتعاون في مجال البحث العلمي وتطوير الزراعة الصحراوية. أهمها الاتفاقيات الضخمة التي أبرمتها شركات إسرائيلية وسعودية، في يونيو 2023م، بشأن استخدام تكنولوجيا المياه، التي طورتها إسرائيل للزراعة في الظروف المناخية الجافة. كما أرسلت إسرائيل إلى إثيوبيا أحدث ما توصلت إليه في مجال الطائرات المسيرة لمساعدتها على مكافحة الجراد الذي دمر المزارع وتسبب في نقص حاد بالمواد الغذائية بشرق أفريقيا.( )
3. الاستثمار بالسوق العقارية، والاستحواذ على حصة من مشاريع الإعمار؛ وتشغيل شركاتها العاملة في مجال المقاولات، وتصدير الخدمات الهندسية والفنية، استغلالاً لمعدلات النمو العمراني الذي تشهده الدول الأفريقية. خاصة أن لدى شركاتها الخبرة والقدرة على تنفيذ مشاريع تشييد المدن والمستشفيات والمنشآت الفندقية بالقرب من المزارات السياحية والمنتجعات الساحلية. ( )
وبناء على ما سبق، يمكن القول إنه من المحتمل أن تشجع إيران الاستثمارات الموجهة لبناء السدود للاستفادة من القدرة الكهربائية والهيدروليكية وتوفير الطاقة النظيفة باستخدام تكنولوجيا الطاقة الشمسية، وتوجه رجال الأعمال لضخ استثماراتهم في مجال الصناعات الصغيرة والصناعات الثقيلة. وهذا ما يتطلب التوسع تباعا في إنشاء خطوط الملاحة البحرية والرحلات الجوية المنتظمة مع الدول الواقعة بدوائر اهتمامها، ولكن بناء على دراسات الجدوى الاقتصادية.
وربما تسعى إيران لبناء علاقات تعاون مع الصين وروسيا، التي ترتبط معهما باتفاقيات تعاون استراتيجي، وتشاركهما العضوية بمنظمة شنغهاي وتجمع البريكس، وربما مع تركيا وقطر أيضًا، لتحقيق المصالح الاقتصادية المشتركة في أفريقيا.
ومن المحتمل أيضًا أن تسعى لبناء شراكة تجارية مع القوى الأوروبية الفاعلة في أفريقيا وحتى مع الولايات المتحدة، انطلاقًا من أن علاقات التعاون الاقتصادي معها ستكون متكاملة وودية في المستقبل. لدرجة أن إيران يمكن أن تكون على استعداد للتغاضي عن مصالحها الاقتصادية والسياسية بدول أمريكا اللاتينية، لأن الفرص المتاحة لها بأفريقيا أقرب إليها وأهم مما في أمريكا اللاتينية. خاصة أنها تنوي أداء دور الوسيط وصانع السلام للحد من التوتر والصراعات العرقية والنزاعات الحدودية والانفصالية بدول القارة الأفريقية عامة ودول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا خاصة( )
ثالثًا: أهداف أيديولوجية:
لم تكف إيران يومًا عن محاولات تكوين «ناتو ثقافي» إفريقي قوامه أجيال مؤمنة بالصحوة الشيعية التي أحدثتها الثورة الإسلامية، مؤيدة لها سياسيا، قادرة على تحقيق أهدافها الأيديولوجية بالقارة الأفريقية، مستعدة لمواجهة خصومها ومنافسيها نيابة عنها لدرجة حمل السلاح دفاعا عن مصالحها. ولهذا قدمت، على مدى العقود الأربعة الماضية منحًا كاملة لمئات الطلاب الأفارقة، من المسلمين السنة وأبناء الطرق الصوفية وحتى من المسيحيين، للدراسة بجامعاتها ومدارسها العلمية، بوصفها «مجتمع رسولي» الذي يتم فيه تغيير انتماءاتهم الدينية والمذهبية إلى المذهب الشيعي، ومن ثم إعادة إرسالهم إلى بلادهم بوصفها «مجتمعات رسالية» لنشر التشيع السياسي فيها، والاجتهاد في تكوين طائفة من الشيعة «المستبصرة» وإدماجها في قضايا مجتمعاتها.
غير أن مساعيها في هذا الشأن ظلت غير مجدية لأسباب عدة، منها تأثير علماء الأزهر والدعاة العرب بين أهل السنة، ونشاط الإرساليات التنصيرية، وعدم تفاعل أتباع الطوائف الشيعية الأخرى من الإسماعيلية والزيدية مع القراءة المتطرفة التي تقدمها الثورة الإسلامية للمذهب. إضافة إلى حرص الزعماء الأفارقة على عدم تحول بلادهم إلى فناء خلفي لصدام الأيديولوجيات. خاصة أن خطاب إيران الثقافي كان معبأ بقضايا تتعارض مع المصالح الثقافية الغربية والسعودية والعراقية والإسرائيلية؛ وأدى إلى نشوب نزاعات طائفية بين المسلمين والمسيحيين من ناحية، وبين الجماعات الإسلامية المعتدلة والمحافظة من ناحية أخرى. الأمر الذي جعل الدول الأفريقية تنظر بعدم ارتياح لأنشطة إيران الدينية والثقافية.( ) وعلى الرغم من ذلك، لم تفتر لها عزيمة على المضي في تحقيق أهدافها الأيديولوجية، بل وعقدت مؤتمرًا دوليًا بمدينة «قم» في مايو 2016م، بالتعاون مع ما يسمى اتحاد الطلاب الأفارقة بإيران، حول استراتيجيات نشر المذهب الشيعي في أفريقيا، بمشاركة حوالي 200 طالب وداعية شيعي من 30 دولة أفريقية. ( )
ولهذا، يمكن القول إنه من المحتمل أن تتمحور أهدف إيران الأيديولوجية بمنطقة القرن الأفريقي وشرق إفريقيا في مواصلة نشر المذهب الشيعي وفق قراءتها المطبقة بنظامها السياسي، وتعزيز العلاقة بين أبناء الأقلية الشيعية داخل المجتمع الواحد، وربطها بالمنظمات والمؤسسات الإيرانية النشطة في دولهم. ومن المحتمل أن تلجأ إلى الإجراءات التالية:
1. مواصلة البحث عن حلفاء بين أتباع المعتقدات الأخرى، ومن الشيعة اللبنانيين والدعاة الأفارقة الذين تلقوا تعليمهم وتدريبهم بالحوزة العلمية في إيران؛ لاختراق المجتمعات الأفريقية وإعادة بناء نفوذها الثقافي والمذهبي الذي يعزز مصالحها الجيواستراتيجية.
2. تفعيل دور مؤسسات هندسة الوعي، وعلى رأسها رابطة الثقافة والاتصال الإسلامية وجامعه المصطفي العالمية ومركز أهل البيت ومجمع التقريب بين المذاهب ومنظمة الحوزات والمدارس العلمية بالخارج ومؤسسة دار الهدى للنشر وجامعة الإمام الخميني الدولية ومكتب نشر آثار الإمام الخميني.( ) التي لديها قدرة على التأثير الثقافي والمذهبي بين الشيعة وتعبئتهم سياسيًا. إضافة إلى جمع أنصبة الخمس وأموال النذور والتبرعات، ونشر اللغة الفارسية. ( )
3. دعم الملحقيات الثقافية ومضاعفة مخصصاتها المالية وانتقاء المستشارين الثقافيين من بين النخبة الفكرية والأكاديمية المتخصصة القادرة على نقد الأسس الفكرية للثقافة الأنجلوفونية والفرانكوفونية.( ) وتكوين نخبة من المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين بالمجتمعات الأفريقية، تسهم في إثارة القضايا السياسية والاقتصادية والدينية التي تتسق وأهداف الثورة الإسلامية، من قبيل: تداعيات عملية التغريب التي تعرضت لها الدول الأفريقية، ونهب ثروات شعوبها، والتحكم في سيادتها واستقلال قرارها.
4. مضاعفة الميزانية المخصصة لتفعيل أدوات القوى الناعمة بدول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، لللقيام بـ
أ- التوسع في إنشاء مدارس التعليم المجاني للمذهب الشيعي بالمناطق الريفية، وعقد الدورات التدريبية والمسابقات الدينية والثقافية، واستقطاب المدرسين لتدريبهم بإيران. إلى جانب إنشاء مراكز البحوث والدراسات المعنية بخلق إدراك سياسي وأيديولوجي يتسق والأهداف الإيرانية.
ب- استقطاب الطلاب الموهوبين للدراسة بالحوزة العلمية وإعدادهم لنشر المذهب الشيعي بدولهم، استنادًا إلى أن انتشاره يؤدي تلقائيا إلى زيادة عمق إيران الاستراتيجي.
ج- إنشاء مراكز فنية ومهنية ببعض المناطق لتنمية المهارات التقنية لدى الشباب بالتنسيق مع المصانع؛ لتكوين طبقة عاملة أفريقية، على اتصال مباشر بإيران ودعوة الموهوبين منهم للتدرب في إيران( )
د- إنشاء منصات إليكترونية موجهة للدول الأفريقية؛ للترويج للمزارات السياحية والمتاحف وللثقافة والحضارة الإيرانية، وتطوير أداء الإذاعة الموجهة باللغة السواحيلية للترويج لمواقف إيران المختلفة.
ه- إنشاء فروع لجمعية الهلال الأحمر ولجنة الإمام الخميني للإغاثة، لإظهار الوجه الإنساني لإيران. وإبرام اتفاقيات تعاون في مجال الرعاية الصحية والعلاجية؛ لخلق سوق عمل للأطباء الإيرانيين، بالدول التي تعاني نقصًا في الكوادر المتخصصة، أو التي تعاني من انتشار الأمراض المتوطنة( )
رابعًا: أهداف أمنية:
يرى المراقبون الإيرانيون، أن دور إيران بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا هو دور تاريخي وطبيعي، نظرًا لأنها موصولة تلقائيًا بالدائرة الأولى لأمنها القومي بمنطقة الخليج العربي، عبر الممرات الملاحية الدولية التي تتجه منها صادراتها النفطية إلى العالم، وبالتالي فهي تدخل ضمن مجال أمنها القومي الذي يقتضي منها الوصول إليها والدفاع عنها والمساهمة في إحلال الأمن والاستقرار بها، عبر مكافحة الجماعات الإرهابية وعصابات القرصنة البحرية. إضافة إلى المساعدة في تنمية اقتصادات بلدانها الفقيرة.( )
ويبدو أن إيران قد استوعبت الدرس من إخفاقاتها الأمنية المتكررة بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، المشار إليها سلفا، والتي كانت من بين أسباب تدهور علاقاتها مع كل من جيبوتي والصومال والسودان وتنزانيا وإثيوبيا، وتوترها مع كينيا وأوغندا. وعلى هذا سوف تسعى إلى تعزيز نفوذها الأمني والالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، عبر المسارات التالية:
1. إعادة صياغة علاقاتها الأفريقية، وهو مسار معلن يتم عبر القنوات الرسمية، يستهدف إعادة بناء الثقة بينها وبين الدول المذكورة، على نحو يفضي إلى تعزيز نفوذها بين الأغلبية المسلمة، لعلها تسترد مكانتها أو دورها السابق( ) خاصة أنها سوف تعتمد في ذلك على أدوات القوة الناعمة ممثلة في هيئات الإغاثة والمؤسسات الثقافية والتعليمية والدينية والجمعيات الخيرية وجمعية الهلال الأحمر ولجنة الخميني للإغاثة، التي سبق ونجحت في استقطاب قطاع نشط بين الأقليات الشيعية داخل دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، سواء كان ذا أغلبية مسلمة مثل السودان والصومال وجزر القمر، أو يهيمن عليها غير المسلمين مثل كينيا وتنزانيا وأوغندا. بهدف كسب الدعم لمواقفها السياسية، وجمع أموال الخمس، وتجنيد العناصر الإرهابية، وتهريب الأسلحة إلى مناطق الصراع.( )
2. تكوين محور مقاومة إفريقي، على المدى البعيد، يماثل محور المقاومة الإسلامية الذي اختلقته بمنطقة الشرق الأوسط لفرض التوازن مع البنية الجيوسياسية التي فرضتها الولايات المتحدة بالمنطقة، على نحو يمثل تهديدًا لها. وإزاء تفاقم الضغوط السياسية والاقتصادية عليها جددت الاهتمام بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، على اعتبار أنها الساحة المواتية لتكوين محور مقاومة إفريقي قادر على مواجهة خصومها ومنافسيها. وبالتالي فمن المحتمل أن تعتمد على العناصر الشيعية المؤهلة التي تخرجت في جامعاتها ومعاهدها؛ لخلق جماعات ضغط لدفع سياسات هذه الدول باتجاه دعم المواقف الإيرانية، وتكوين فصائل من المرتزقة المحليين وتدريبها على رصد الأهداف وجمع المعلومات، وتجنيد عناصر قبلية وتدريبها على حماية المصالح الإيرانية. وتكوين وخلايا سرية بالتعاون مع المنظمات الإرهابية سواء المحلية أو العابرة للحدود لمهاجمة المصالح والأهداف الإسرائيلية والأمريكية، والرد على أي اعتداء يمكن أن تتعرض له مصالحها الحيوية بمنطقة غرب آسيا. ناهيك عن إدارة شبكة معقدة من مهربي الأسلحة والمخدرات والخامات الاستراتيجية..( )
وبما أنها تدرك مدى ضعف أنظمة الحكم بالقرن الأفريقي، وأن دولها لا تزال مسرحًا للصراع بين الجماعات الساعية للسلطة. فمن المحتمل أن تكثف اتصالاتها بالقبائل والجماعات المسلحة التي تشاركها العداء للولايات المتحدة، وتقدم لها الدعم على مستوى التدريب والتسليح؛ حتى تكون قادرة على الإضرار بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية. خاصة أن تجربتها في بناء محور المقاومة بمنطقة بالشرق الأوسط أثبتت أن كل دولة تتدهور فيها سمعة الولايات المتحدة، تزداد لديها الرغبة في التعاون مع إيران.( )
لا سيما أن علاقاتها كانت مثمرة بتنظيم القاعدة وفروعه المختلفة بأفريقيا، بما فيها حركة الشباب الصومالية، التي كانت تسيطر على مناجم اليورانيوم، إذ دعمتها بالمالي والسلاح والتخطيط؛ وتولت تصدير الفحم الصومالي للأسواق الدولية على أنه منتج إيراني. وحصلت مقابل ذلك على10٪ تقريبًا من احتياجات برنامجها النووي من اليورانيوم، ونقلت النفط إلى الصومال لتصديره بعد ذلك للأسواق الأفريقية. فضلاً عن رصد واستهداف المصالح الأمريكية والأجنبية العاملة بالصومال. ( )
وعندما انتقلت عناصر تنظيم الدولة الإسلامية من مناطق الصراع بالعراق وسوريا إلى أفريقيا، نشط فيلق القدس ميدانيًا. ( ) ثم كثف تحركاته بصورة أكبر، في ضوء تزايد التعاون الاستخباري بين السعودية والإمارات والبحرين وبين إسرائيل، عام 2019م، والذي تزامن مع إعلان عدد من الدول الأفريقية ضبط عدد من العناصر والخلايا التابعة للحرس، منها إعلان سلطات الأمن بجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد الكشف عن شبكة تسمى «سرايا الزهراء» كانت تدير عملياتها في السودان وإريتريا. ويقال إنها كانت تعمل لمساعدة القادة المحليين القريبين من طهران على الوصول إلى مواقع بارزة سياسيًا. ( )
3. تصدير الأسلحة، إلى مناطق الصراع المحتمل بالقرن الأفريقي ومنطقة الشرق الأوسط، في ضوء نجاح فيلق القدس في استخدام الصومال منصة لنقل الأسلحة ومعدات القتال إلى أنصار الله الحوثية باليمن، وإلى الخلايا التابعة لها في كل من كينيا وجنوب السودان وتنزانيا وموزمبيق، استعدادًا لمهاجمة أهداف بعينها، وقت اللزوم. وكانت مبيعات الأسلحة الإيرانية قد ظلت نشطة حتى فرضت الأمم المتحدة قيودًا صارمة على هذه المبيعات، بحلول عام 2007م، وعلى الرغم من ذلك لم تتوقف تمامًا، بدليل أنها نجحت في بيع طائرات «مهاجر6» بدون طيار للجيش الإثيوبي التي استخدمها في قصف مواقع مقاتلي تجراي( )
ولكن في المقابل، من المحتمل أن تزيد إسرائيل من مساعداتها الاستخباراتية للدول الأفريقية، لرصد الخلايا الإرهابية المحتملة لإيران والعناصر التي تشكل تهديدًا لأمن هذه الدول، أو لمصالحها الإسرائيلية، ومحاصرة أنشطتها الأيديولوجية وإضعاف بنيتها النشطة من مدارس وجامعات ومساجد وحسينيات. ومن المحتمل أن تواصل شن حملاتها السياسية والاقتصادية ضد الأصول الإيرانية وممتلكات حزب الله بالقارة الأفريقية، ومضاعفة الدعم الاستخباري لأجهزة دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا لكشف الخلايا الإيرانية والعناصر التابعة لها. إضافة لتعقب تحركاتها على امتداد خارطة المواجهة الأساسية بينهما بمنطقة الشرق الأوسط؛ بهدف عرقلة مساعيها للحصول على نقطة ارتكاز بالقرن الأفريقي.
وبالتالي، يمكن القول إن نجاح إيران في استخدام أفريقيا منصة لإظهار قوتها الإقليمية والدولية، سوف يظل رهنا بمدى قدرتها على الاستفادة من التحولات الاستراتيجية العالمية، ومدى تحملها للضغوط والعقوبات، وكسب النفوذ وتعظيم المكانة ومناوأة منافسيها مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة ( )
ويبدو أن خطة إيران لتحقيق أهدافها المختلفة بالقرن الأفريقي، هي خطة ذات مديات متعددة، تبدأ بتعزيز علاقاتها مع دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء، ودول جنوب القارة وصولاً إلى رأس الرجاء الصالح، وتنتهي بالدخول معها في شراكات استراتيجية. وتتضمن هذه الخطة بناء قدرات إيران اللازمة لزيادة نفوذها بأفريقيا، وتعزيز مكانة أفريقيا في سياستها الخارجية حتى تصبح شريكًا استراتيجيًا للاتحاد الأفريقي، قادر على التفاعل مع قضاياه المطروحة أمام المحافل الدولية والإقليمية والتجمعات والمنتديات الدولية. ( )
الخاتمة
توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج والتقديرات التالية:
أولا: النتائج
1. تعد القارة الأفريقية المساحة الجغرافية الأوسع والأكثر دينامية وتأثيرًا، مقارنة بمنطقتي آسيا الوسطى والقوقاز، التي يمكن لإيران خلق مساحات نفوذ ونقاط ارتكاز موصولة بدائرة أمنها القومي بالخليج، ويمكن ربطها بعمقها الاستراتيجي بمنطقة غرب آسيا.
2. تتصور إيران أن القارة الأفريقية مقبلة على تطوير استراتيجية استخدام مواردها الطبيعية على نحو يساعد في بناء قدراتها حتى تصبح لاعبا استراتيجيًا في المجتمع الدولي، بحلول عام 2050م، ولذا فهي بمثابة قارة الفرص التي يمكن أن تلبي طموحات إيران الاستراتيجية وتحقق لها أهدافها المختلفة.
3. كان إبراهيم رئيسي مؤمن بأن تحييد العقوبات الدولية مقدم على محاولة إلغائها، عبر تنمية علاقات بلاده بالدول الأسيوية والأفريقية. على الرغم من التحديات التي تعوق مساعيها في هذا الشأن.
4. تعول إيران على البعد الجيوسياسي لتعزيز انتمائها لمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بوصفها امتداد طبيعي لمركزية وجودها بمنطقة الخليج العربي واليمن، الذي يمنحها الحق في أداء دور فاعل في تأمين حركة الملاحة والتصدي للقرصنة البحرية، كما يمكن أن تصبح ساحة مواتية لنقل المواجهة الجيوسياسية مع خصومها ومنافسيها بعيدًا عن الدائرة الأولى لأمنها القومي بمنطقة الخليج.
5. تدرك إيران أن التفوق الذي حققته القوى المنافسة قلص نفوذها بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا؛ الأمر الذي يدعوها لتبني استراتيجية لإعادة بناء هذا النفوذ على نحو يمكنها من استعادة التوازن مع تلك القوى، وتحقيق تفوق جيوسياسي يرد لهم التحديات بالمثل.
6. تدرك إيران أنه إذا أرادت مجابهة التحديات وزيادة وزنها الجيوسياسي بالقرن الأفريقي، وخلق توازن مع القوى المنافسة، وخلق تحديات أمام خصومها بعيدًا عن حدودها البرية والبحرية، فعليها أن تنطلق أولاً من نقطة تحسين علاقاتها المتدهورة مع دول القرن الأفريقي، وشرق أفريقيا.
7. على الرغم من تدهور علاقات إيران بدول القرن الأفريقي تعرضها لانتكاسات استراتيجية وسياسية، طُردت على إثرها من السواحل الجنوبية الغربية للبحر الأحمر، عام 2015م، إلا أنها تمكنت من الحصول على مساحة استراتيجية بديلة على السواحل الجنوبية الشرقية للبحر الأحمر وأصبحت القوة الوحيدة التي لها ارتكاز استراتيجي على السواحل اليمنية، ولديها القدرة على تعطيل الملاحة بمضيق باب المندب عند اللزوم. خاصة بعد سيطرة أنصار الله على ميناء «الحُديدة» وتحويله لميناء رئيس لها ونقطة مراقبة لتحركات أساطيل الدول الأخرى بميناء «مصوع» وأرخبيل «دهلك» في إريتريا.
8. على الرغم من أنه ليس من السهل أن تعثر إيران على نقطة ارتكاز استراتيجي لها بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا، إلا أن تحركاتها الأخيرة تؤكد أنها أصبحت هدفًا استراتيجيًا لها، الذي أخذت تكثف له الجهود عبر المسار السياسي والدبلوماسي لتعزيز علاقاتها الأفريقية، والمسار الدعوي لتحقيق الأهداف الأيديولوجية، ومسار الأنشطة السرية التي تحقق لها الأهداف الأمنية، التي يضطلع بها فيلق القدس بالتعاون مع عناصر حزب الله وشيعة لبنان والعناصر الشيعية المحلية الموالية لإيران.
ثانيا: التقديرات
1. على مستوى الأهداف الاقتصادية:
السيناريو الأول أن تستغرق إيران وقتًا أطول مما ينبغي لتحقيق أهدافها الاقتصادية؛ للأسباب التالية:
أ- استمرار إدراج أكثر من 748 كيانًا اقتصاديًا إيرانيا كبيرًا بقائمة العقوبات الأمريكية، لكونها كيانات ممولة للإرهاب، أهمها البنك المركزي والمؤسسة التعاونية، والشحن والطيران المدني، وهيئة تنمية وتطوير المناجم، وقطاعات الطاقة والبتروكيماويات. فضلاً عن الحرس الثوري الذي يستحوذ على جزء كبير من الأصول المملوك للدولة. ولن تُرفع هذه العقوبات إلا بتوقيع اتفاق بشأن برنامج إيران النووي، والتزامها بالحفاظ على الأمن الإقليمي وتحسين علاقاتها بالمجتمع الدولي
ب- استمرار بقاء إيران على القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي فاتف، منذ فبراير 2020م، بسبب عدم مصادقتها على القوانين المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب مما أدى إلى تقليص قدراتها على الارتباط بشبكة البنوك الرئيسة في العالم، ومن ثم حرمانها من المشاركة في التعاملات الدولية الحصول على الخدمات البنكية، ورفع تكلفة نقل الدولار من وإلى اقتصادها. وهو ما ساعد، بجانب العوامل الأخرى، إلى انكماش حجم الناتج المحلي السنوي وجعل تفعيل التعاون الاقتصادي والتجاري معها أقرب للمجازفة. خاصة أن أحد تلك القوانين يتعلق بغسيل الأموال.
ج- لا تزال إيران بحاجة إلى تحسين بيئة الأعمال الداخلية وتطوير نظامها الضريبي وتعديل ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة وضريبة الضمان الاجتماعي، التي تجعل المستثمر الأجنبي غير قادر على التنبؤ بدقة بمعدل الأرباح. إضافة إلى تدني شفافية القوانين لدرجة جعلت من الصعب على الشركات الأجنبية حماية حقوقها ومصالحها حال وقوع منازعات تجارية
د- ضراوة المنافسة الإقليمية، في ظل تزايد القيمة الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا في ضمان أمنها الغذائي، فكثفت صناديق الثروة السيادية السعودية والإماراتية ودول أخرى جهودها للحصول على مساحات زراعية بالدول ذات الوفرة مائية. كما ضخت استثمارات كبيرة في بناء وتطوير الموانئ البحرية وتشغيلها، نظرًا لأهميتها في حركة التجارة العالمية عامة والإفريقية خاصة.
السيناريو الثاني: أن تتبنى إيران نهجا أكثر دينامية لتعزيز حركة التجارة والاستثمار مع دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا في ظل التوقعات بسرعة النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمارات بمشاريع البنية التحتية، وارتفاع الطلب على البناء، وانتعاش الأسواق الاستهلاكية. وبالتالي فمن المحتمل أن تلجأ إلى الإجراءات التالية لتحقيق أهدافها الاقتصادية:
أ- عقد اتفاقيات تعاون في مجال الاستثمار الزراعي والتعاون المصرفي، وفتح خطوط اعتماد بين البنوك المركزية، أسوة بخط الاعتماد المفتوح بين البنك المركزي الإيراني ونظيره الجيبوتي.
ب- الاعتماد على شركات القطاع الخاص التي لم تقع تحت طائلة العقوبات للمشاركة بتنفيذ مشاريع البنية التحتية وبناء السدود الهيدروليكية والكهرومائية وتوليد الطاقة النظيفة. فضلاً عن دعم رجال الأعمال لضخ استثماراتهم في الصناعات الصغيرة والمتوسطة اللازمة للبنية التحتية.
ج- توجيه الإعلام للتخلص من الصورة النمطية للقارة الأفريقية التي روج لها الغرب كرمز للفقر والجوع والمرض والعنف، تمهيدا للتعامل المجدي مع دولها، وتوجيه مراكز الدراسات المعنية لدراسة سياسة إيران الأفريقية وإعداد كتب وثائقية عن تاريخ وجغرافيا وثقافة هذه القارة.
د- الاستناد إلى عضويتها كمراقب بالاتحاد الإفريقي وتجمع الكوميسا ومجموعة الخمس عشرة، ومنظمة شنغهاي وتكتل البريكس والتكتلات الاقتصادية الإفريقية لتحقيق أهدافها الاقتصادية.
ه- مواصلة الجهود للتوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، لرفع العقوبات ومن ثم دخول شركات الحرس الثوري في السوق الأفريقية، والعمل على تحويل هذه المنطقة إلى عمق استراتيجي لإيران.
و- التعاون مع القوى الفاعلة بالقرن الأفريقي، على رأسها الصين وتركيا لتحقيق الأهداف المشتركة.
2. على مستوى الأهداف الاستراتيجية
من المرجح أن تسعى إيران لإحياء المفاوضات المتعلقة بخطة العمل الشاملة المشتركة، بهدف تقليل الضغوط الخارجية، حتى تستطيع مواصلة مساعيها لزيادة نفوذها الإقليمي والدولي ومتابعة سياستها تجاه أفريقيا، استنادا إلى أدواتها التقليدية الناعمة، من الهيئات المؤسسات المعنية بتقديم إيران على أنها القوة الإسلامية المدافعة عن الإسلام والمسلمين والمظلومين. إضافة إلى التكتيكات التي تستخدمها في تحييد الخصوم والمنافسين وخاصة إسرائيل والإمارات. ولعل الاستدلال المنطقي لتحركات إيران نحو بناء نفوذ لها بمنطقة القرن الأفريقي، يجعلنا نرجح أنها سوف تنتهز حدوث أي اضطرابات للنفاذ والإمساك بأوراق تأثير تمكنها من منع تحول البحر الأحمر إلى بحيرة معادية لها. وأنها أمام سيناريوهات عده لتحقيق أهدفها، أهمها اثنان هما:
السناريو الأول أن تنجح القوى المناوئة لإيران في منعها من الحصول على أي ارتكاز استراتيجي بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا
أ- الدور الإماراتي: على الرغم من أن الساحل الإماراتي بأكمله يقع في مرمى الصواريخ الإيرانية، إلا أنها تواصل الظهور كمنافس قوي لإيران بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وتؤدي دورًا في حماية الممر الملاحي الواصل بين باب المندب وقناة السويس، بعد أن برعت في الجمع بين القوة الصلبة ومقاربات القوة الناعمة. فكما أن لها استثمارات كبيرة بإريتريا، فإنها تمتلك أيضًا قاعدة بحرية وجوية بميناء عصب المقابل لميناء المكلا اليمني الذي تسيطر عليه، ويسهم في توسيع عمقها الاستراتيجي ويسمح لقواتها الجوية والبحرية بالبقاء نشطة أمام السواحل الإيرانية، وعرقلة أي توسع بحري إيراني بالقرن الأفريقي. حتى أنها حاصرت الموانئ التي سيطرت عليها أنصار الله ومنعت إيران من إمدادها بالأسلحة. ويشير قيام الإمارات بتدريب القوات اليمنية بقاعدة عصب إلى قدرتها على التدخل المؤثر في العديد من النزاعات أو الحروب المحتملة بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا، ودعم الجماعات الموالية لها لتكون قادرة على القتال عنها بالوكالة بأعداد كبيرة من المعدات والأسلحة الحديثة.
ب- الدور الإسرائيلي: أن تواصل إسرائيل تعقب تحركات إيران السرية بالقرن الأفريقي وشرق أفريقيا بهدف إضعاف مكانتها والنيل من سمعتها ومنعها من أداء أي دور هناك استنادًا إلى نفوذها المالي والسياسي والأمني القوي، وتصويرها على أنها لن تتخلى عن أداء دور المفسد بالمجتمع الأفريقي. إضافة إلى عدم الانجرار وراء محاولات إيران لنقل المواجهة معها إلى منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وإبقاء المواجهة بينهما داخل منطقة الشرق الأوسط، حيث المواجهة الأكثر أهمية لإسرائيل في ظل الارتكاز العسكري الإيراني في سوريا ولبنان وقطاع غزة. ناهيك عن استهداف منشآت إيران الاستراتيجية، وتأجيج التوتر داخل إيران وخارجها، بالتعاون مع المعارضة الإيرانية، والتنسيق مع أجهزة الأمن الإماراتية والسعودية والأمريكية، على نحو يحرج نظامها داخليًا وخارجيًا. والسعي لتحويل توتر علاقاتها مع كابل إلى مخاوف حقيقية، على خلفية توزيع مياه نهر «هيلمند» بفضل علاقة الإمارات والسعودية الوثيقة مع نظام طالبان، ومن ثم تغيير أولويات إيران بعيدًا عن أجندتها الخاصة بالقرن الأفريقي، بل وربما إسقاط القرن الأفريقي من اهتماماتها في الوقت الراهن.
السناريو الثاني: أن تتمكن إيران من احتواء القوى المناوئة لها وتحقق أهدافها؛ نظرًا للعوامل التالية:
أ- سرعة تقلب المتغيرات الإقليمية والدولية على نحو جعل التفاعلات السياسية سريعة التطور، وحول أعداء اليوم إلى شركاء الغد، والعكس صحيح أيضًا. بدليل تدهور علاقات إيران مع أصدقائها من الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، وتوقيع اتفاق مصالحة مع السعودية التي ظلت لعقود خصما أيديولوجيا ومنافسا إقليميا لها، في 10 مارس 2023م، بينما تنافر قطبا التحالف العربي، الإمارات والسعودية، المناوئ لجماعة أنصار الله الحوثية الموالية لإيران باليمن.
ب- على الرغم من أن فرص اتباع تركيا وإيران استراتيجية موحدة حيال أفريقيا قليلة، إلا أن البرجماتية يمكن أن تجمع مصالحهما في نقطة التعاون التكتيكي داخل منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا.
ج- أن تستند إيران إلى دعم الصين وروسيا انطلاقا من العلاقات الوثيقة وانخراطهما الحالي والمستقبلي بمنطقة الخليج العربي، وحرصهما على أن يصبح الخليج أكثر أمانًا. مما يشير إلى احتمال تنسيق إيراني مع الصين وروسيا، فيما يتعلق بمنطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا وحماية الملاحة البحرية
د- من المحتمل أن يؤدي التقارب الإيراني الروسي، في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، إلى عودة محتملة لنشاط شبكة محور المقاومة، الذي تتضافر فيه جهود جماعات ما دون الدولة التابعة لإيران في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، للعمل على تحقيق أهداف إيران بأفريقيا.
ه- أن يتم التوصل لاتفاق بشأن برنامج إيران النووي، ومن ثم الافراج عن أرصدتها المجمدة بالخارج، وتفتح الولايات المتحدة صفحة جديدة في علاقاتها المقطوعة مع وإيران منذ أربعة عقود. خاصة أن إيران من بين الركائز الجيوسياسية المهمة للتوازن االإقليمي، التي لا تستطيع الولايات المتحدة إهمالها. فضلاً عن أنها تعد خزانًا للغاز والنفط، ومطلة على الخليج العربي وبحر قزوين.
و- أن تسعى إيران لتكييف ديناميات بناء عمقها الاستراتيجي الحالي بغرب آسيا، مع خصائص القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، خاصة أنها سبق ونجحت في توظيف شركائها المحليين بالقرن الأفريقي في نقل إمداداتها العسكرية إلى مقاتلي أنصار الله الحوثية باليمن ولحركة حماس والجهاد الإسلامي بغزة.
3. على مستوى الأهداف الأيديولوجية
من المحتمل أن تتمحور أهدف إيران الأيديولوجية بمنطقة القرن الأفريقي وشرق إفريقي فيما يلي:
أ- مواصلة نشر المذهب الشيعي وفق القراءة المطبقة في نظامها السياسي، انطلاقا من إن انتشار المذهب الشيعي يعني نشر قيمها السياسية ونظرتها الثورية للعالم كجزء من تدابير بناء العمق الاستراتيجي عبر الاستخدام الأمثل لأدوات القوة الناعمة.
ب- الاستناد إلى القواسم المشتركة المتعلقة بالمشاعر المناوئة للثقافة الغربية داخل المجتمعات الأفريقية، لبناء وعي جمعي سياسي يمهد لتقبل الثقافة الإيرانية وقيم الثورة الإسلامية داخل هذه المجتمعات.
ج- الاستفادة من إمكاناتها الأيديولوجية والقوى الشيعية من دون الدول لتعزيز نفوذها داخل القارة.
د- تعزيز العلاقة بين أبناء الأقلية الشيعية داخل المجتمع الواحد، وربطها بالهيئات والمؤسسات الإيرانية النشطة في دولهم.