التفاعلات الإقليمية والدولية في ظل المتغيرات الراهنة
بواسطة :
إشكالية الدراسة
في ظل تفاقم التحديات الإقليمية ومساعي القوى الكبرى نحو إعادة تشكيل التوازنات الاستراتيجية تطرح هذه الدراسة تساؤلها الرئيسي: ما طبيعة العلاقات الدولية في ظل المتغيرات الراهنة وانعكاساتها على الأمن القومي المصري؟ والذي يتفرع منه تساؤلات فرعية أخرى، هي:
ما طبيعة التوترات في المناطق محور الدراسة (الشرق الأوسط، البحر الأحمر، شرق المتوسط)
ما طبيعة الرؤية الأمريكية، والصينية، والروسية للنظام الدولي في ظل الأوضاع الراهنة؟
ما هي انعكاسات الأوضاع الراهنة على الأمن القومي المصري؟
أهمية الدراسة
تتمثل أهمية هذه الدراسة في محاولة تقديم تحليلاً متماسكًا للأوضاع الراهنة في المناطق محور الدراسة، حيث تتشابك مصالح مختلف القوى الإقليمية والدولية في سياق تحولات ومتغيرات متسارعة، حيث الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة. والتوتر المتزايد بين إيران وإسرائيل، والارتباط الوثيق بين تلك التحديات وبين تفاقم التوتر في البحر الأحمر وتداعياته على الأمن القومي المصري.
أهداف الدراسة
تهدف الدراسة إلى تحليل أبعاد العلاقات الدولية في ظل الأوضاع الراهنة مع التركيز على الحرب في غزة وتأثيراتها الإقليمية والدولية. وكذا التركيز على التوتر بين إيران وإسرائيل؛ بوصفه نموذجًا للصراع بين القوى الإقليمية، مع إبراز طبيعة التحولات بمنطقة البحر الأحمر؛ باعتبارها غير منفصلة عن هذا الصراع، وتحليل انعكاساته على الأمن القومي المصري.
أولاً: مظاهر التوتر بمنطقة الشرق الأوسط
1. الحرب الإسرائيلية على غزة
في السابع من أكتوبر 2023م، تجدد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ثم أخذت رقعته تتسع لتشمل الأطراف الأخرى المكونة لمحور المقاومة الإسلامية الموالي لإيران، سواء في لبنان حيث حزب الله، أو في اليمن حيث جماعة أنصار الله، أو في العراق حيث الفصائل المسلحة. وفي المقابل أخذت إسرائيل تنتقم منها جميعا بضراوة، مستخدمة كل أنواع الأسلحة، ومنتهكة لكل القوانين الدولية، على نحو أوضح أن نواياها الاستراتيجية تتجاوز مجرد القضاء على حركة حماس وقوة حزب الله.( )
وقد أسهم هذا الصراع الدائر بالمنطقة، منذ أكثر من عام، في زيادة التوتر بين القوى الفاعلة كما أظهر مدى تقاطع المصالح بينها، وأعاد المنطقة إلى قائمة الأولويات الأمريكية، وأسقط أي حديث عن انسحاب محتمل منها، خاصة أنها لم تتردد في تقديم أي دعم أو مساندة لإسرائيل.
2. احتدام التوتر بين إسرائيل وإيران
أسهمت الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل في احتدام التفاعلات الإقليمية والدولية، خاصة أن كلا منهما يعد الآخر مصدر تهديد له، فلا تعترف إيران بإسرائيل فقط، بل وتدعم محور المقاومة المعادي لها؛ وتعد إسرائيل عقبة أمام تحقيق طموحاتها الإقليمية. بينما تعد إسرائيل قدرات إيران العسكرية، وبرنامجها النووي على وجه التحديد تهديدا وجوديا لها، ينبغي تحييده.( ) ومن جانبها، تسعى الولايات المتحدة إلى احتواء النفوذ الإيراني في المنطقة بما يحقق مصالحها في المنطقة ويحمي أمن إسرائيل ويحقق الأمان لحلفائها الإقليميين. بينما تسعى القوى الدولية المنافسة لها إلى الحد من انفرادها بالهيمنة على الشرق الأوسط. وقد أسفرت كل هذه التفاعلات عما يلي( ):
فشل نظرية الردع الاستراتيجي الإسرائيلية في مجابهة التهديدات الإقليمية، لا سيما الإيرانية.
عدم فعالية استراتيجية الردع المتبادل بين الفواعل من غير الدول من جهة (محور المقاومة) وبين القوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى (الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الغربية)
عادت منطقة الشرق الأوسط ضمن أولويات الاهتمام الأمريكي بعد أن تراجع لصالح اهتمامها بمنطقة الإندو باسفيك، خاصة أن استمرار الصراع بالشرق الأوسط يؤثر على مصالحها بشكل مباشر. لا سيما أن إيران تصر على التمسك بنفوذها الإقليمي، وتسعى لإخراج القوات الأمريكية من العراق وسوريا.
فرض العدوان الإسرائيلي على غزة ضغوطًا على الدول العربية التي اتجهت إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، على نحو فرض جمودًا على الاتفاق الإبراهيمي الذي أبرم برعاية أمريكية. فضلا عن تزايد الانقسامات الإقليمية بشأن سبل التعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ساد التوتر منطقة الشرق الأوسط، على نحو قد يدفع القوى الإقليمية إلى سباق تسلح محموم، تحسبا لتوسع نطاق دائرة الصراع المحتدم بالمنطقة إلى حرب إقليمية شاملة.
3. التوتر الكامن بمنطقة شرق المتوسط
وصف بعض المراقبين البحر الأبيض المتوسط بأنه البحر الأكثر عسكرة بالعالم؛ في ظل تقاطع المصالح وتفاقم المنافسة بين القوى الإقليمية والدولية، وذلك لأسباب عديدة، منها أهمية منطقة شرق المتوسط الاستراتيجية والجيوقتصادية، خاصة أنها تحتوي على مخزون كبير من الغاز والنفط. إضافة إلى أنها تعد بؤرة خلاف عميق، بل ونزاع لم يتم فضه حتى اليوم، بين تركيا من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى، على نحو ينذر بأن أي تصعيد محتمل بشأنه بين الجانبين قد يفضي إلى تداعيات خطيرة على الأمن الإقليمي والدولي.
ومن المعروف أن الخلاف التركي اليوناني بدأ حول السيادة على بعض الجزر، ثم تطور ليمتد إلى جزيرة قبرص، وزادت حدته، فيما بين عامي 2019-2020م، بعد الاكتشافات الواعدة للغاز الطبيعي على سواحل بعض الدول. وعلى الرغم من أن هذا الخلاف يشهد، في الوقت الراهن تهدئة مؤقتة، إلا أنه قد يندلع مجددا. ناهيك عن غياب الثقة المتبادلة بين بعض الأطراف الأوربية بشأن جدية التوصل لحل هذا الخلاف. ومن ثم، لا يزال متأرجحا بين محاولات التهدئة والتصعيد، وتشكيل تحالفات بشأنه وتحالفات مضادة لها.( )
ثانيًا: مظاهر التوتر بمنطقة البحر الأحمر
يعد البحر الأحمر من أهم الممرات الدولية، نظرًا لموقعه الاستراتيجي الواصل بين الشرق والغرب، ومحوريته بالنسبة لحركة التجارة والاقتصاد العالمي والاستقرار الإقليمي. غير أن التفاعلات الدولية الراهنة تتسم بالتوتر الشديد وشدة التنافس؛ إذ تسعى كل القوى الفاعلة إلى تعزيز نفوذها الاستراتيجي بهذه المنطقة، التي تشهد بدورها صراعات محلية وإقليمية تؤثر على استقرارها. وقد برزت مظاهر هذا التوتر فيما يلي:
1. تفاقم التنافس الدولي
تعد منطقة البحر الأحمر منطقة تنافس بين الولايات المتحدة ولصين وروسيا؛ فلكل منها مصالحه الخاصة وأهدافه المختلفة، إذ تعمل الولايات المتحدة على تكثيف وجودها العسكري بهذه المنطقة منذ استهداف أنصار الله الحوثية حركة الملاحة الدولية واستغلال ذلك في مواجهة الصين وروسيا اللتان وصفتهما استراتيجية البيت الأبيض لعام 2022م، بأنهما يمثلان تحديًا للأمن القومي الأمريكي والسياسة الخارجية الأمريكية بمناطق نفوذها الرئيسية؛ مما استدعى تعزيز قوتها بالبحر الأحمر بوصفه أحد المناطق الجيوسياسية المهمة ( )
وقد برز ذلك من خلال تعزيز عمل القوة البحرية المشتركة، التي تأسست تحت مظلة الأسطول الخامس، عام 2002م، وتغطي مساحة شاسعة تمتد من الساحل الغربي للهند حتى البحر الأحمر. وقوة المهام المشتركة 151 الموكلة بتجفيف منابع القرصنة خاصة الصومالية، وقوة المهام المشتركة 152. كذلك شكل الاتحاد الأوروبي قوة ‹حارس الازدهار› و‹أسبيدس› اللتان سيتم الإبقاء عليهما حتى توقف الهجمات الحوثية على الملاحة بالبحر الأحمر. ولا شك أن كل هذه الإجراءات تمنح الولايات المتحدة فرصة مراقبة أي تحرك صيني، أو روسي أو إيراني نشط بهذه المنطقة، وتضييق الخناق حول القاعدة الصينية في جيبوتي، التي لطالما اعتبرتها الولايات المتحدة خطرًا على قاعدتها في ليمونيه. إضافة إلى مراقبة المناورات المشتركة بين الصين وروسيا وإيران في المنطقة. كما أن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة يجعل 60% من صادرات الصين المتجهة إلى أوروبا عبر البحر الأحمر، تحت مراقبتها، ويساعد في تحجيم الرؤية الصينية نحو عالم متعدد الأقطاب. فضلا عن مواجهة النفوذ الروسي المتنامي في المنطقة، والذي بدا بالسيطرة على ميناء طرطوس بسوريا، ثم التواجد بميناء بورتسودان على البحر الأحمر بموجب اتفاق مع السودان.( )
وهكذا، يتفاقم التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا؛ فالولايات المتحدة تسعى إلى تعزيز هيمنتها على المنطقة من خلال تواجدها العسكري المكثف، بينما تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها الاقتصادي عبر مشاريع البنية التحتية. كما تعمل الولايات المتحدة على استغلال التوتر بالبحر الأحمر وتهديد أنصار الله الحوثية للملاحة في عسكرة البحر الأحمر وقطع الطريق أمام احتمالية زيادة النفوذ الصيني في المنطقة. ومن ناحية أخرى، فإن الوجود العسكري الغربي بالبحر الأحمر ينعكس بصورة مباشرة على الصعود الصيني في المنطقة وتطويق مبادرتها. إضافة إلى مواجهة النفوذ الروسي، وكبح النفوذ الإيراني؛ مما يوحي باحتمالية تحول المنطقة إلى ساحة صدام بين الولايات المتحدة وبين هذه القوى المنافسة.
2. احتدام النزاعات الداخلية:
مما لا شك فيه أن الأزمات الداخلية التي تشهدها الدول المطلة على البحر الأحمر تؤثر على أمن المنطقة؛ فعدم الاستقرار في السودان، ومعضلة بناء الدولة في الصومال، واستمرار الصراع على السلطة في اليمن، من بين أكثر الأزمات تأثيرا وتعقيدا؛ خاصة في ظل تدخل قوى إقليمية ودولية. إضافة إلى أن النزاعات المستمرة بين دول المنطقة تمثل تجسيدا لهذا التدخل، مثل النزاع الذي دار بين اليمن وإريتريا حول جزر حنيش وحقوق الصيد، والخلافات الإثيوبية الإريترية المستمرة. ناهيك عن النزاع بين مصر والسودان من جهة وبين إثيوبيا من جهة أخرى بشأن سد النهضة، والخلاف الإثيوبي الصومالي الناجم عن المساعي الأثيوبية للحصول على منفذ بحري لها بميناء بربرة، بالاتفاق مع إقليم صومالي لاند الانفصالي غير المعترف به. زد على ذلك النزاع بين الحكومة الإثيوبية وأقاليم تيجراي وأورومو وأمهرة وغيرها. والتي تهيئ في مجملها بيئة مواتية لتنامي الجماعات الإرهابية وعصابات القرصنة البحرية على نحو يهدد أمن واستقرار المنطقة على المدى الطويل.( )
ومن بين أبرز مظاهر التوتر الأخرى بمنطقة البحر الأحمر، تفاقم التنافس التركي الإماراتي؛ إذ عملت تركيا على تعزيز وجودها بهذه المنطقة عبر تعزيز علاقاتها بالدول الإفريقية المطلة على البحر الأحمر والقرن الأفريقي، فوقعت مع الصومال اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي، في فبراير 2024م، إضافة إلى اتفاقيات للتعاون العسكري والاقتصادي مع جيبوتي. كما توسطت لحل الخلافات بين الصومال وإثيوبيا.( ) ولا شك أن هذه الوساطة عبرت بشكل أو بآخر عن مدى التنافس التركي الإماراتي، خاصة أن الإمارات لعبت دورًا محوريًا في إبرام إثيوبيا اتفاقا مع إقليم أرض الصومال بشأن ميناء بربرة المشار إليه. وقد ينذر التنافس التركي الإماراتي بخلق منطقة احتكاك جديد بين الطرفين تزامنًا مع تزايد النفوذ العسكري والأمني الإماراتي في هذه المنطقة.
ويتبين لنا مما سبق، أن التنافس الدولي بمنطقة البحر الأحمر، اتسم في ظل الأوضاع الراهنة بالتعقيد، خاصة بعد أن أصبحت نقطة تقاطع رئيسية للمصالح الدولية والإقليمية على نحو أجج الصراعات والنزاعات المحلية. ومن ثم يشهد البحر الأحمر مواجهات بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وإسرائيل من جهة، وبين أنصار الله للحوثي المدعومة من إيران من جهة أخرى. خاصة في ظل مساعي طهران لتعزيز نفوذها بهذه المنطقة، منذ نشوب الصراع بين قوات التحالف العربي بقيادة السعودية وبين أنصار الله، عام 2015م
3. امتداد المواجهات إلى منطقة البحر الأحمر:
لا يمكن إنكار احتدام التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا والصين على منطقة البحر الأحمر، كما لا يمكن تجاهل أن النفوذ الإيراني المتزايد بالمنطقة، الذي كان من بين الأسباب لتحولها إلى ساحة صدام وتنافس بينها وبين القوى الإقليمية الأخرى خاصة إسرائيل، فقد سبق ودعمت الجماعات الإرهابية والمتطرفة في الصومال، ثم كونت جماعة أنصار الله الحوثية باليمن، ودفعت مقاتليها لشن هجمات باتجاه إسرائيل، واستهداف حركة الملاحة البحرية والقطع العسكرية الأميركية والغربية، ردا العدوان الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان( )
وقد أفضى ذلك في مجملة إلى تفاقم التوترات الأمنية المرتبطة بالصراع في اليمن والسودان، وزاد من وتيرة الضغوط على السعودية ومصر، مثلما زاد من توتر العلاقات البينية العربية؛ فينما تسعى السعودية والإمارات إلى التأثير على الوضع في اليمن، تعمل مصر على حماية مصالحها في المنطقة وتجنب المواجهة مع الحوثيين.
ثالثا: تباين الرؤى حيال النظام الدولي
الرؤية الأمريكية: تتسم الرؤية الأمريكية للنظام الدولي، في الوقت الراهن، بالتركيز على المنافسة الجيوسياسية مع القوى الكبرى، والتأكيد على أن هذا النظام قائم على المؤسسات الدولية والهيمنة الديمقراطية، وفي نفس الوقت مجابهة التحديات التي تواجه مصالحها بمنطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر، واستغلال الأوضاع بها لتعزيز نفوذها فيها.
وتتأثر الرؤية الأمريكية للنظام الدولي بكل ما يرتبط بأمنها القومي وسياستها الخارجية، ومن ثم تحرص على الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى داخل النظام الدولي. خاصة بعدما كشفت الحرب في غزة عن فشلها في فرض نموذجها الليبرالي، وكبح التحديات المختلفة، سواء الناجمة عن صعود قوى أخرى منافسة مثل الصين وروسيا ومن ثم فهي تحاول مواجهة هذه التهديدات، بالتزامن مع مواجهة التهديدات الأمنية بمناطق نفوذها، مثل التهديدات الماثلة بمنطقة الشرق الأوسط. كما عادت لتلعب دورًا مهمًا ضبط تطورات الصراع فيها، وإعادة التوازن في علاقاتها المتوترة مع إيران، مع ضمان استمرارية تحالفاتها مع إسرائيل ودول الخليج، مع محاولة تقليص النفوذ الإيراني في اليمن وسوريا والعراق. والحفاظ على الاستقرار الإقليمي
الرؤية الصينية: تنبني الرؤية الصينية للنظام الدولي على مفهوم الاستقرار، والسعي لخلق نظام يقوم على التعددية والمساواة بدلاً من الهيمنة الأحادية، وانتهاج دور قيادي يجعلها قوة فاعلة مؤثرة في النظام الدولي، وتعزيز مكانتها الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية. ومن ثم تدعو الصين لتجاوز المفهوم الغربي والأمريكي للعالم أحادي القطبية، وخلق نظام متعدد الأقطاب يحفظ للنظام الدولي توازنه، ويلبي تحولاته الجيوسياسية وبناء عليه، تتبنى الصين استراتيجية منفتحة على العالم تقوم على فكرة التعاون الاقتصادي بالأساس وترى في التعددية القطبية فرصة لتعزيز علاقاتها مع الدول النامية وبناء علاقات مع الدول التي تشعر بأنها مستبعدة من النظام الدولي القائم. وبرز ذلك في مبادرة الحزام والطريق، والدعوة للحفاظ على الاستقرار الإقليمي وعدم الانخراط في النزاعات؛ مشددة على مفهوم السيادة الوطنية والتأكيد على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شونها الداخلية. ولكن هذا لا يمنع بروزها كقوة عسكرية في المناطق التي تعتبرها أمنًا قوميًا لها كبحر الصين الجنوبي وجنوب شرق آسيا.
الرؤية الروسية: تتسم الرؤية الروسية للنظام الدولي في ظل الأوضاع الراهنة بالتأكيد على ضرورة التعدد القطبي، ويتجاوز الهيمنة الأمريكية، وذلك من خلال دورها النشط في بعض المناطق كالشرق الاوسط الذي يعد ساحة رئيسية للصراع على النفوذ. فتسعى إلى تعزيز علاقتها مع الدول المنافسة للولايات المتحدة كإيران وسوريا كما تحاول التأكيد على قدرتها على التأثير في النزاعات الإقليمية مثل الحرب في غزة والأزمة السورية، وتسعى إلى استغلالها في تعزيز حضورها الدبلوماسي في الشرق الاوسط، وتشكيل نظام دولي يكون أكثر توازنًا ويعكس مصالح القوى الكبرى المختلفة في الأيديولوجيات والسياسات عن الرؤية الغربية. لذا تتجه روسيا إلى تدعيم علاقتها مع الصين والهند والدول التي تشاركها هدف إحداث توازن في النظام الدولي. ويبرز ذلك في تعاونها مع الصين بشكل وثيق في مجموعة البريكس ومنظمة شانغهاي. ناهيك عن أنها تسعى بشكل أساسي إلى الحفاظ على أمنها القومي وسيادتها الوطنية، والثبات على معارضة أي توسيع لنطاق حلف الناتو؛ استنادا إلى أنه يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي. بالإضافة إلى محاولاتها المستمرة لتعزيز وجودها في البحر الأسود.
وهكذا تقوم الرؤية الروسية للنظام الدولي على تعزيز قدرتها على تشكيل نظام دولي متوازن ويعكس التنوع الجيوسياسي والاقتصادي لديه شراكات استراتيجية مع القوى العالمية والإقليمية. وكذلك السعي إلى توسيع نفوذها في مناطق حيوية مثل الشرق الأوسط؛ لذا نلحظ أن مستقبل النظام الدولي متعدد الأقطاب يعتمد على قدرة روسيا وحلفائها على بناء شبكة من التحالفات المستقلة التي لا تعتمد على الغرب.
الرؤية العربية: تتأثر الرؤية العربية للنظام الدولي في ظل المتغيرات الراهنة بالعديد من العوامل، التي تعكس أولويات الدول العربية في التفاعل مع القوى الكبرى، فنجد أنها تحافظ على الاستقلالية الاستراتيجية، وتعزز التعاون مع القوى الكبرى بشكل مرن ومتوازن. بدأت تتجه إلى بناء علاقات تعاون مع الصين وروسيا لتنويع شراكاتها الدولية والاستفادة من فرصها الاقتصادية والاستراتيجية المتاحة. خاصة أن الصين باتت لاعبًا اقتصاديًا مهمًا ومؤثرًا في المنطقة، كما نجحت في التوسط للمصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران.
إضافة إلى أن اندلاع النزاعات بالمنطقة يشكل تحديًا أمام النظام الإقليمي العربي، حيث تؤثر الحرب في اليمن على العلاقات بين الدول العربية، كما تتفاوت التفاعلات العربية مع السياسات الإيرانية ونفوذها في العراق واليمن وسوريا، فتتجه دول الخليج عادة لدعم سياسة احتواء نفوذها، بينما تسعى بعض الدول الأخرى إلى تعزيز علاقاتها مع طهران.
رابعا: انعكاس التفاعلات الراهنة على الأمن القومي المصري
مما لا شك فيه أن الوضع الإقليمي الراهن، بما يتضمنه من عدوان إسرائيلي مستمر على الشعب الفلسطيني، وصراع إيراني إسرائيلي، وتهديد مستمر للملاحة بالبحر الأحمر، له انعكاسات كبيرة على الأمن القومي المصري، من حيث:
أن الأمن القومي المصري يواجه بتحديات على الحدود الغربية والشرقية؛ بسبب العدوان الإسرائيلي المستمرة على قطاع غزة. والذي يمكن، وفقا لمركز الأهرام للدراسات السياسية أن يؤثر على علاقة مصر بالولايات المتحدة. بالإضافة إلى التحديات الأخرى على الحدود الغربية، حال تجدد اندلاع الصراع الداخلي بليبيا على نحو قد يؤدي إلى زيادة تدفق اللاجئين والهجرة غير الشرعية إلى مصر؛ وبالتالي خلق أعباء أمنية لها، وزعزعة استقرارها الداخلي.
أثر استهداف أنصار الله الحوثية لحركة الملاحة بالبحر الأحمر بالسلب على المصالح المصرية؛ إذ أفقدها أكثر من نصف مواردها من قناة السويس، ناهيك عن التحركات العسكرية المعادية أو السفن الحربية التابعة لقوى إقليمية أو دولية التي تمثل تهديدًا لهذا الممر الحيوي، وبالتالي تهديدًا للأمن القومي المصري. إضافة إلى المساعي الأثيوبية للحصول على منفذ لها على البحر الأحمر عبر إقليم صومالي لاند غير المعترف به وتعنتها المستمر فيما يتعلق بإدارة سد النهضة.( )
قد يؤدي استمرار الصراع في المنطقة إلى زيادة تهديدات الجماعات المتطرفة في سيناء، مما يشكل تحديًا أمنيًا كبيرًا للأمن القومي المصري.
قد تخلق السياسات الأمريكية والروسية في المنطقة، في إطار التنافس بينهما، تحديات أمام الأمن القومي المصري، كأن تمثل التحركات العسكرية الروسية في ليبيا تهديدا للأمن القومي المصري.
قد يمثل استمرار النفوذ الإيراني في اليمن والعراق وسوريا تهديدًا للأمن القومي المصري.
وبالتالي، يمكن القول إن المتغيرات الراهنة بمنطقة الشرق الاوسط، والنزاعات الإقليمية، واستمرار التوتر في البحر الأحمر، واحتمالات نقص حصة مصر من مياه النيل، سوف يكون لها تأثيرات كبيرة على الأمن القومي المصري. الأمر الذي يتطلب تعزيز التعاون الأمني مع الدول المجاورة، خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ووقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وتعزيز أوجه التعاون الإقليمي والدولي لضمان أمن مصر واستقرارها، وزيادة قدرتها على مواجهة التحديات المختلفة سواء التي يمكن أن تواجهها داخليا، أو في محيطها الجيوسياسي.
الخاتمة
تتسم التفاعلات الدولية الراهنة بطبيعة معقدة وديناميكية في ظل احتدام التنافس بين القوى الكبرى الفاعلة وتفاقم النزاعات سواء على الساحة الدولية أو الإقليمية خاصة بالمناطق الحيوية مثل منطقة الشرق المتوسط والبحر الأحمر، على نحو يبدو أنها سوف تستمر كعامل رئيسي في تشكيل العلاقات بين الدول مع تزايد اهتمام القوى الكبرى باستغلال المتغيرات الراهنة لإحداث توازنات جديدة وحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وربما لعودة للاعتماد على التحالفات التقليدية والاستراتيجيات الواقعية.
إن الحرب على غزة والتوتر الإيراني الإسرائيلي وتوترات البحر الأحمر تفرض تحديات معقدة على الأمن القومي المصري، على نحو يتطلب معه ضرورة تعزيز مصر لسياساتها الأمنية وتكثيف جهودها الدبلوماسية مع جميع الأطراف المؤثرة، وتبني سياسة خارجية نشطة تراعي مصالحها المختلفة وتزيد من قدرتها على مواجهة التحديات والتهديدات المختلفة لضمان أمنها القومي.