الرئيسية » الدراسات » آفاق تسوية الأزمة السودانية وانعكاساتها على الأمن القومي المصري

آفاق تسوية الأزمة السودانية وانعكاساتها على الأمن القومي المصري

بواسطة :

ولقد حظيت هذه الأزمة باهتمام دولي كبير، تجاوز الصراع القائم بين طرفيه الداخليين (الجيش – قوات الدعم السريع (إلى أطراف إقليمية ودولية فاعلة، تستهدف إحداث تغييرات جيوسياسية قد تمتد إلى دول جوار السودان. خاصة أن الوضع السياسي والعسكري في السودان أصبح يتسم بقدر كبير من التعقيد والاحتقان، منذ اندلاع المواجهات العسكرية بين طرفي الصراع، وحتى اليوم. فضلًا عن اتساع رقعة هذه المواجهات لتشمل ولايات أخرى مثل الخرطوم وإقليم دارفور، مع عدم استبعاد اتجاه الصراع شرقاً، ليشمل ولايات إقليم شرق السودان (كسلا – القضارف – البحر الأحمر) ومحاولة قوات الدعم السريع الزحف باتجاه ولاية النيل الأزرق، خاصة بعد نجاح الجيش السودان مؤخراً في استعادة معظم المواقع الاستراتيجية والمناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع.

الوضع الميداني الراهن:

في ظل محاولات طرفي الأزمة حسم الصراع لصالحهما، شهدت المواجهات العسكرية بينهما العديد من التطورات الميدانية المهمة، والتي قد تسهم في تغيير موازين القوى بين الجيش والدعم السريع، والتي تمثل أهمها فيما يلي:
  • نجاح الجيش السوداني مؤخراً في تحقيق عدة انتصارات على قوات الدعم السريع في مدينة الخرطوم، وإنهاء الحصار الذي فرضته هذه القوات على مدينة ‹الدمازين› عاصمة ولاية ‹النيل الأزرق› من خلال فتح طريق ‹سنجه – سنار› مما أسهم في تخفيف حدة الأزمة الإنسانية، التي ترتبت على سيطرة قوات الدعم السريع على ذلك الطريق، في السابق. ومواصلة الجيش السوداني جهوده للسيطرة على الولايات التي سبق وسيطرت عليها قوات الدعم السريع بإقليم دارفور، ومنع محاولاتها لاقتحام مدينة ‹الفاشر› عاصمة ولاية ‹شمال دارفور›.
  • انتشار قوات الجيش السوداني في بعض ولايات الجزيرة وسط السودان، يعد نجاحه في تحرير أجزاء كبيرة منها، الأمر الذي دفع قوات الدعم السريع لمحاولة اقتحام تلك الولايات؛ وارتكاب جرائم حرب، وممارسة انتهاكات واسعة ضد المدنيين هناك، في رد فعل انتقامي على تعاونهم مع قوات الجيش في معاركه ضدها.
  • تكثيف قوات الدعم السريع تواجدها في غرب ‹كردفان› وقيامها بتشكيل حكومة من الموالين لها هناك؛ بغرض إحكام سيطرتها على هذه الولاية الغنية بالنفط والثروات الطبيعية. في الوقت الذي لا يزال الجيش مسيطرا على مقر ‹الفرقة 22› في غرب كردفان. إضافة إلى سيطرته على معظم ولاية غرب كردفان.
  • ظهور عدة ميليشيات مسلحة وإعلان ولائها للجيش في إقليم شرق السودان، في الآونة الأخيرة. بينما يتخوف الجيش من انتقال الصراع إلى ولايات شرق السودان (البحر الأحمر – كسلا –القضارف (على نحو قد يؤدي إلى تدخل بعض دول الجوار في هذا الصراع وعلى رأسها اثيوبيا وارتيريا. مما قد يسهم في تهديد الاستقرار بشرق السودان كله. خاصة بعد قيام ارتيريا بتدريب أربع ميليشيات مسلحة لمساعدة الجيش السوداني في مواجهة قوات الدعم السريع، إلا أن انتشار هذه الميليشيات المسلحة المدربة في ارتيريا داخل إقليم الشرق قوبل بالرفص من قبل بعض الحركات من أبناء إقليم الشرق ومنها ‹تيار الشباب البجاوي الحر› لما قد يمثله هذا الانتشار من تهديد لأمن الإقليم من جهة، وتأثر نسيجه الاجتماعي من جهة أخرى.

أهم التطورات السياسية:

أدى استمرار الصراع بين طرفي الأزمة إلى تزايد حدة الاستقطاب السياسي وتسارع التطورات السياسية التي قد تعزز عدم الاستقرار الداخلي. خاصة في ظل عدم وجود حكومة وحدة وطنية، يمكنها إدارة شئون البلاد على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية. وتتجلى أبرز هذه التطورات في:
  • زيادة حدة الاستقطاب بين الأحزاب والقوى السياسية والمدنية، ما بين مؤيد للجيش وهو ما تعبر عنه ‹الكتلة الوطنية› المنشقة عن تحالف قوى ‹الحرية والتغيير› و‹حزب المؤتمر الوطني› الحاكم سابقاً، وحركات الإسلام السياسي المؤيدة لاستمرار الصراع.
  • سعي ‹تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية› بزعامة ‹عبد الله حمدوك› وعدد من الأحزاب والقوى السياسية المدنية مثل ‹حزب الأمة القومي› المعارض إلى وقف إطلاق النار، مع حث القوى الدولية لممارسة أكبر قدر من الضغوط على طرفي الصراع؛ للعودة إلى المسار السياسي، وتسليم السلطة للقوى السياسية المدنية.
  • تباين رؤى مختلف الأحزاب والقوى السياسية المدنية تجاه الصراع الدائر، ووجود حالة من الانقسام التي يصعب معها وقف الصراع القائم، لا سيما في ظل إصرار الجيش على التمسك بالسلطة ورفض وقف التصعيد العسكري.
  • عدم استكمال بناء مؤسسات الدولة، خاصة البرلمان والمحكمة الدستورية العليا، وعدم صياغة دستور وطني جديد للسودان، الأمر الذي يرجح استمرار مظاهر عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

فرص التوصل إلى تسوية:

على الرغم من استمرار الصراع الحالي في السودان، إلا أن هناك بعض الفرص المتاحة التي يمكن الاستناد إليها لوقف إطلاق النار في البلاد، وإمكانية العودة إلى المسار السياسي مرة أخرى. ويأتي في مقدمة هذه الفرص ما يلي:
  • محاولات بعض القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوداني، منذ اندلاع الصراع في أبريل 2023م، الدفع باتجاه التسوية السياسية للأزمة، من أهمها الجهود المصرية الساعية لتوحيد الأحزاب والقوى السياسية السودانية، ومساعدتها على طرح مبادرات فاعلة لتسوية الأزمة. وفي هذا الإطار قامت مصر بتشكيل فريق إدارة أزمة من مختلف الجهات المعنية (وزارة الدفاع وجهاز المخابرات العامة ووزارتي الخارجية والداخلية وغيرها) كما طرحت مبادرة، بالتنسيق مع دول جنوب السودان؛ لوقف إطلاق النار. بجانب خريطة الطريق التي طرحها المبعوث الأمريكي ‹توم بيريللون› (Tom Perriello) خلال لقائه مع الفريق ‹البرهان› في نوفمبر 2024م، وتضمنت الدعوة لوقف إطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين، والتأكيد على أهمية العودة للمسار السياسي كأساس للتسوية.
  • إمكانية قيام الرئيس الأمريكي ‹دونالد ترامب› بدور إيجابي يساهم في التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السودانية، ارتباطا بما سبق وأبداه خلال ولايته الأولى (2017 – 2021م) لدعم عملية الانتقال الديمقراطي وتحقيق الاستقرار السياسي في السودان. استنادا إلى أن استقرار الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط ومنها السودان، قد يساهم في إنجاح خطة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، ومنها السودان، الذي لم يوقع على حتى الآن على اتفاق التطبيع معها بشكل رسمي؛ بسبب اندلاع الصراع بالداخل السوداني. وبالتالي، فمن المتوقع أن تعمل إدارة ‹ترامب› الجديدة على ممارسة قدر من الضغوط على طرفي الصراع في السودان لوقف إطلاق النار.

العوائق والتحديات:

على الرغم من محدودية فرص التسوية المتاحة التي قد تسهم في التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السودانية فإنه يجب التنويه إلى عدة عقبات أو تحديات قد تعرقل عملية التسوية السياسية ومن أهمها ما يلي:

أولا: غياب الإرادة السياسية لدى طرفي الصراع، وهو ما يتضح من خلال المؤشرات التالية:

  • تمسك قائد الجيش السوداني ‹عبد الفتاح البرهان› بمواصلة التصعيد العسكري لاعتقاده أنه الحل الأمثل للصراع الدائر في البلاد، وأن الدعم السريع تعد ميليشيا منشقة عن الجيش السوداني؛ ويجب القضاء عليها عسكرياً.
  • إصرار قوات الدعم السريع على مواصلة التصعيد العسكري ضد الجيش، مستندة في ذلك إلى أنها شريك رئيسي لا يمكن إقصاؤها، في ضوء ما حققته من مكاسب ميدانية عززت من وضعيتها داخل السودان، ورفضها الاندماج في الجيش السوداني.
  • وجود عدة أحزاب وقوى سياسية مؤيدة لاستمرار الخيار العسكري الذي يتبناه الجيش، في مقدمتها ‹حزب المؤتمر الوطني› (الحاكم سابقاً (و‹الحركة الإسلامية› لاعتقادهم أن استمرار الصراع سوف يسهم في عودتهم مرة أخرى إلى السلطة
  • رفض الجيش السوداني أي صورة من صور التدخل الخارجي لحل الأزمة السودانية، وهو ما ظهر في إصرار رئيس مجلس السيادة الانتقالي على رفض أن مساعي، أو جهود، أو مبادرات لا تستجيب للمتطلبات أو المطالب السودانية، كذلك رفض الجيش المشاركة في مفاوضات جنيف التي دعت إليها واشنطن، في شهر يوليو 2024م
  • تعثر الجهود الإقليمية والدولية للتسوية السياسية؛ ارتباطاً بعدم استجابة كل من الجيش والدعم السريع لمبادرات التسوية الإقليمية والدولية ورفضهما تنفيذ ‹اتفاق جدة› الموقع في مايو 2023م، بشأن وقف إطلاق النار، وانسحاب قوات الدعم السريع من الاحياء السكنية، وفتح ممرات إنسانية لتوصيل المساعدات للمدنيين. ناهيك عن عدم فاعلية الضغوط الإقليمية والدولية – حتى الآن – في دفع الجيش أو الدعم السريع لوقف إطلاق النار.

ثانيا: تأجيج الفاعلين الخارجيين للصراع الحالي، الأمر الذي تتضح أهم ملامحه فيما يلي:

  • الاتهامات السودانية المتكررة لدولة الإمارات بتقديم الدعم المادي والعسكري لقوات الدعم السريع، ومن ثم إعلان مجلس الدفاع والأمن السوداني، في 6 مايو الجاري، قطع علاقاته الدبلوماسية معها واستدعاء طاقم السفارة السودانية، على خلفية ذلك. خاصة أن عملية نقل الأسلحة والمعدات العسكرية كانت تتم عبر دولتي تشاد وأفريقيا الوسطى، ومن ثم إلى إقليم دارفور غرب السودان، الذي تسيطر قوات الدعم السريع على أربع ولايات منه. ولعل هذا ما يفسر إصرار قوات الدعم السريع على إحكام سيطرتها على كامل الإقليم ورفضها الانسحاب منه.
  • قيام السودان برفع شكوى رسمية ضد تشاد أمام اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان، تضمن وقائع تشير إلى تورط تشاد فيما ترتكبه قوات الدعم السريع من انتهاكات ضد الشعب السوداني، بما في ذلك التطهير العرقي وجرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما دفع السودان لإغلاق معبر ‹أدري› الحدودي، الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع لمنع تشاد من نقل الأسلحة إلى الدعم السريع. وهو ما ردت عليه تشاد، في نوفمبر 2024م، باتهام السودان بالتورط في اغتيار الرئيس التشادي السابق ‹إدريس ديبي› وبتمويل وتسليح الجماعات الإرهابية المتواجدة في المنطقة الحدودية بين البلدين؛ بغرض زعزعة استقرار تشاد.
  • الدعم الإيراني للجيش السوداني، وهو ما ظهر في استخدام الجيش السوداني للطائرات الإيرانية المسيرة في استهداف مواقع تمركز الدعم السريع. خاصة أن طهران تسعى لتوظيف تقاربها الحالي مع الخرطوم؛ من أجل الخروج من العزلة الدولية بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي، وتعزيز نفوذها أيضاً في شرق افريقيا ومنطقة القرن الافريقي.
  • الدعم السياسي الروسي للجيش السوداني، وهو ما ظهر في استخدام روسيا لحق النقض (الفيتو) لمنع مشروع القرار البريطاني بدعوة طرفي الصراع لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين، مبررة ذلك بأن الحكومة السودانية وحدها هي المسئولة عن حماية المدنيين، وهي الجهة الوحيدة التي لها الحق في دعوة قوات أجنبية لدخول السودان، وليس أي طرف خارجي آخر.

صورة أرشيفية من الصراع المسلح

السيناريوهات المحتملة:

تشير المعطيات الخاصة بالصراع الدائر بين الجيش السوداني والدعم السريع إلى عدة سيناريوهات، أهمها ما يلي:
السيناريو الأول (الأكثر ترجيحاً):
استمرار التصعيد العسكري الراهن؛ استناداً إلى عدة اعتبارات أبرزها غياب التوافق بين جميع الأطراف السودانية، بما في ذلك طرفي الأزمة (الجيش – قوات الدعم السريع (والأحزاب والقوى السياسية المدنية والحركات والجماعات المسلحة. خاصة أن رؤى كل طرف من هذه الأطراف تتباين إزاء كيفية إنهاء الصراع القائم في البلاد. وهو ما أدى إلى تفاقم الانقسام والتشرذم داخل السودان وانتفاء الإرادة السياسية لدى طرفي الصراع للاستجابة إلى الدعوات الإقليمية والدولية المطالبة بضرورة وقف إطلاق النار والعودة إلى المسار السياسي لتسوية الأزمة بعيداً عن التصعيد العسكري.
السيناريو الثاني:
استمرار الصراع، مع إمكانية التوصل إلى تفاهمات سياسية محددة يمكن البناء عليها وتقريب وجهات النظر بين طرفيه. وذلك في حال نجاح أي من الفاعلين الخارجيين في ممارسة أكبر قدر من الضغوط اللازمة لفرض هدنة لأغراض إنسانية، ثم الوقف التدريجي لإطلاق النار. وهنا يمكن التعويل على الدور الأمريكي المحتمل، فيي ظل الإدارة الجديدة للرئيس دونالد ترامب. خاصة مع ترحيب الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بوصول ترامب للسلطة.
السيناريو الثالث:
الانزلاق إلى حرب أهلية ارتباطاً بالانتشار الكثيف للأسلحة والمعدات العسكرية على نطاق واسع داخل الولايات السودانية كافة، وانتشار الميليشيات المسلحة، وانضمام بعضها إلى الجيش. الأمر الذي تتزايد معه المخاوف من تحول الصراع الحالي إلى حرب أهلية تتفاقم فيها الأزمة الإنسانية بصورة أكبر، وما قد يترتب عليها من احتمال تدويل الأزمة والتدخل الدولي في السودان لأغراض إنسانية.
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إن آفاق التسوية للأزمة السودانية تتضاءل مع استمرار غياب الإرادة السياسية اللازمة لوقف إطلاق النار، وفرض هدنة لأغراض إنسانية، وخاصة مع إصرار طرفي الأزمة على التصعيد العسكري كأساس للتسوية ورغبة كل طرف في حسم المعركة لصالحه، مع التأكيد على أن تسوية هذه الأزمة سيظل رهناً بمدى استعداد الأطراف السودانية، للعودة إلى المسار السياسي؛ للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة تحظى بقبول وتوافق وطني من كافة الأطراف السودانية.