الرئيسية » الدراسات » قلق إسرائيل من قوة الجيش المصري تخوف استراتيجي أم مناورة سياسية؟

قلق إسرائيل من قوة الجيش المصري تخوف استراتيجي أم مناورة سياسية؟

بواسطة :

أولًا، تصريحات جيش الاحتلال

في تطور لافت، خرج رئيس الأركان الإسرائيلي المنتهية ولايته، ‹هرتسي هاليفي› بتصريحات أمام خريجي دورة ضباط في مدينة حولون، أعرب فيها عن قلقه مما وصفه بالتهديد الأمني المصري. وقال هاليفي: ‹نحن قلقون جدًا من التهديد الأمني القادم من مصر› مشيرًا إلى أن هذا التهديد ‹لا يشكل خطرًا فوريًا في الوقت الحالي، لكن الوضع قد يتغير في لحظة›. وأضاف: ‹مصر لديها جيش كبير مجهز بأسلحة متطورة، بما في ذلك الطائرات، والغواصات، والصواريخ الحديثة، بالإضافة إلى أعداد هائلة من الدبابات والمقاتلين المشاة›.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يُبدي فيها مسؤول إسرائيلي مخاوفه من القدرات العسكرية المصرية، ففي يناير 2025م، طرح ‹داني دانون› المندوب الدائم لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، تساؤلات حول تسلح الجيش المصري، قائلًا: ‹لا تواجه مصر أي تهديدات مباشرة في المنطقة، فلماذا تحتاج إلى كل هذه الغواصات والدبابات؟ › وتعكس هذه التصريحات استمرارًا لخطاب إسرائيلي الرامي إلى التشكيك في أسباب تعزيز مصر لقواتها المسلحة، على الرغم من تأكيد القيادة المصرية المتكرر على أن هذا التعزيز يهدف إلى الحفاظ على الأمن القومي وحماية الاستقرار الإقليمي، وليس لاستهداف أي طرف.
وعلى الرغم من أن التصريحات الإسرائيلية لم تتضمن اتهامات مباشرة، إلا أنها تعكس قلقًا إسرائيليًا متزايدًا إزاء التحديث المستمر للجيش المصري. ويمكن فهم أبعاد هذا القلق من خلال عدة ملاحظات أساسية:
  • تصعيد في الخطاب العسكري الإسرائيلي: إذ يوحي استخدام إسرائيل لمصطلحات مثل ‹القلق› و‹المراقبة› برغبتها في إعادة ترتيب أولوياتها الأمنية، وهو ما قد يكون محاولة لتبرير سياساتها العسكرية والاستراتيجية أمام الرأي العام الإسرائيلي. وقد يشير تصعيد إسرائيل للهجتها إلى نواياها حيال إعادة تقييم التوازنات العسكرية في المنطقة.
  • محاولة خلق ذرائع للتصعيد: قد تهدف التصريحات الإسرائيلية المشار إليها، توفير مبررات لأي إجراءات مستقبلية، مثل استمرار السيطرة على محور فيلادلفيا الحدودي مع غزة، في خرق للاتفاقيات بين البلدين، أو حتى استفزاز مصر لاتخاذ موقف يمكن استغلاله كذريعة لتصعيد عسكري أو سياسي ضدها. وهو تكتيك إسرائيلي نمطي متكرر؛ تلجأ إليها عادة لاستباق الأحداث وخلق أجواء مربكة من الشكوك والمخاوف.
  • تشكيك غير مبرر في العقيدة العسكرية المصرية: إذ تتجاهل هذه التصريحات حقيقة أن الجيش المصري يعتمد عقيدة دفاعية تهدف إلى حماية الأمن القومي دون تشكيل تهديد مباشر لأي دولة. وهذا ما أكدته السياسة المصرية لعقود، والتزامها بمعاهدة السلام مع إسرائيل، التي لا تزال، منذ توقيعها في مارس 1979م، أحد أعمدة الاستقرار الإقليمي. ولعل هذا ما يثير تساؤلات كثيرة حول أهداف إسرائيل الحقيقية من وراء الزج باسم مصر في هذا السياق، وما إذا كان ذلك يعد جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة رسم موازين القوى في المنطقة؟

ثانيًا، الموقف المصري

أكدت القوات المسلحة المصرية، في ضوء التصريحات الإسرائيلية المذكورة، أن تحديث قدراتها العسكرية ليس بالأمر الخفي أو المثير للريبة، بل يأتي في إطار سياسة واضحة تهدف إلى تعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة. وفي هذا السياق، أوضح اللواء أركان حرب ›أحمد محمود صفي الدين‹ رئيس هيئة تدريب القوات المسلحة، أن تحديث الترسانة العسكرية المصرية ضرورة استراتيجية لضمان الحفاظ على السلام، مشددًا على أن السلام لا يمكن أن يستمر دون قوة تحميه وتصونه.
وأكد صفي الدين أن جاهزية القوات المسلحة المصرية تعكس استعدادها الدائم لمواجهة أي تهديدات محتملة، خاصة في ظل التطورات الإقليمية الأخيرة. كما حرص رئيس هيئة التدريب على توجيه رسالة طمأنة إلى الشعب المصري والعربي، مفادها أن القوات المسلحة تمتلك من التدريب والكفاءة والجاهزية ما يكفل لها أداء مهامها بفاعلية في جميع أفرعها. وتأتي هذه التصريحات المصرية في سياق متزن، يؤكد أن مصر دولة سلام، وأن تعزيز قدراتها العسكرية يهدف إلى حماية الأمن القومي وضمان الاستقرار، دون أن يشكل تهديدًا لأي طرف. كما تعكس هذه التصريحات توجهًا جديدًا بعدم تجاهل الادعاءات الإسرائيلية، والرد عليها بشكل رسمي يضمن عدم تمرير الرواية الإسرائيلية منفردة، دون الانجرار إلى أي تصعيد غير مبرر. ويمكن تلخيص الرؤية المصرية في النقاط الآتية:
  • التأكيد على العقيدة الدفاعية للجيش المصري: فلطالما اعتمدت مصر عقيدة عسكرية دفاعية قائمة على حماية الأمن القومي دون الانخراط في سياسات عدائية تجاه أي دولة. ومن ثم قد أوضح مندوب مصر لدى الأمم المتحدة، أن امتلاك مصر جيشًا قويًا ومتطورًا هو حق مشروع لأي دولة ذات سيادة، خاصة في ظل بيئة إقليمية مضطربة وتحديات أمنية متزايدة تشمل تهديدات إرهابية وتوترات حدودية وصراعات إقليمية.
كما أن تطوير القدرات العسكرية المصرية لا يأتي في سياق سباق تسلح أو رغبة في خلق تهديدات جديدة في المنطقة، بل هو جزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى تعزيز الأمن القومي المصري، حماية المصالح الحيوية للدولة، وضمان استقرار المنطقة بشكل عام. فمصر، بحكم موقعها الجغرافي ودورها التاريخي، مسؤولة عن تأمين خطوط الملاحة الدولية، ومنع تصاعد النزاعات في جوارها الجغرافي، وهو ما يستدعي امتلاك جيش مجهز بأحدث المنظومات الدفاعية.
  • التعامل الدبلوماسي الحكيم مع التصريحات الإسرائيلية: فعلى الرغم من التصريحات الإسرائيلية التي حاولت إضفاء طابع من الريبة على التطورات العسكرية المصرية، إلا أن الموقف المصري جاء متوازنًا وعقلانيًا، دون الانجرار إلى سجالات إعلامية أو تصعيد غير مبرر. لم يركز الرد المصري على تفنيد الادعاءات بقدر ما أكد على المبادئ الأساسية التي تحكم السياسة الدفاعية المصرية، وهي الالتزام بالحفاظ على الأمن القومي، مع احترام التوازنات الإقليمية القائمة.
ويعكس هذا النهج استراتيجية دبلوماسية حكيمة تقوم على التعامل الهادئ مع التصريحات المثيرة للجدل، مع التأكيد على أن مصر ليست بحاجة إلى تبرير سياستها الدفاعية لأي طرف. فالرسالة المصرية كانت واضحة: الجيش المصري قوة استقرار إقليمي، وليس عنصر تهديد لأي دولة، بل هو ركيزة أساسية لضمان توازن القوى في المنطقة ومنع حدوث فراغ استراتيجي قد تستغله أطراف تسعى إلى زعزعة الاستقرار.

ثالثًا، دلالات التصريحات الإسرائيلية:

  • محاولة خلق انطباع بوجود تهديد محتمل: وعادة ما تسعى إسرائيل إلى خلق سردية متكررة تُظهرها كدولة تواجه تحديات أمنية متزايدة، حتى من الدول التي تربطها بها اتفاقيات سلام، مثل مصر. وقد تهدف هذه المحاولة إلى تبرير سياسات إسرائيلية مستقبلية، سواء على المستوى العسكري، أو الدبلوماسي، أو لاستقطاب المزيد من الدعم السياسي والعسكري من حلفائها، خاصة الولايات المتحدة، تحت ذريعة مواجهة تهديدات ناشئة.
  • اختبار ردود الفعل المصرية: وقد تكون التصريحات الإسرائيلية محاولة لقياس ردود الفعل المصرية تجاه مثل هذه الادعاءات، ومعرفة مدى صلابة الموقف الرسمي المصري في التعامل مع أي تحركات إسرائيلية أحادية الجانب. ويكتسب هذا البُعد أهمية خاصة في ظل استمرار انتهاكات إسرائيل لاتفاقية السلام، لا سيما تواجدها العسكري في محور فيلادلفيا، والذي يشكل خرقًا واضحًا للترتيبات الأمنية المتفق عليها. من خلال إثارة الجدل حول قدرات الجيش المصري، قد تسعى إسرائيل إلى استكشاف مساحة المناورة التي تملكها دون الدخول في مواجهة دبلوماسية مباشرة.
  • التمهيد لإعادة رسم الوضع الأمني في غزة وسيناء: تأتي التصريحات في سياق محاولات إسرائيل المستمرة لإفشال جهود التهدئة مع حماس، حيث تسعى إلى تعزيز قبضتها العسكرية على الحدود مع غزة، مع الترويج لوجود “تهديدات أمنية” تبرر استمرار عملياتها في المنطقة. من هذا المنطلق، قد تكون إثارة ملف تحديث الجيش المصري جزءًا من سياسة تهدف إلى إعادة تشكيل الوضع الأمني، ليس فقط على الحدود المصرية، بل أيضًا داخل غزة نفسها، من خلال التمهيد لاستراتيجيات إسرائيلية جديدة تتجاوز المواجهة مع الفصائل الفلسطينية إلى إعادة صياغة الترتيبات الأمنية الإقليمية برمتها.
  • الاستعداد لسيناريوهات إقليمية غير محسومة: خاصة أن إشارة ‹داني دانون› المندوب الدائم لإسرائيل لدى الأمم المتحدة إلى ‹ضرورة الاستعداد لكل سيناريو› تعكس قلقًا إسرائيليًا متزايدًا من التحولات الإقليمية المتسارعة، خصوصًا في ظل تعاظم الدور المصري على مستويات متعددة، سواء في الوساطة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، أو في تعزيز القدرات العسكرية المصرية بما يحقق التوازن الإقليمي. يدرك صانع القرار الإسرائيلي أن التطورات في غزة والتغيرات في ميزان القوى بالمنطقة قد تؤدي إلى معادلات جديدة غير مواتية لإسرائيل، ما يدفعها إلى تبني خطاب استباقي يستهدف لفت الانتباه الدولي إلى هذه التحولات والاستعداد لمواجهتها سياسيًا وإعلاميًا قبل أن تتحول إلى أمر واقع.

الخلاصة

تعكس التصريحات الإسرائيلية بشأن قوة الجيش المصري مقاربة متعددة الأبعاد، تجمع فيها بين الترويج لوجود تهديدات أمنية، واختبار ردود الفعل المصرية، والتمهيد لتحولات في الوضع الأمني، خاصة على الحدود مع غزة وسيناء. كما توضح أيضا أن إسرائيل، على الرغم من التحديات التي تواجهها داخليًا وخارجيًا، لا تزال تتبنى استراتيجية استباقية تهدف إلى فرض سرديتها الخاصة على الأحداث الإقليمية، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية بعيدة المدى.
وفي المقابل، جاء الرد المصري مدروساً بعناية ومحسوباً بدقة، ليؤكد أن تعزيز القدرات العسكرية المصرية حق سيادي غير خاضع للمزايدات، أو التفسيرات المغلوطة. وأن القاهرة لن تسمح بفرض أي معادلات جديدة تمس أمنها القومي، أو دورها المحوري في المنطقة. كما يعكس هذا الرد مدى وعي مصر بمحاولات إسرائيل لاستدراجها إلى مواجهة إعلامية، أو سياسية غير مبررة، ومن ثم فإنها اختارت أن ترد بوضوح دون تصعيد، مع التأكيد على أن سياستها الدفاعية راسخة ولا تستهدف سوى حماية أمنها وحدودها في إطار الالتزام بالاتفاقيات الدولية.