الرئيسية » الدراسات » مصرع الرئيس الإيراني

مصرع الرئيس الإيراني

بواسطة :

انطلاقا من بنية النظام، كلف المرشد الأعلى للثورة، بموجب المادة 131 من الدستور، النائب الأول لرئيس الجمهورية «محمد مخبر» في 20 مايو، مسئولية إدارة شئون السلطة التنفيذية؛ لخلو منصب رئاسة الجمهورية بالوفاة. على أن يتولى التنسيق مع كل من رئيس السلطة التشريعية والسلطة القضائية، لاتخاذ الإجراءات اللازمة والدعوة لعقد انتخابات رئاسية، في مدة أقصاها خمسين يوماً. والتي تحدد لها بالفعل يوم 28 يونيو المقبل. وبما أن منصب وزير الخارجية أصبح شاغرا أيضا، فقد كلف «محمد مخبر» بدوره، وفقاً للمادة 135 من الدستور، «علی محمد باقری کنی» قائما بأعمال وزارة الخارجية لمدة أقصاها ثلاثة أشهر حتى تعيين وزيرا للخارجية.
ومن جانبه، كلف اللواء «محمد باقري» رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة، فريقا فنيا رفيع المستوى برئاسة اللواء «علي عبد الله» نائب منسق الأركان العامة للقوات المسلحة، للتحقيق في أسباب تحطم مروحية الرئيس ملابساته وأبعاد.
الأصداء الخارجية
كان لمصرع الرئيس الإيراني أصداء خارجية واسعة، اهتمت بها طهران جيدا واتخذتها مقياسا لمدى تعبير دول العالم عن تضامنها معها، خاصة أن التضامن وقت الكوارث يمنح الشعوب شعورًا طيبا، ويترك لدى الحكومات أثرا إيجابيا على جملة تفاعلاتها الخارجية، خاصة في ظل المتغيرات المتسارعة التي قد تؤثر على منطقة الشرق الأوسط وتحدد مصير النظام الإيراني نفسه.
وقد أبرزت وسائل الإعلام الإيرانية رسالة المواساة التي بعث بها الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» (Vladimir Putin) إلى المرشد الأعلى، والتي قال فيها إن «إبراهيم رئيسي كان صديقا حقيقيا لروسيا وقدم شخصيا مساهمة قيمة في تعميق حسن الجوار بين بلدينا وبذل جهودا كبيرة للارتقاء بهذه العلاقات إلى مستوى التعاون الاستراتيجي» كما نشرت قول وزير خارجيته «سيرجي لافروف» (Sergey Lavrov) إن الرئيس الإيراني ووزير خارجيته معروفان بأنهما صديقان حقيقيان وموثوقان لروسيا. كما اهتمت وسائل الإعلام أيضا بالاجتماع الطارئ الذي عقده الرئيس بوتين بمشاركة رئيس مجلس الأمن «سيرجي شويجو» (Sergei Shoigu) ووزير الدفاع الجديد «أندريه بيلوسوف» (Andrey Belousov) وممثلي الأجهزة الخاصة. ودعا إليه السفير الإيراني لدى موسكو «كاظم جلالي» فسرته بعض صحف المعارضة بأنه مؤشر على مدى تخوف موسكو من أن يؤثر غياب رئيسي على مواقف جماعات الضغط التابعة لها بطهران، خاصة أنه كان زعيما للتيار الداعم لتعزيز التعاون معها في شتى المجالات، وعزز مكانة الجناح المؤيد لهذا التعاون داخل الحرس الثوري، على نحو فاق موقف اللواء «قاسم سليماني» قائد فيلق القدس. حتى أنه أشرف على تزويدها بآلاف من مسيرات «شاهد» في حربها مع أوكرانيا، التي لا تزال دائرة، وتتخذ وضعا أكثر تعقيدا.
ولكن يرجح معظم المراقبين أن وفاة رئيسي لن تؤثر على علاقات التعاون الوثيق بين روسيا وإيران، على الرغم من أنها تثير قلق الولايات المتحدة والقوى الغربية. استنادا إلى أن مصير التعاون التكتيكي بين البلدين لا يرتهن بشخص، بقدر ما يستند إلى عوامل أخرى تتعلق بطبيعة المتغيرات الدولية، ومستوى تدهور علاقات طهران وموسكو مع واشنطن. خاصة أن إدارة الرئيس «جو بايدن» (Joe Biden) أكدت، في 20 مايو، على ألا تتوقع إيران أي تغيير تجاهها بوفاة الرئيس. كما قال «جون كيربي» (John Kerry) المتحدث باسم الأمن القومي، في نفس اليوم «لا ينبغي للإيرانيين أن يتوقعوا أي تغيير في النهج الأمريكي تجاه مسألة محاسبتهم»
كما اهتمت وسائل الإعلام الإيرانية أيضا بالتصريح الذي أصدره المتحدث باسم وزارة الخارجية، نيابة عن الزعيم الصيني، وقال فيه إن رئيسي «قدم مساهمات مهمة في الحفاظ على أمن إيران واستقرارها، وتعزيز التنمية الوطنية والازدهار، وبذل جهودا طيبة لتعزيز التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران بشكل شامل».فضلا عن أنها أحصت الدول التي أعربت عن مواساتها لإيران حكومة وشعبا، منها الهند وباكستان وأفغانستان واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وطاجيكستان وتركمانستان وفنزويلا وماليزيا، وإيطاليا ورئيس المجلس الأوروبي، ومعظم الدول العربية وعلى رأسها مصر والسعودية، فضلا عن جميع قوى ما دون الدولة المكونة لمحور المقاومة الإسلامية، التي تحظى بدعم إيران الكامل.
دلالات الحادث
ترجح الرواية الرسمية المعلنة أن سبب سقوط المروحية (Bell 412) التي كان يستقلها الرئيس ومرافقوه، فني؛ نظرا لأن هذا الطراز من الطائرات، الذي تمتلك منه إيران 62 مروحية أخرى، قديم ويعاني نقصا بقطع الغيار الفنية، لخضوعها للوائح مراقبة الصادرات الأمريكية والأوربية بموجب العقوبات المفروضة؛ الأمر الذي تضطر معه إيران لتوريد هذه القطع عبر عمليات التهريب والهندسة العكسية ولهذا انتهز «محمد جواد ظريف» وزير الخارجية السابق الفرصة لاتهام الولايات المتحدة بأنها أحد المتسببين في مقتل الرئيس؛ وقال: سوف يُسجل هذا الحادث ضمن قائمة الجرائم الأمريكية ضد الشعب الإيراني؛ نظرا للحظر الذي تفرضه على توريد قطع الغيار وعدم السماح لإيران بالحصول على مرافق طيران جيدة. خاصة أن عمر 60٪ من أسطول المروحيات فيها يتجاوز الأربعين عامًا.
1. الدلالات الداخلية
على الرغم من أن الرئيس الإيراني ليس رئيس دولة بالمفهوم المتعارف عليه، بقدر ما هو رئيس حكومة، منذ إلغاء منصب رئيس الوزراء، عام 1989م، يتمتع بسلطات دستورية محدودة، فيوقع على الاتفاقيات الدولية ويعتمد خطط الدولة وميزانيتها. غير أن مصرعه في هذا التوقيت بالذات أدى إلى إرباك حسابات النظام وعمّق التحديات التي تواجهه داخليا وخارجيا، وانكشاف الخيارات السيادية التي كانت مطروحة لخلافة المرشد الأعلى. خاصة أن حادث مصرعه يحمل في جوهره دلالات وأبعاد كثيرة، أهمها احتدام الصراع السلطة، أي سلطة المرشد الأعلى، وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
‌أ. الصراع على السلطة
على المستوى الدستوري، لن تؤدي وفاة رئيسي في حد ذاتها إلى إحداث تغيير كبير في النظام؛ لأنه مجرد الرجل الثاني في هرم السلطة بعد كل من المرشد الأعلى، الذي يمثل مركز القوة السياسية ومحور المكانة الدينية، ويختص بسلطات دستورية وصلاحيات حصرية في تحديد الاتجاهات الاستراتيجية للدولة واتخاذ القرارات النهائية في جميع شئونها المهمة. وبعد الحرس الثوري أيضا، بوصفه محور القوة الصلبة ومركز السلطة العسكرية والأمنية للدولة العميقة، ويتمتع بنفوذ سياسي واسع داخل شتى الدوائر السياسية، وبقدرات مالية واقتصادية هائلة تتوازى تقريبا مع قدرات الدولة.
ومع هذا فإن أهمية وفاة رئيسي تكمن في أنها يمكن أن تؤجج الصراع على منصب المرشد الحالي حال وفاته. خاصة أن وفاته المفاجئة شكلت ضغطًا على النظام، من حيث أنها أربكت جميع الترتيبات المتعلقة بانتقال سلطة المرشد، وتوزيع الأثقال الحزبية والتوازن بين مكونات النخب السياسية التي سوف تشرف على عملية الانتقال. ومن حيث أنها ربما تكون مقدمة لمجموعة من الأحداث الأخرى التي قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الداخلي. لا سيما أن التغييرات المفاجئة من هذا النوع تؤدي بحد ذاتها إلى خلل معين. ولكن من حسن حظ النظام أنه لا يملك قوة معارضة منظمة ضده. وبالتالي فمن المرجح أن يعتمد مصير الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها، أواخر شهر يونية، على القرارات التي ستتخذها النخب وراء الكواليس. في ظل الانقسام الداخلي حول خلافة المرشد. لأن القرار بشأن من سيخلف خامنئي ليس مهما، ولكن الأهم هو ما التداعيات التي سوف تترتب على هذا.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن مصرع رئيسي، في هذا التوقيت، حمل دلالة أبعد من مجرد منافسة على منصب رئاسة الجمهورية خاصة أنه جاء بعد شهر واحد تقريبا من إعلان نتائج الانتخابات التي أجريت، في مارس 2024م، لاختيار أعضاء مجلس الشورى الإسلامي ومجلس خبراء القيادة، التي كان يعول عليها النظام كثيرا في تشكيل مستقبله داخليا وخارجيا، وتعزيز قدرته على التعامل مع التحديات التي تواجهه. والتي فاز فيها رئيسي بعضوية مجلس الخبراء، على نحو كشف نوايا المرشد الأعلى الاستراتيجية بشأن استكمال عملية التحول من الإسلاميوية إلى الشيعوية، وإتمام سيطرة التيار الأصولي المتشدد على سلطات الدولة ومؤسساتها؛ بما يضمن للسلطة تماسكها ويحصر المنافسة المحتملة على خلافته داخل الدائرة الأصولية، ضمانا لسلامة انتقال سلطاته بشكل آمن، وحفظا لولاية الفقيه وإسلامية الدولة وجمهورية النظام، حتى ولو كان ذلك خصما من شعبية النظام.
وقد انطوت نتائج انتخابات دورة مجلس الخبراء السادسة على أهمية قصوى، من حيث أنها سوف تستمر حتى عام 2032م، وبالتالي كانت احتمالات تكليف أعضائها، البالغ عددهم 88 عضواً، بمهمة تسمية خليفة المرشد الحالي (85 عاماً) كبيرة للغاية. وأن فوز رئيسي بعضوية هذا المجلس، بعد استبعاد المرشحين الذين قد يكونوا منافسين محتملين له، كمرشح محتمل لرئاسة مجلس الخبراء، خلفا لـ «أحمد جنتي» الذي لم يتقدم للترشح. جعلته الأقرب لتبوء رئاسة الخبراء والأكثر نفوذا بالدولة، قبل الانتخابات الرئاسية التي كان منتظر إجراؤها عام 2025م، والتي كانت سوف تمثل الخطوة الأخيرة نحو تأكيد خلافته للمرشد الحالي. أو على أقل تقدير، مرشحا رئيسيا محتملا مع مجتبى نجل خامنئي.
وعلى الرغم من أن رئيسي ومجتبى كانا المرشحين الأقوى لخلافة خامنئي، إلا أنه يجب التنويه إلى أن الدستور ينص على أن أهلية المرشح لتبوء المنصب الأهم في إيران، مشروطة بأن يكون متمتعا بالكفاءة العلمية اللازمة للإفتاء بمختلف أبواب الفقه، والعدالة والتقوى، والرؤية السياسية والاجتماعية الصحيحة، والتدبير والشجاعة والكفاءة الإدارية والقدرة الكافية للقيادة. ولكنه لم ينص على أن يكون هذا المنصب بالتوريث، الذي سبق ورفضه الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية لابنه أحمد
ومن ثم، يمكن ترجيح الانقسام على السلطة كان أحد الأسباب الداخلية التي أودت بحياة رئيسي، خاصة أنه كان رقما صعبا أمام مجتبى خامنئي وأنصاره في هذا الشأن، بما اكتسبه من خبرة سياسية في ممارسة السلطة التنفيذية ومن قبلها السلطة القضائية، ومعروف ببراءة ذمته المالية، خاصة أنه كان رئيسا لأضخم مؤسسة خيرية في العالم الإسلامي (مؤسسة العتبات الرضوية المقدسة) فضلا عن أنه كان حاصلا على دكتوراه الفلسفة في العلاقات الدولية. والأهم من ذلك أنه كان تلميذا نجيبا ومقربا للمرشد الأعلى، وتسانده السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية، وتؤيده رموز التيار الأصولي المتشدد وفقهاء الحوزة العلمية بقم، المؤمن بالولاية المطلقة للفقيه، والالتزام الحرفي بأوامر الخميني ونواهيه، والتطبيق غير المشروط لجميع قيم الثورة وضوابطها المذهبية، وقمع الاحتجاجات الشعبية، وانتهاج سياسة خارجية مناهضة لإسرائيل وتصدير الثورة. فضلا عن أنه كان تيارا معارضا للاتفاق النووي، الذي تم التوصل إليه عام 2015م، وداعم لعسكرة البرنامج النووي وتصنيع أسلحة الدمار الشامل، وتعزيز قدرات إيران الصاروخية لأبعد مدى. ويعتمد على دعم فريق كبير من قيادات الحرس الثوري، الذي يعطي بدوره أولية للتقرب إلى روسيا، أكثر من التقارب مع الصين، الذي يتبناه نجل المرشد الأعلى وتسانده في ذلك قيادات الأجهزة الأمنية وأجهزة الدعاية وفريق كبير من القيادات المنتفعة من استحواذ الحرس الثوري على المؤسسات والأصول الاقتصادية الكبرى بالدولة.
وعلى الرغم من أن وفاة إبراهيم رئيسي أفسحت المجال أمام مجتبى خامنئي. ليصح مرشحا أقوى لخلافة والده، إلا ديناميات النظام على المدى القريب والبعيد، بما في ذلك خلافة المرشد الأعلى. ربما تحمل أبعادا أخرى. خاصة أن مجتبى لا يحظى بقبول شعبي، ومعروف أنه متشدد تتلمذ على يد آية الله «محمد مصباح يزدي» وكان يقف وراء قمع الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي سادت إيران، خلال السنوات القليلة الماضية، إضافة إلى شبهات الفساد المالي تلاحق سمعته بشكل كبير.
‌ب. تفاقم الأزمة الاقتصادية
لقي الرئيس الإيراني مصرعه، وسط وضع داخلي بالغ التوتر؛ بسبب التدهور الاقتصادي الناجم عن عدة عوامل مختلفة، منها وجود أزمة هيكلية وبنيوية ناجمة عن اعتماده على النفط والغاز؛ وسوء الإدارة، وفساد الجهاز البيروقراطي، وإيلاء المناصب الإدارية العليا لقادة الحرس الثوري، وهجرة الكفاءات المتخصصة. على نحو أفضى إلى تباطؤ نمو القطاع الخاص وتراجع الاستثمارات، خاصة في ظل استحواذ أجهزة الحرس الثوري على الكيانات الاقتصادية الكبرى. إلى جانب العقوبات المفروضة على نظامه المصرفي، التي عزلت البنوك الإيرانية عن نظام سويفت والمعاملات الدولية، وعمقت أزمة العملات الأجنبية، وأفقدت العملة الوطنية 20% من قيمتها، فقد وصل سعر الدولار، في 26 أبريل 2024م، لـ 62800 ريالا
ومن المعروف أن الولايات المتحدة تفرض عقوبات على أكثر من 748 كيانا، أهمها البنك المركزي (سبتمبر 2019م) والحرس الثوري (أبريل 2019م) وهيئة استغلال وتطوير المناجم (مايو 2019م) فضلا عن قطاعات الطاقة والبتروكيماويات والسيارات والشحن والتأمين. إضافة إلى قانون كاتسا الذي أقره الكونجرس، عام 2017م، لفرض إجراءات صارمة على برنامج الصواريخ الباليستية وأسلحة الدمار الشامل، وبيع أو نقل المعدات العسكرية لإيران أو تقديم المساعدة التقنية أو المالية ذات الصلة بها
وكان لهذا الوضع الاقتصادي المتدهور تداعيات أخرى خطيرة، فقد ذكر موقع «اقتصاد24» أن مؤشر التضخم بلغ، فيما بين سبتمبر 2020 وسبتمبر 2023م، حوالي 45٪، ووصل إلى حوالي 145٪ بالنسبة للمواد الغذائية، ومن ثم تضاعفت أسعار السلع والخدمات والإسكان ثلاثة أمثال، وتقلصت قدرة المواطنين الشرائية بشكل حاد. كما ازداد عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر، الذي حددته الدولة، في مارس 2023م، لمن يقل مستوى دخله عن 400 دولار. وأنه بناءً على هذا المؤشر، هناك أكثر من 30٪ من الإيرانيين ـ أي حوالي 26 مليون نسمة ـ يعيشون تحت خط الفقر.
الأمر الذي ترتب عليه تفاقم الاستياء الشعبي، الذي عبرت عنه مظاهر الفرحة العارمة التي شهدتها بعض المدن الإيرانية، فور الإعلان عن سقوط طائرة إبراهيم رئيسي، كما عبرت عنه من قبل الاحتجاجات الشعبية المتكررة، التي تمثل أخطر تحد يواجه استقرار النظام. خاصة التي وقعت، بين عامي 2017 و2023م، اعتراضا على ارتفاع الأسعار، وخفض الدعم الحكومي، والتأخر في دفع المرتبات والبدلات ومعاشات التقاعد، وظروف العمل السيئة، وارتفاع معدل البطالة إلى 22٪ بين الشباب. الذين يمثلون، وفقا لإحدى الدراسات، 63% من السكان، وتتسع الفجوة بينهم وبين النظام يوما بعد الآخر، خاصة أنهم الأكثر ارتيادا لشبكة المعلومات الدولية ومنصات التواصل الاجتماعي، وباتوا على اقتناع تام بأن قيم الثورة لم تعد تناسبهم أو تلبي طموحاتهم نحو المستقبل، ومصممون على تجاهل الضوابط التي تفرضها الحكومة والقوى المحافظة عليهم بالأماكن العامة، بما في ذلك الحجاب، ولا يزالون يطالبون بتوسيع نطاق الحريات العامة في المجتمع.
وقد أشارت دراسة لمركز بحوث الثقافة والفنون والاتصالات التابع لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إلى أن حوالي 73% من السكان يؤيدون فصل الدين عن الدولة. على نحو يدل على زيادة اتجاه المجتمع الإيراني نحو العلمانية، وهو الأمر الذي يعزز مخاوف النظام حيال مستقبل ولاية الفقيه وإسلامية النظام، ويقدم لنا تفسيرا لأسباب هيمنة الأصوليين على سلطات الدولة ومؤسساتها.
وبالتالي، يمكن القول إن نظام ولاية الفقيه بات يواجه أزمة شرعية داخلية، بدليل أنه لم يعد قادرا على ممارسة هذه الولاية بطريقته التقليدية، فضلا عن أن مصرع المرشح الأوفى حظا لمنصب الولي الفقيه سوف تؤدي إلى مزيد من ضعف السلطة وفقدان هيبتها. لكن هذا لا يعني انهيارا تلقائيًا للنظام القائم، طالما المرشد الحالي على قيد الحياة، خاصة أن سياسات النظام الداخلية قضت على أي فرص لوجود بدائل له. الأمر الذي ربما يدفع المجتمع إلى دائرة الفوضى في أي وقت طالما توفرت الدوافع الداخلية والعوامل الخارجية لذلك.
2. الدلالات الخارجية
مما لا شك فيه أن مصرع الرئيس الإيراني جاء في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد. خاصة أنه يتزعم التيار الذي يروج للتعدد القطبي، الذي تدعو إليه روسيا والصين، على اعتبار أنه سوف يسهم في تحسين مكانة إيران الدولية، كما يفسح المجال أمام تشكيل نظام إقليمي جديد، ربما تنفرد فيه إيران بالهيمنة، على نحو يدفع الدول العربية، على خلفية الانخفاض الملحوظ في الوجود الأمريكي، إلى الاقتراب أكثر منها. كما يؤمن بأن صرامة مواقف إيران الإقليمية لن تزيد من عزلتها الخارجية، بقدر ما تعزز طموحاتها للاضطلاع بدور القوة الإقليمية التي يمتد تأثيرها حتى القرن الأفريقي، ويذعن لها الخصوم والمنافسون. خاصة أن الصراعات المحتملة في المستقبل المنظور قد تنشا حول الممرات الاقتصادية أو بسببها. وبالتالي ربما كانت محاولات إيران لتشكيل أنماط القوة الإقليمية وتفاقم صارعها مع إسرائيل تقف وراء ترجيحنا فكرة التآمر الخارجي للتخلص من إبراهيم رئيسي، ضمن عمليات محدودة متتالية تزلزل النظام الإيراني وتدمر خططه وأهدافه دون أن تسقطه.
‌أ. محاولة تشكل أنماط القوة الإقليمية
يعتقد البعض أن سياسة إيران الخارجية ذات طبيعة أيديولوجية وغير واقعية، ولكنه اعتقاد مناف لحقيقة الأمر؛ نظرا لأنها ملتزمة بجملة من الضوابط والتوازنات المعقدة والأبعاد السياسية والاقتصادية المتباينة داخليا وخارجيا لحماية مصالحها. كما أنها تتبنى مقاربة متوازنة في سياستها الخارجية تمازج بين الأيديولوجية والواقعية معا. على نحو ساعدها على تحويل التحديات لفرص ومقاومة الضغوط والعقوبات التي جابهتها. ولعل محور المقاومة الإسلامية يعد نموذجا تطبيقيا لهذه المقاربة ذات الطابع الأيديولوجي والجوهر الواقعي، الذي خلق لإيران عمقا استراتيجيا بغرب آسيا، يضم العراق وسوريا ولبنان واليمن، زاد من وزنها النسبي ومنحها القدرة على إعادة تشكيل أنماط القوة الإقليمية على نحو مكنها من مجابهة الخصوم بأقل تكلفة، وإدارة المواجهات غير المتكافئة مع القوى المعادية، وضمان حماية أمنها القومي. وجعل لديها القدرة أيضا على التحكم في دينامية العلاقة بينها وبين مكونات هذا المحور على مستوى الدور والخطط والمهام، والمكاسب الإقليمية، والموازنة بين التهديدات ومتطلبات الأمن الجماعي والدفاعي المتبادل، على نحو برهن على أن إيران تتخذ قرارتها السياسية والعسكرية بعناية، فلا تُستدرج لصراع قد يفقدها مكاسبها الجيوسياسية بالمنطقة .
لقد أثبتت إيران خلال السنوات الماضية، وعلى نحو يثير قلق القوى الدولية الفاعلة ومخاوف القوى الإقليمية، أن ديناميات الشرق الأوسط تعتمد إلى حد ما على قرارتها، وأنها أصبحت الورقة الأكثر أهمية بالمنطقة، وأن إنشاء أي نظام أمني مستقر من الصعب أن يقوم بدونها، أو على أقل تقدير ليس ضدها. ولهذا بدا أن تحييد نفوذ إيران الإقليمي كان بمثابة الهدف الذي اجتمعت عليه هذه القوى، وإن اختلفت منطلقاتها. إضافة إلى ذعر إسرائيل من النجاح الذي حققته إيران في تحسين علاقاتها الإقليمية حتى مع أعتى منافسيها الإقليميين. عندما وقعت اتفاق مصالحة مع السعودية، في مارس 2023م، وفي نفس الوقت الذي نجح فيه إبراهيم رئيسي في ضم إيران لتجمع البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، كانت وزارة خارجيته تجري مباحثات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، من 2021 حتى 2023م، بشأن الاتفاق النووي والإفراج عن الأرصدة المجمدة، وكان من المفترض أن تستأنف هذه المباحثات في الوقت المناسب؛ بهدف الإفراج عن بعض الأرصدة الأخرى، ورفع العقوبات وفتح الأسواق العالمية أمام صادراتها، واستقطاب الاستثمارات المطلوبة لتطوير بنيتها التحتية المتهالكة.
‌ب. الصراع مع إسرائيل
رأت إيران، أن عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م، بمثابة الفرصة المواتية لقياس قدرتها على استهداف إسرائيل بشكل مباشر وغير مباشر وإرباك حساباتها هي والولايات المتحدة. غير أن ذلك أزعج حلفائها، أولهم الصين التي وقعت معها اتفاقية للتعاون الشامل في مارس 2021م لدرجة قد تؤدي إلى تخليها عن النفط الذي تستوده منها، إذا لم تضع حدا لاستهداف جماعة أنصار الله الحوثي أمن الملاحة بالبحر الأحمر. وبالتالي أرادت أن تثبت أن ضربتها الانتقامية التي نفذتها ضد إسرائيل، مساء يوم 13 أبريل 2024م، ردا على قصفها مبنى القنصلية الإيرانية بدمشق، في الأول من أبريل، راعت الخطوط الحمراء، بعدم دفع المنطقة نحو صراع إقليمي واسع، قد يؤدي لتدفق المزيد من القوات أمريكية، أو يعرضها لمزيد من العقوبات والضغوط الخارجية. في وقت تنشغل فيه بالاستعداد لنقل السلطة بشكل سلمي، حال وفاة المرشد الحالي.
وثمة صلة ما بين مصرع إبراهيم رئيسي وبين الصراع القائم بين إيران وإسرائيل، على الرغم من نفي إسرائيل وجود علاقة لها بسقوط مروحية الرئيس الإيراني، نظرا لأن ملابسات الحادث ترجح احتمال وجود مؤامرة خارجية وتواطؤ داخلي لإسقاط الطائرة التي كانت تقله فوق تضاريس وعرة، تعقد مهمة فرق الإنقاذ وتعيق حركتها حتى حلول الظلام، خاصة مع هطول الأمطار المستمر وزيادة الكثافة الضبابية على نحو يحول دون إنقاذه، ويثير التساؤلات أيضا حول الأسباب والدوافع التي جعلت مسئولين يستقلون معا طائرة واحدة. خاصة أن التخلص من رئيسي جاء فور انتهاء زيارته لجمهورية أذربيجان، التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع إسرائيل.
ومن المعروف أن إسرائيل تسعى لتطويق إيران إقليميا، عبر تعزيز أوجه التعاون الأمني والعسكري مع الدول المحيطة بها، بوصفه جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيتها لتحييد تهديداتها. فنجحت في تعزيز علاقاتها مع جمهورية أذربيجان، الواقعة على شمال غرب إيران، وخلقت نفوذا قويا داخل الهيكل السياسي والدبلوماسي والعسكري والأمني والدفاعي الأذربيجاني، أنشأت بموجيه أضخم محطة تجسس تعاقدية بمنطقة القوقاز على طول الحدود مع إيران. إضافة إلى مطار عسكري، والمشاركة مع أنقرة وباكو في تشييد مصنع مشترك للطائرات المسيرة. كما أنها نفذت، بالتعاون الاستخباراتي والأمني مع أذربيجان وبدعم الـ CIA، مجموعة من العمليات النوعية ضد منشآت إيران النووية، مثل تدمير أجهزة الطرد المركزي بمفاعل «نطنز» بواسطة فيروس «ستوكس نت» (Stoxx Net) والسطو على وثائق البرنامج النووي والصاروخي الإيراني بمنطقة «تورقوزآباد» القريبة من طهران عام 2018م، عبر الحدود الأذربيجانية ـ الإيرانية، بوصفها الطريق الأقرب والأكثر أمانا الذي سهل لإسرائيل تهريب هذه الوثائق السرية للغاية.
كما نجحت في تفجير أكبر منشأة لتخصيب اليورانيوم وتصنيع واختبار أجهزة الطرد المركزي بمفاعل نطنز في 2020م، ومنشأة إنتاج الوقود السائل للصواريخ البالستية بمنطقة «بارشين» قرب طهران، واغتيال المهندس «محسن فخري زادة» في نفس العام، على نحو عكس إلى قوة اختراق إسرائيل والأجهزة الخارجية لمنظومة إيران الأمنية والعسكرية، ومدى هشاشة البنية المعلوماتية للحرس الثوري على أقل تقدير، وعدم التنسيق الكافي بينها وبين الأجهزة الأخرى بالدولة. وقد توازى مع هذه العمليات شن الهجمات السيبرانية المتبادلة بين البلدين. أهمها الهجوم الإسرائيلي الذي أفشل إطلاق القمر الصناعي الإيراني «ظفر» عام 2020م، وقطع الانترنت عن عموم إيران. ولكن سرعان ما أطلق الحرس الثوري، في نفس العام، قمرا يحمل اسم «نور-1» هو الأول من نوعه في المجال العسكري، وتتنوع أغراضه بين أغراض استخباراتية وعسكرية واستطلاعية.
وفي إطار التحركات الإسرائيلية لتطويق إيران، افتتح وزير الخارجية «إيلي كوهين» في 20 أبريل 2023م، سفارة لبلاده بمدينة «عشق أباد» عاصمة تركمانستان. التي تبعد عن حدود إيران 17 كيلومتراً فقط لتزيد من قدرة إسرائيل على اختراقها من جهة حدوده الشمالية الشرقية بمنطقة آسيا الوسطى. خاصة بعد أن أسفر الصراع الذي نشب بين أرمينيا وأذربيجان، في 27 سبتمبر 2020م، حول إقليم ناجورنو قره باغ، عن وضع جيوسياسي بمنطقة القوقاز عزز مكانة إسرائيل الأمنية والعسكرية على حدود إيران الشمالية الغربية، بما يحمله ذلك من تهديد لأمنها القومي؛ لا سيما أن ذلك الصراع كان له تأثير قوي على داخل إيران، بسبب وجود قومية آذرية، هي ثاني أكبر قومية في التركيبة السكانية بعد القومية الفارسية، ومولعة باستعادة تاريخها المتراكم في محاولات الانفصال عن الدولة الإيرانية. فضلا عن التأثير الطائفي استنادا لوجود الأرمن، بوصفهم أقلية مسيحية معترف بها في الدستور

3. الانعكاسات المحتملة
على الرغم من أن الرئيس الإيراني هو رأس الدولة، إلا أنه طبقا لبنية النظام، ليس أعلى سلطة من المرشد الأعلى. ومن ثم فإن وفاته المفاجئة لن تكون لها تأثير كبير على سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي. بقدر ما أنها أثارت تساؤلات حول من سيكون خلفا له، ومن سيخلف المرشد الأعلى، على نحو يمكن أن يزيد الجدل حول مستقبل منصب المرشد الأعلى. وبالتالي يمكن ترجيح الاحتمالات التالية، في ضوء غياب رئيس الجمهورية ووزير خارجيته، على النحو التالي:
‌أ. على المستوى الداخلي
من المستبعد أن يحدث تغيير كبير يتعلق بنظام الحكم واستراتيجية الدولة الشاملة؛ نظرا لأن المرشد لايزال قائما في منصبه.
على الرغم من أن وفاة رئيسي، وعدم وجود بديل مناسب له، أفسح المجال أمام مجتبى خامنئي ليحل محل والده مستقبلا، إلا أن اقتراح استبدال منصب المرشد الأعلى بهيئة ولاية جماعية، أو تقليص صلاحياته الدستورية وزيادة صلاحيات منصب رئيس الجمهورية، وإعادة منصب رئيس الوزراء، ربما يكون خيارا مطروحًا في المستقبل المنظور؛ لحل معضلة خلافة المرشد الحالي. ولكنه خيار يمكن أن يضعف ولاية الفقيه المطلقة ودورها في النظام القائم، ويصب أيضا في مصلحة الحرس الثوري بوصفه المكون العسكري الأقوى للنظام، الذي يهيئ الفرص داخليا وخارجيا لتعزيز سيطرته السياسية والاقتصادية بالدولة، على نحو يشبه الانقلاب الناعم.
من المرجح أن تنحصر المنافسة الانتخابية على منصب الرئاسة بين الأصوليين والمحافظين، حفاظا على مواصلة استراتيجية الدولة داخليا خارجيا. ولكن الأهم هو أن الذي سوف يفوز فيها هو المرشح السيادي الذي سيحظى بدعم المرشد الأعلى والحرس الثوري، بالتنسيق مع مجلس صيانة الدستور، بوصفه المخول الحصري بمنح أهلية الترشح للمتقدمين للمنافسة الانتخابية.
سوف تنحصر ديناميات التيار الأصولي المتشدد على كيفية احتفاظه بدوره المركزي داخل دائرة المرشد الأعلى؛ بهدف حماية ولاية الفقيه المطلقة وإسلامية الدولة وجمهورية النظام. وخلق شكل موحد لقمة هرم السلطة.
من غير المرجح أن يخوض الإصلاحيون المنافسة الانتخابية على منصب الرئاسة التي سوف تجري يوم 28 يونيو الجاري.
‌ب. على المستوى الخارجي
من الملاحظ أن الحكومة الإيرانية لم تتهم حتى الآن أي جهة خارجية أو داخلية في تحطم المروحية، ربما تجنبا لتصعيد التوتر في ظل الظروف الحلية التي تمر بها البلاد
لن تؤثر وفاة وزير الخارجية على أداء الجهاز الدبلوماسي، نظرا لضعف دوره في عملية صنع واتخاذ القرار، مقارنة بمركزية مكتب المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني نظرا لأنهما الفاعلان المركزيان في سياسة إيران الخارجية والدفاعية، بالتعاون مع مجلس الأمن القومي الأعلى. وبالتالي ليس هناك احتمال لأن يحدث أي تغيير في المواقف الإيرانية، على المدى المنظور؛ خاصة أن فيلق القدس يضطلع بدور بارز في الأحداث الجارية بمنطقة الشرق الأوسط عبر الوكلاء الإقليميين.
من المحتمل أن يولي النظام اهتمام أكثر بمعالجة أزمته الداخلية، لتقليص أي تداعيات سلبية يمكن أن تواجه مرتكزات محور المقاومة في العراق ولبنان وسوريا وغزة واليمن.
سوف ترتبط الضغوط المتبادلة بين إيران وإسرائيل، بمدى تطور الصراع الدائر في غزة، إلى جانب الضغوط الدولية عليهما.
من المحتمل أن تواصل إيران الحوار مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي