الرئيسية » الدراسات » مستقبل السلام والاستقرار في جنوب السودان

مستقبل السلام والاستقرار في جنوب السودان

بواسطة :

أولاً: خلفية التوتر:
تاريخيًا، كان جنوب السودان، في ظل الحكم البريطاني المصري المشترك منذ عام ١٨٩٩م، جزءًا من السودان.[i] وخلال هذه المرحلة، عزز البريطانيون التباينات الثقافية والخلافات الدينية بين منطقتي شمال السودان وجنوبه؛ على نحو عزز التوتر بين المنطقتين، والذي بلغ ذروته، بنشوب الحرب الأهلية الأولى، ١٩٥٥-١٩٧٢م، بين متمردي الجنوب ‹أنيانيا› (Anyanya) وقوات الجيش السوداني؛ لنيل الحكم الذاتي. ولم ينتهِ هذا الصراع، الذي أودى بحياة نصف مليون شخص، على مدار اثني عشر عامًا، إلا بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا، وحصول الجنوب على حكم ذاتي محدود.[ii]
غير أن الرئيس الأسبق ‹جعفر نميري› فرض، عام ١٩٨٣م، الشريعة الإسلامية في جميع أنحاء البلاد؛ مما دفع الزعيم ‹جون قرنق› (John Garang) لتشكيل قوات مقاتلة، أطلق عليها ‹الحركة الشعبية لتحرير السودان› أو ‹الجيش الشعبي لتحرير السودان›SPLM/A)) ولتشتعل الحرب الأهلية السودانية من جديد، عام ١٩٨٣م، ولم تضع أوزارها إلا بتوقيع اتفاقية السلام الشامل (CPA) في ٩ يناير ٢٠٠٥م، التي أنهت الحرب الأهلية ودعت إلى إنشاء دولة جنوب السودان.[iii]
ولهذا أجري استفتاء شعبي؛ لينال جنوب السودان استقلاله، عام ٢٠١١م، بعد عقود من الصراع والحروب الأهلية، وأصبح ‹جون قرنق› رئيسًا للدولة المستقلة حديثًا و‹سلفا كير› نائبًا له. لكن فترة ولاية ‹قرنق› كانت قصيرة؛ إذ توفي في حادث تحطم مروحية، في 30 يونيو 2005م، ليخلفه ‹كير› ونائبه ‹مشار›
لقد أراد الرجلان سودانًا قويًا مستقلًا، ولكنهما لا ينتميان إلى مجموعة عرقية واحدة، فالرئيس كير ينتمي إلى ‹الدينكا› أكبر مجموعة عرقية في جنوب السودان، بينما ينتمي مشار إلى ‹النوير› المعادية تاريخيًا لـ‹الدينكا›. وهو الأمر الذي فرض نوعا من التنافس العرقي، أو إن شئت قل التنافر العرقي بين الرجلين؛ وبالتالي بات موضوع توحيد أمة متنوعة عرقيًا وذات مصالح متباينة أمرًا صعبًا ومسؤولية سياسية أكبر من قدراتهما، خاصة في ظل العداوة التاريخية بين العرقيتين.
ومن من العروف أن الحركة الشعبية لتحرير السودان فصيل (ناصر) التي شكلها ‹رياك مشار› ارتكبت، عام 1991م، مذبحة وحشية، خلال الحرب الأهلية الثانية بحق آلاف من قبائل ‹الدينكا› ثم تفاقم الأمر بين الطرفين إلى اقتتال عرقي، عام 2013م، راح ضحيته حوالي 400 ألف شخص، فضلا عن ونزوح الملايين. وقد اتهم سلفاكير مشار بالتخطيط للانقلاب على النظام؛ ومن ثم أقاله من منصبه. وسرعان ما تفاقم الاقتتال بين مقاتلي القبيلتين؛ إذ قام مقاتلو ‹الدينكا› بالانتقام من قبيلة ‹النوير› ثأرا منهم لمذبحة،1991م، بينما ردت قوات مشار بمهاجمة ‹الدينكا› على نحو أدى إلى تدهور الوضع الداخلي بجنوب السودان [iv]
وفي عام 2018م، شكل الرئيس سلفا كير ورياك مشار حكومة وحدة وطنية، بعد توقيع “الاتفاقية المتجددة لحل الصراع في جنوب السودان (R-ARCSS) والتي سهّلت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (IGAD) تنفيذها على أرض الواقع لتحقيق السلام والاستقرار. خاصة أن هذه الاتفاقية تضمنت صراحةً شروط ومواصفات صياغة دستور جديد للبلاد، والتحضير للانتخابات العامة، وتوحيد الفصائل المتحاربة في جيش واحد، ونزع سلاح كل الجماعات المسلحة الأخرى.[v]
ثانياً: تداعيات اعتقال ‹مشار›:
غدا الموقف السياسي في جنوب السودان غير مستقر، منذ اعتقال نائب الرئيس الأول رياك مشار، في 26 مارس 2025م، بدعوى مهاجمة الجيش الأبيض الموالي له، قاعدة عسكرية بولاية أعالي النيل، كما سبقت الإشارة. وازداد الموقف السياسي توتراً بعد إعلان حزب مشار أن هذه الإجراءات أدّت فعليًا إلى انتهاء اتفاق السلام الذي تم توقيعه، عام 2018م،[vi] الأمر الذي يعرض السلام والاستقرار في جنوب السودان لخطر داهم.
وإزاء تدهور الوضع بجنوب السودان؛ دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش (António Guterres) الزعماء الإقليميين والدوليين إلى العمل على منع جنوب السودان من الوقوع في الهاوية والانزلاق إلى حرب أهلية أخرى، ودعم العودة إلى السلام.[vii] بينما حث الرئيس الكيني ‹ويليام روتو›William Ruto)‏)[viii] على مراعاة السلام والاستقرار في جنوب السودان، وفقًا للإطار الاستراتيجي لهيئة الإيجاد IGAD). كما أثار ممثلو الدول الأعضاء بهذه الهيئة مخاوف بشأن تصاعد الأزمة وتداعياتها على اتفاق السلام لعام 2018. في بيان مشترك. كذلك دعت سفارات الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وألمانيا والنرويج وهولندا وفرنسا والهند إلى إنهاء هذا العنف.[ix]
وفي ظل هذه الأزمة، تتفاقم التحديات الاقتصادية والإنسانية أمام جمهورية جنوب السودان. خاصة أن اقتصادها لا يزال هشا، والوضع الإنساني متأزما؛ خاصة بعد أن أدى الاقتتال العرقي إلى نزوح داخلي واسع. ناهيك عن الظروف المناخية القاسية، من جفاف وفيضانات، التي تُفاقم أزمة نقص الغذاء في بلد يعيش معظم سكانه في فقر مدقع. وفق تقرير تقييم الفقر والمساواة في جنوب السودان، الصادر عن البنك الدولي عام ٢٠٢٤، والذي ذكر أن ٧٦٪ من سكانه يعيشون تحت خط “الفقر المدقع، حيث يعيشون على أقل من ٢.١٥ دولار أمريكي للفرد يوميًا.[x]
ومن المعروف أن اقتصاد جنوب السودان يعتمد على قطاع النفط، بنسبة تفوق 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ويمثل حوالي 95% من الصادرات، وحوالي 90% من الإيرادات العامة[xi] وجدير بالذكر أن الوضع الاقتصادي لم يبدأ الانتعاش إلا بعد توقيع اتفاقية السلام عام 2018م[xii] غير أنه سرعان ما تعرض لأزمة، في فبراير 2024، عندما تضرر أحد أنبوبي نقل النفط، وتوقف 65% من الإنتاج؛ خاصة أن جنوب السودان دولة غير ساحلية، ويتم نقل النفط منها عبر الأنابيب إلى الموانئ السودانية.[xiii]
إضافة إلى أن ارتفاع معدلات التضخم، تفاقم من أزمة انعدام الأمن الغذائي. ووفقًا لوكالات الأمم المتحدة، واجه أكثر من 7.7 مليون جنوب سوداني نقصًا حادًا في الغذاء عام 2022م، وازداد الوضع سوءا، عام 2024م، عندما واجهت البلاد أمطارًا غزيرة وفيضانات عارمة دمرت القرى والأراضي الزراعية.[xiv]
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن اعتقال رياك مشار، لم يؤد إلى انهيار اتفاقية السلام وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية بجنوب السودان فحسب، بل أثار المخاوف من عودة العنف العرقي، وزعزعة الأمن والاستقرار. ومن ثم، فمن المرجح أن تؤجل الأزمة الحالية في جوبا مناقشة القضايا الأخرى الملحة، بما في ذلك الدستور الدائم، وإجراء الانتخابات. وقد تنزلق البلاد مرة أخرى في دائرة الحرب الأهلية. وهو الأمر الذي يدعو كلا الزعيمين للتخلي عن الإرث المؤسف للعنف العرقي والانتقام المتبادل، وأن يتجاوزا مصالحهما الخاصة، ويتوافقان؛ حتى يستطيعا تحسين ظروف المعيشة لبلد يعيش على هامش العالم.