الرئيسية » الدراسات » شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة في الدول الهشة (صفقة إريك برنس مع جمهورية الكونغو الديمقراطية نموذجا)

شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة في الدول الهشة (صفقة إريك برنس مع جمهورية الكونغو الديمقراطية نموذجا)

بواسطة :

أولاً: نشأة شركات الخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة:
كان ‹إريك برنس› مؤسس شركة بلاك ووتر، شخصية مثيرة للانقسام في مجال الأمن الخاص والصراع المسلح. ولا تكشف مسيرته المهنية فقط عن تخويل المؤسسات والشركات الخاصة خوض الصراعات، بقدر ما تميط اللثام أيضًا عن مخاطر الاستعانة بمثل هذه المؤسسات وتلك الشركات.
أسس ‹برنس› بلاك ووتر، عام 1995، التي سرعان ما برز دورها، خلال العمليات العسكرية التي نفذتها القوات الأمريكية في أفغانستان، عام 2001م، وفي العراق، عام 2003م وفي الوقت الذي كانت فيه وزارة الدفاع الأمريكية مثقلة بأعباء عملياتها المختلفة، قدم برنس حلاً؛ يتمثل في تأسيس قوات خاصة تٌكلف بحماية الدبلوماسيين وحراسة السفارات والمنشآت والأصول الأمريكية داخل مناطق الصراع.
وفي هذا الإطار، فازت شركته بأول صفقة لها، بقيمة 21 مليون دولار، عام 2003م، لحماية السفير الأمريكي بالعراق ‹بول بريمر› (Paul Bremer). كما حصلت على عقد بقيمة 92 مليون دولار مع وكالة المخابرات المركزية. ضمن الدعم شبه العسكري الذي يوفر التدريب واللوجستيات والمساعدة في العمليات السرية، والذي شمل أيضًا استهداف الطائرات المسيرة ومهام التسليم وتدريب الأصول الأجنبية. وكان هذا العقد أحد الروابط الأولى المؤكدة بين بلاك ووتر وبرنامج القتل المخطط المثير للجدل التابع لوكالة المخابرات المركزية.
ولذا سرعان ما اكتسبت شركة بلاك ووتر سمعة سيئة؛ بسبب استخدامها المفرط للقوة وانعدام المساءلة القانونية بشأنها. فقد ارتكبت مذبحة ساحة النسور في بغداد، يوم 16 سبتمبر 2007م، لقيت إدانة عالمية؛ والتي أطلق فيها أفراد من هذه الشركة النار على المدنيين العراقيين مما أسفر عن مقل 14 مدنياً وإصابة 20 بينهم طفلان. وعلى الرغم من إدانة المحاكم الأمريكية لأربعة من هذه العناصر، إلا أن الرئيس ‹دونالد ترامب› عفا عنهم لاحقا؛ مما أثار غضبًا وجدد المخاوف بشأن الإفلات من العقاب الذي يتمتع به المتعاقدون العسكريون من القطاع الخاص
ومما زاد من سمعة شركة بلاك ووتر، ظهور تقارير تفيد بأنها أنشأت شبكة تضم أكثر من 30 كيانات وهمية أخرى، أو أفرع وشركات تابعة لها، صُممتها للمساعدة في تأمين ملايين الدولارات المتحصلة من العقود الحكومية، على الرغم من التدقيق المحيط بسلوكها في العراق. ولا يزال من غير الواضح عدد هذه الكيانات التي حصلت على عقود، ولكن ورد أن ثلاثة منها على الأقل عقدت صفقات مع الجيش الأمريكي، أو مع وكالة المخابرات المركزية. ويُعتقد أن شركة بلاك ووتر والشركات التابعة لها تحصلت، منذ عام 2001م، على ما يناهز الـ 600 مليون دولار من العقود السرية من مجتمع الاستخبارات. 
وعلى الرغم من بيع شركة بلاك ووتر، عام 2010م، وإعادة تسميتها باسم (Xe Services) ثم باسم (Academi) ظل ‹برنس› رجل الظل القوي تحت مظلة شركة (Constellis Holdings) ضمن شبكات الأمن العالمية. كما واصل تأسيس مشاريع جديدة مثل (Reflex Responses) وهي قوة مدعومة من الإمارات العربية المتحدة، ومجموعة خدمات الحدود (FSG) التي تعمل في إفريقيا وتدعم المصالح التجارية الصينية، التي فرضت الحكومة الأمريكية عقوبات عليها، عام 2023م؛ بسبب مزاعم تورطها في تدريب الطيارين العسكريين الصينيين، مما أضاف مزيدا من الجدل بشأن سمعة ‹برنس› المعقدة.
خاصة أن الأمم المتحدة حققت معه بشأن دور مشتبه به في عملية مرتزقة فاشلة في ليبيا، تضمنت انتهاكات مزعومة لتهريب الأسلحة، وهي اتهامات رفضها برنس؛ مؤكدًا أنه لم يكن له أي تورط في أي أنشطة تتعلق بليبيا.
ثانياً: صفقة ‹برنس› مع الكونغو الديمقراطية:
في ظل قدرته على الحفاظ على نشاطه وتأثيره في المجالين العسكري والأمني ​​وسط خلافات قانونية وانتهاكات متكررة، لا تزال شخصية ‹برنس› مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بشركة بلاك ووتر، نظرًا لدوره التأسيسي وانخراطه المستمر في مشاريع أمنية. ويدل مساره الحالي إلى اتجاه أوسع، يتعلق بعودة ظهور شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة في القارة الأفريقية، في ظل وجود أكثر من 35 صراعاً مسلحاً غير دولي مستمر داخل دول القارة.
ونتيجة افتقار جيوش هذه الدول الأفريقية إلى القدرات، لجأت الحكومات بشكل متزايد إلى الشركات العسكرية الخاصة؛ بغرض ملء الفراغات الأمنية. وفي هذا السياق، استضافت ليبيا مثلا، أكثر من عشرين ألف مقاتل أجنبي في غضون السنوات الأخيرة. وتم نشر قرابة الألفي عنصر بجمهورية أفريقيا الوسطى؛ لدعم القوات الحكومية كما حدث شيء مماثل في كل من السودان وموزمبيق ومالي وبوركينا فاسو حيث تتواجد الشركات المذكورة وتعمل بحرية كبيرة، في بيئات قانونية غامضة، مع الحد الأدنى من الرقابة. ويعكس وجود مثل هذه الشركات المتزايد واقع تدويل الصراعات الأفريقية، في ظل تزايد الأهمية الاستراتيجية للقارة، ناهيك عن الأهمية الاقتصادية من حيث وفرة الطاقة واحتياطاتها، والموارد الطبيعية والخامات الاستراتيجية والعناصر النادرة والمعادن الثمينة.
تُمثل عودة ‹برنس› إلى أفريقيا، عبر صفقة مثيرة للجدل مع جمهورية الكونغو الديمقراطية عام 2025م، تطورًا مهما؛ حيث تُعدّ الكونغو الديمقراطية أكبر منتج للكوبالت كما تعد موردًا أساسيًا للنحاس، وهما معدنان حيويان لعملية التحول العالمي للطاقة الخضراء. ولطالما أن هذا البلد عانى من التهريب ورواج التجارة غير المشروعة، والتهرب من أي التزامات، أو رسوم تجاه الدولة. على نحو جعلها هدفًا رئيسيًا لشركات الخدمات الخاصة ومنها شركات ‹برنس›.
وبالنظر إلى تاريخ ‹برنس› في العمل بطرق تختلط فيها الخطوط الفاصلة بين المشاركة العسكرية والمصالح التجارية، تتزايد الشكوك حول النية الحقيقية للصفقة التي أبرمها مع جمهورية الكونغو الديمقراطية. والتي أثارت القلق أيضا، خاصة أن تقارير سابقة للأمم المتحدة اتهمته بالتخطيط لنقل آلاف المرتزقة من أمريكا اللاتينية، ونشرهم في شمال ‹كيفو› لحماية عمليات التعدين وهو اتهام لا يزال يُلقي بظلاله على تحركاته الحالية.
بالنسبة لجمهورية الكونغو الديمقراطية، يجب الموازنة بين الجاذبية الفورية لتحسين الأمن، وتشديد الرقابة على العوائد المتحصلة من عمليات التعدين، والآثار بعيدة المدى لتعميق العلاقات مع شركات الأمن الخاصة. وتنطوي مشاركة ‹برنس› على مخاطر تتعلق بالسيادة الوطنية، واحتمالية وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان، واحتمال هيمنة قوات غير خاضعة للمساءلة على دولة هشة. وقد أظهرت مشاريعه السابقة أن الخدمات اللوجستية قد تكون تعبيرًا مُلطِّفًا لطموحات عملياتية أوسع نطاقًا، غالبًا ما تشمل الحماية المسلحة والتحكم في التنقيب عن الموارد القيّمة. علاوة على أن قدرته على استقطاب الدعم الجيوسياسي من الصين، ومن شراكات مع جهات فاعلة حكومية وشركات خاصة، تشير إلى أن عملياته نادرًا ما تتم بمعزل عن المصالح الاستراتيجية الأوسع.
ومن ناحية أخرى، يعكس نفوذ ‹برنس› تزايد المنافسة الجيوسياسية في أفريقيا. فبينما تتنافس القوى الدولية الفاعلة على الهيمنة على المعادن الحيوية والمواقع الاستراتيجية، تعمل شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة كوسطاء، وتقدم مزيجًا فريدا من القدرة على الإنكار والكفاءة والتأثير الميداني، وهو ما تعجز عنه غالبًا أساليب الحكم التقليدية. وفي بيئة كهذه، تزدهر الشركات/ الجهات الفاعلة الخاصة مثل شركات ‹برنس›. فعملياتها لا تُعيد تشكيل الواقع الأمني ​​فحسب، بل تُعيد أيضًا تعريف معنى ممارسة السيطرة في مناطق غنية بالموارد وغير المستقرة سياسيًا. وبينما قد تنظر بعض الحكومات الأفريقية إلى هذه الشركات على أنها شر لا بد منه، إلا أن عواقبها الوخيمة قد تشمل، على المدى البعيد، إضعاف مؤسسات الدولة نفسها، وتآكل ثقة الجمهور في الدولة، ومن ثم تبدأ عمليات زعزعة الاستقرار، ويتصاعد الأمر إلى صراع، وتبدأ الدولة في التفكك والانهيار الداخلي.
ثالثاً: أثر شركات الخدمات الخاصة على استقرار الدول الهشة:
لطالما عملت شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة على أطراف النزاعات، مقدمةً خدماتٍ متنوعة، من الدعم القتالي إلى حماية المواقع والخدمات اللوجستية. إلا أن مجموعةً صغيرةً منها تطورت إلى كيانات أكثر تعقيدًا وجماعات أكثر خطورة، سواء من المرتزقة والشركات الخاصة، أو الميليشيات المدعومة من الدولة. وتعرف باسم ‹الشركات العسكرية بالوكالة› التي تسهم اليوم في صياغة شكل الحرب وتنتهك القانون الدولي وتهدد الاستقرار العالمي.
وعلى عكس شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة التقليدية، لا تُعدّ هذه الجماعات كيانات أمنية مستقلة متعاقدة تعمل في أسواق تنافسية، لكنها تعمل كامتدادات لسلطة الأنظمة المستبدة، حيث تنفذ عمليات قتال وتشن حروبًا هجينة، وتُستغل في هذا الموارد لصالح الأنظمة المستبدة. وتعمل هذه الكيانات خارج نطاق القانون وبمنأى من العقاب، مستغلّةً في ذلك الثغرات القانونية وإمكانية الإنكار وعدم الوقوع تحت طائلة المساءلة وتؤكد التقارير المختلفة أن ظهور مثل هذه الكيانات لا يُمثّل مجرّد تطور للقوات العسكرية الخاصة؛ بل يُشير إلى عودة الحرب بالوكالة على غرار الحرب الباردة، حيث تسند الدول عملياتها الخاصة إلى جهات خارجية لتجنّب المسؤولية المباشرة.
ويتسم قطاع الشركات العسكرية والأمنية الخاصة باتساعه وتنوعه. وتعمل الشركات في هذا القطاع كأدوات سرية لسلطة الدولة، مما يطمس الخطوط الفاصلة بين الشركات الخاصة والجهات الحكومية والمرتزقة وبفضل روابطها القوية بالأنظمة الاستبدادية، واعتمادها على عميل واحد، وعملياتها الشبيهة بعمليات المرتزقة، تُمثل هذه الشركات العسكرية والأمنية الخاصة غير التقليدية تحديًا خطيرًا للاستقرار العالمي وسيادة القانون.
وهذه الكيانات ليست شركات مستقلة تُحركها قوى السوق، بل هي متشابكة بعمق مع سياسات الدولة، وتعمل كأدوات سرية لبسط نفوذها في الخارج، مع توفير إنكار معقول لرعاتها. ويفرض صعود شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة تحديات غير التقليدية، حيث أنها كيانات تتحدى التصنيف التقليدي وتعمل في منطقة رمادية معقدة بين الشركات الخاصة والجهات الحكومية والمرتزقة. وغالبًا ما تعمل هذه الكيانات الهجينة كامتدادات لسلطة الدولة مع الحفاظ على واجهة الخصخصة، حيث تنخرط في أنشطة تتراوح بين التجنيد القتالي واستغلال الموارد، مما يؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار، وانتهاك حقوق الإنسان، وتعقيد الجهود الرامية إلى ضمان السلم والأمن والاستقرار.
ويكمن جزء من جاذبية الشركات العسكرية الخاصة في قدرتها على خرق القواعد التي لا تستطيع الدول خرقها. حيث إن وجود منطقة خالية من القواعد، بعيدة عن نطاق المساءلة الدولية، يعوق قدرة النظام على صون السلم والأمن. وإذا تُرك هذا الوضع لفترة طويلة، فقد يتحول إلى وضع طبيعي جديد يتعلق بالسلوك بين الدول في وقت يفتقر فيه النظام إلى المتانة اللازمة لتصحيح نفسه.
وفي هذا الإطار نجد أن الأطر التنظيمية الحالية، مثل وثيقة ‹مونترو› ومدونة قواعد السلوك الدولية صُممت بهدف فرض الرقابة على شركات خدمات العسكرية والأمنية الخاصة العاملة في الأسواق التجارية. ومع ذلك، تغفل هذه المبادئ عن معالجة مسألة الكيانات التي ترعاها الدولة، وتُحركها استراتيجيات جيوسياسية بدلاً من قوى السوق. والنتيجة هي نظام غير مؤهل لتنظيم شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة التي تعمل كأذرع خفية لسياسة الدولة بدلاً من كونها متعاقدة مستقلة.
في نهاية المطاف، يُبرز صعود الشركات العسكرية بالوكالة أزمةً أوسع نطاقًا في المعايير التي تحكم الصراعات الحديثة والأمن العالمي، ولا يتطلب التصدي لتأثيرها المُزعزع للاستقرار تحديث الأطر القانونية والتنظيمية فحسب، بل يتطلب أيضًا تجديد الالتزام بدعم مبادئ القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان ومسؤولية الدول. فبينما تواصل هذه الكيانات إعادة تشكيل مشهد الحرب والنفوذ، يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك بحزم لسد فجوات المساءلة التي تستغلها.