الصراعات الجيوسياسية وانعكاساتها على الشرق الأوسط
بواسطة :
أولا: مظاهر الصراعات الجيوسياسية
التنافس الهندي-الباكستاني
شهدت العلاقات الهندية الباكستانية تحولا ملحوظا في طبيعة التنافس الاستراتيجي بينهما، يمكن تأطيره ضمن مفهومي ‹الردع الموسع ‹و‹التوازن الهش للقوة› وفي هذا الإطار مثل تصاعد التوتر بينهما مظهرا بارزا من مظاهر النزاع الجيوسياسي بمنطقة جنوب آسيا، خاصة في ظل انزياح الاهتمام الدولي نحو قضايا أكثر إلحاحًا، مما أتاح للبلدين هامش مناورة أوسع لمحاولة استعمال القوة.
وتكمن خطورة تصاعد التوتر بين البلدين في أنه لا يقتصر على النطاق الثنائي، قدر ما يرتبط ببنية تحالفاتهما مع الصين، وروسيا، والولايات المتحدة، وبتوازن القوى في آسيا كلها. وهو الأمر الذي أثار مخاوف من تحول التوتر إلى صراع ذي أبعاد أخطر، يمكن أن تؤثر بالسلب على المحيط الهندي وممرات الطاقة، بما يضع دول الخليج العربي أمام تحديات تتعلق بأمن الإمدادات وموازنة علاقاتها مع طرفي الصراع ومعها القوى المتنافسة.
أضف إلى ذلك أن الخطاب الدعائي الباكستاني، حاول توظيف تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لتدويل قضية كشمير عبر الربط بين ‹النضالين الكشميري والفلسطيني› بوصفهما جزءًا من منظومة ‹الصراعات السيادية ضد الاحتلال› في محاولة لإعادة تدوير الدعم الإسلامي للقضية الباكستانية، واستثمار المناخ العاطفي الناتج عن الحرب في غزة لتعزيز الشرعية الرمزية لمواقفها الخارجية.
غير أن الأهم هو أن الهند كانت قد دشّنت، قبيل منتصف العام الجاري، برنامجًا دفاعيًا متكاملًا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، يتضمن منظومة إنذار مبكر ومراكز قيادة سيبرانية متطورة، ضمن ما وصفته وزارة الدفاع الهندية بـ ‹التحصين السيادي ضد التهديدات الإقليمية› وهو ما فسرته باكستان بأنه يعد إخلالًا بتوازن الردع النووي التقليدي، وتهديدًا مباشرًا لـ ‹منطقة النفوذ الدفاعي› لها. وفي المقابل، كانت باكستان قد كثّفت هي الأخرى تعاونها العسكري الواسع مع الصين، حتى لا يقتصر على مجالات التسليح التقليدي، بل ليشمل تعاونها مجالات تتعلق بالبنية التحتية التكنولوجية. وهو الأمر الذي يعكس تحولًا استراتيجيًا نحو ما يُعرف بـ ‹الشراكات الموازية المضادة للتحالفات الغربية‹
الحرب الروسية – الأوكرانية:
تمر الحرب الروسية الأوكرانية اليوم، وهي في عامها الرابع، بمرحلة ›استنزاف استراتيجي متبادل› لطرفيها الذي يفقد كلا مهما القدرة على حسم هذه الحرب لصالحه. وذلك وسط تصاعد مؤشرات الانقسام الأوروبي بشأن كيفية التعامل مع روسيا، لا سيما في ظل تنامي الضغوط الاقتصادية التي تسبب فيها هذه الحرب، وتراجع الالتزام الشعبي داخل بعض الدول الأوروبية بتمويل المجهود الحربي الأوكراني. كما تعالت أصوات داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة من ألمانيا والمجر وسلوفاكيا، تنادي بفتح قنوات للتفاوض المباشر مع موسكوـ بعيدًا عن الموقف الأمريكي، وهو الأمر الذي اعتبرته بعض دوائر الناتو بمثابة تهديد لوحدة الموقف الغربي.
وفي المقابل، تبنّت الولايات المتحدة نهجًا مزدوجًا، ففي الوقت الذي تواصل فيه تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا، والذي تجاوز 160 مليار دولار فبراير 2022م، أخذت تكثف اتصالاتها السرية مع روسيا، عبر أطراف ثالثة، من بينها تركيا وسويسرا. وهو ما يكشف عن تحول في ديناميكية الموقف الأمريكي من الدعم المفتوح إلى ضبط إيقاع هذه الحرب وفق مصالحها العليا.
ويمثل نهج الولايات المتحدة نموذجا يمكن تسميته بـ ›النموذج الأمريكي في إدارة الصراعات الممتدة‹ القائم على إبقاء الموقف العسكري على ما هو عليه، دون حسم أي من الطرفين الحرب لصالحه، بما يسمح لها بإعادة تعريف أدوارها في أوروبا، وموازنة النفوذ الصيني والروسي دون التورط المباشر. وقد أثار هذا النهج تساؤلات بدول أوروبا الشرقية على وجه الخصوص، بشأن جدوى استمرار الاعتماد على ‹المظلة الأمريكية› في ظل غياب التوافق الاستراتيجي داخل الناتو.
وعلى مستوى اتجاهات الصراع، فقد اتجهت روسيا لمحاولة فرض واقع ميداني قبل أي تسوية مستقبلية. بينما بدأت أوكرانيا تتبنى استراتيجية ›الإنهاك البطيء‹ من خلال شن هجمات بالطائرات المسيّرة ضد البنية التحتية الروسية الحيوية، خاصة محطات الطاقة والمرافئ سواء الواقعة في البحر الأسود، أو العمق الروسي.
ومما لا شك فيه أن تطورات هذه الحرب وأبعادها، تنعكس على الشرق الأوسط من زاويتي: الأولى، أن روسيا باتت أكثر قربا من إيران، بوصفها مصدر بديل للسلاح والمواد الحيوية، في ظل العقوبات الغربية، مما يعزز من مكانة إيران الإقليمية. والزاوية الثانية، خروج سوريا، بعد انهيار نظام بشار الأسد من بؤرة التركيز الروسية. على الرغم من أن دول الخليج بدأت تعيد تقييم علاقتها بالغرب، وتُظهر اتجاها لتوسيع شراكاتها الاستراتيجية مع الصين وروسيا، اتساقًا مع ما يُعرف بـ ‹الجيوسياسية متعددة الأقطاب› ما ساهم في تعزيز القدرات التفاوضية الخليجية، ومن ثم عودة العلاقات الخليجية الأمريكية إلى سابق عهدها مرة أخرى.
التمسك الأمريكي بالقيادة العالمية:
في ضوء اشتداد المنافسة الدولية وتغير بنية النظام العالمي، اتجهت الولايات المتحدة إلى إعادة تعريف موقعها القيادي العالمي، عبر ما يمكن وصفه بـ ‹استراتيجية الهيمنة المرنة› (Flexible Hegemony) التي تجمع فيها بين أدوات الهيمنة التقليدية (القوة العسكرية والمالية) وآليات التموضع غير المباشر في تحالفاتها الإقليمية، دون أن تتحمل عبء أي تكلفة لهذه الهيمنة. وقد تضمن ذلك في نقطتين، هما
تقيد الاستثمارات الصينية في قطاعات التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، بواسطة القانين التي أقرها الكونغرس الأمريكي، في مايو 2025م، بحجة حماية ‹الأمن القومي المعلوماتي‹ وما تبعها من تصاعد حرب التعريفات الجمركية مع الصين. وفي المقابل، كثفت الصين من استخدام منصة ‹بريكس بلس› لإطلاق مبادرات تمويل بديلة في دول الجنوب العالمي، ما يخلق حالة من الاستقطاب الجيواقتصادي العالمي.
طرح المبادرات المتعددة، خلال النصف الأول من العام الجاري 2025م، وشملت التفاوض غير المعلن مع روسيا بشأن أوكرانيا، وضبط الإيقاع الأمني بمنطقة شرق آسيا. فضلًا عن تعزيز الشراكات الثنائية في كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية، بعيدًا عن أطر العمل متعددة الأطراف التقليدية، مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين، وهو ما يشير إلى تراجع ثقتها في فعالية المنتظم الأممي وبنيته المؤسساتية، لصالح ما تسميه بـ ‹الاستجابة السيادية المتقدمة› (Sovereign Responsive Leadership) وقد اتضح هذا الاتجاه الأمريكي في ثلاث ملفات استراتيجية متزامنة:
التفاوض الأمريكي-الروسي المنفرد بشأن أوكرانيا، فعلى الرغم من استمرار الخطاب الأمريكي الداعم لأوكرانيا في المحافل الغربية، كشفت تقارير استخباراتية غربية عن وجود قنوات اتصال مباشرة وغير معلنة بين مسؤولين أمريكيين وروس، تهدف إلى وضع سقف زمني للحرب، واستكشاف ترتيبات ما بعدها، خاصة فيما يتعلق بأمن أوروبا الشرقية وترتيبات بحر ‹آزوف› يشير هذا إلى تحول واشنطن من استراتيجية ‹الهزيمة الكاملة لروسيا› إلى إدارة الأزمة معها ضمن معادلة التوازن الأوروبي الجديد، بعيدًا عن توافق أوروبي موحد بشأنها.
التفاوض مع إيران على هامش الصراع الإقليمي، فقد كثّفت واشنطن في مايو 2025م، قنوات اتصالها الخلفية مع طهران، عبر سلطنة عمان وقطر، وبدعم فرنسي غير مباشر؛ لمحاولة لإحياء اتفاق جزئي يتضمن قيودًا تقنية على تخصيب اليورانيوم مقابل تخفيف جزئي للعقوبات، دون المرور بمجلس الأمن، أو العودة إلى الاتفاق السابق (JCPOA) ويعكس هذا توجهًا أمريكيًا لتسوية الخلافات الإقليمية عبر اتفاقات ثنائية مرنة، بعيدًا عن التزامات تحالفاتها، أو الرؤية الإسرائيلية المعلنة في هذا الشأن.
التفاوض البرجماتي الأمريكي مع حماس: تشير المعلومات المتوفرة حول محادثات أمريكية مباشرة وغير رسمية مع ممثلي حركة حماس، عبر وسطاء قطريين وأوروبيين، إلى نية الولايات المتحدة إعادة هيكلة علاقتها مع قطاع غزة، بعيدًا عن التنسيق الحصري مع السلطة الفلسطينية أو إسرائيل. وإن ثبت ذلك، فإنه يعبر عن نزعة واقعية جديدة تجاه فواعل ما دون الدولة، تستند إلى تقييم وظيفي لا أيديولوجي.
توطيد التحالف الأمريكي الخليجي، فقد عكست زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى الرياض، وأبو ظبي، والدوحة، تحركًا أمريكيًا باتجاه توطيد العلاقات مع دول الخليج العربية، وضبط بوصلة الشراكات الإقليمية بعيدًا عن الاستقطاب الروسي-الصيني. ثم معالجة تراجع الثقة الخليجية بالمظلة الأمنية الأمريكية. وقد تميزت الزيارة بعدة سمات، عبرت عن تحوّل في الرؤية الأمريكية لمنطقة الخليج: من كونها ‹ساحة صراع› إلى ‹معبر استراتيجي ضمن البنية التحتية للهيمنة الاقتصادية› كما أن محاولة واشنطن تجنب الخوض في تفاصيل الصراع الإيراني-الإسرائيلي، والتركيز على الاستثمار في مشاريع الاقتصاد والبنية التحتية، يعكس نزعة لإعادة تشكيل الوظيفة الجيوسياسية للمنطقة بوصفها محور مرور، لا ساحة صراع. ومن أهم هذه السمات:
إعادة تأكيد الالتزام الأمريكي بأمن الطاقة في الخليج، في ظل ارتفاع الأسعار وزيادة الطلب الأوروبي.
محاولة دفع السعودية للتطبيع مع إسرائيل، في الظرف الإقليمي والدولي المناسب
إحياء المبادرة الأمريكية لإطلاق ممر الهند – أوروبا، لمنافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ثانيا: انعكاسات الصراع على الشرق الأوسط:
أفرزت التحولات الدولية الراهنة نوعًا جديدًا من التفاعل الجيوسياسي غير المتماثل في الشرق الأوسط، الذي تتقاطع فيه أدوات القوة الصلبة والتقنية، مع صعود الفاعلين من غير الدول، وفي مقدمتهم الجماعات الوكيلة. كما باتت التكنولوجيا العسكرية والمدنية، لاسيما الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة والبنية السيبرانية، فاعلًا حاسمًا في إدارة النفوذ بالمنطقة، وأداة لإعادة توزيع أثقال القوة الإقليمية بطريقة تتجاوز الأطر الكلاسيكية.
وهنا، يمكن فهم تسارع العسكرة التقنية بمنطقة الشرق الأوسط، بوصفه امتداد للمنافسة بين القوى الكبرى الفعالة التي تصدّر تقنياتها إلى الحلفاء الإقليميين لضمان استمرار نفوذها الاستراتيجي. وفي هذا الإطار، عزّزت إسرائيل شراكاتها الأمنية بشكل غير معلن مع عدد من دول الخليج في مجالات مثل الأمن السيبراني، والتقنيات الجوية الدفاعية، بما يتجاوز اتفاقيات التطبيع المعلنة إلى إعادة هندسة التوازنات الأمنية في الإقليم. في مواجهة توظيف إيران للتكنولوجيا المنخفضة الكلفة ومرتفعة التأثير، مثل الطائرات المسيّرة وصواريخ الكروز، عبر نموذج ‹النقل التكنولوجي عبر الجماعات الوكيلة› الذي برز في دعمها لجماعة أنصار الله في اليمن، وحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، حتى تحولت هذه الكيانات من مجرد أدوات ضغط إلى مراكز قوة جيوسياسية قادرة على التأثير في السياسات الداخلية والخارجية للدول المستضيفة لها. علاوة على كونها تمثل مساحات عزل تُستخدم لتأمن العمق الداخلي الإيراني.
ويمكن الإشارة إلى أهم انعكاسات الصراعات الجيوسياسية على منطقة الشرق الأوسط، في النقاط التالية:
صعود فاعلين من دون الدولة، فقد كان تصاعد الاضطرابات الدولية الجارية محفزا لإعادة تعريف الفاعلين بمنطقة الشرق الأوسط، وتراجع قدرة القوى الكبرى على الحسم، مما أدى إلى توسّع نفوذ جماعات ما دون الدولة (Sub-State Actors) ليس فقط كأذرع وكيلة، بل بوصفها كيانات فرضت، بحكم الأمر الواقع، تموضعها في المعادلات الإقليمية.
إذ لم تعد جماعات مثل أنصار الله في اليمن، أو حزب الله في لبنان، أو الحشد الشعبي في العراق، أو حماس بقطاع غزة مجرد أدوات في الصراع الإقليمي، بقدر ما أصبحت بنى شبه دولية، تدير شبكات مالية وعسكرية، وتمارس الحكم المباشر أو غير المباشر، وتمتلك تمثيلًا تفاوضيًا ضمن التفاعلات الإقليمية والدولية. حتى بات يُنظر إليها – سياسيًا وميدانيًا – كأطراف حقيقية ضمن ما يمكن وصفه بـ ›المعادلة الشرق أوسطية الهجينة‹ التي تجمع بين الدولة التقليدية والفاعل الشبكي من دون الدول.
اندلاع المواجهات الإقليمية: فقد شهدت المنطقة مواجهات ضارية، عقب العملية التي شنتها حركة المقاومة الإسلامية حماس ضد إسرائيل، يوم 7 أكتوبر 2023م، والتي لم تتوقف على القضاء التام على حماس، وتدمير قدراتها بالكامل، إذ شملت أيضا تصعيدًا إسرائيليًا استهدف القضاء على قدرات حزب الله اللبناني عندما استهدفت لأول مرة قياداته الميدانية والسياسية، بضربات جوية دقيقة باستخدام الذكاء الاصطناعي والمجسات الحرارية. حتى أصبح الحزب لا يحتفظ لنفسه سوا بقوة أمنية بالداخل
وبذات القدر، أظهرت جماعة أنصار الله، بوصفها فاعل يتجاوز التبعية التقليدية لإيران، قدرة عملياتية مستقلة على تعطيل الملاحة في البحر الأحمر، واستهداف مواقع داخل العمق الإسرائيلي. سواء بتوجيه مباشر، أو غير مباشر. في وقت حافظت فيه هذه الجماعة على تفاوض نشط مع سلطنة عمان وروسيا. والملفت للانتباه أن احتلال جزيرة سقطرى من قِبل قوات إسرائيلية وإماراتية، لم يَحد من تمدد الجماعة، بل عزز من خطابها السياسي كحركة ‹تحرر وطني مقاومة للهيمنة‹
تصدع مركزية الدولة الوطنية، فإضافة إلى تصدع مركزية الدولة في كل من ليبيا والسودان واليمن ولبنان، مثّلت الدولة السورية، التي كانت تمثل أحد النماذج التقليدية للدولة الصلبة، غير أن التطورات المختلفة كشفت عن تصدع مركزية الدولة فيها وتفتت سيادي حاد في دمشق؛ إذ لم يعد القرار السوري يُصنع في مؤسسات الدولة. بقدر ما ترسمه مصالح القوى الخارجية، روسيا، إيران، وتركيا وقطر والسعودية وإسرائيل. ولعل هذا ما أدى إلى تحويل سوريا إلى مساحة تنافس نفوذ وليست فاعلًا إقليميا. وهو الأمر الذي انتهى بسقوط نظام بشار الأسد بوصفه رمزا لمركزية الدولة وسيادتها؛ ووصول فصيل من فصائل جماعات ما دون الدولة إلى سدة الحكم ونيل اعتراف إقليمي ودولي.
حلحلة المعضلة الكردية، فقد أدّت التحولات الإقليمية إلى إعادة تقييم تركيا لقضية تعدد الهويات الداخلية، الأمر الذي أدى إلى حدوث انفراج محدود تجاه تيارات كردية معتدلة داخل الحدود التركية، بالتوازي مع محاولات أنقرة اختراق التكتلات الكردية في العراق وسوريا. ففي شمال العراق، حافظت أنقرة على علاقات مؤسسية مع إقليم كردستان، خاصة مع ‹الحزب الديمقراطي الكردستاني› مقابل تصعيد عسكري ميداني ضد قواعد ‹حزب العمال الكردستاني› بمناطق سنجار وقنديل. أما في شمال شرق سوريا، فقد تبنّت تركيا سياسة مزدوجة، تمثلت في مواجهة ‹وحدات حماية الشعب› (YPG) باعتبارها امتداد لحزب العمال، مع السعي إلى تفكيك الكتلة الكردية عبر تسويات محلية وجماعات منشقة، تدين بالولاء لأنقرة سياسيًا أو أمنيًا.
في شمال سوريا تعمل أنقرة بتدرج على ›الدمج السكاني والاقتصادي المقنّن ‹للمجتمعات الكردية، خاصة في مناطق مثل ‹تل أبيض› و‹رأس العين› ضمن مقاربة تركية لإدارة المسألة الكردية إقليميًا. وقد اتخذت هذا النهج بديلًا عن المواجهة العسكرية؛ سعيًا إلى إعادة تشكيل البنية الديموغرافية للمناطق الحدودية، عبر تسكين عائلات عربية وتركمانية إلى جانب العائلات الكردية، وفرض نمط إداري محلي مرتبط بالهياكل المدنية المدعومة منها. وهو الأمر الذي يمثل استراتيجية تركية لتحييد الهوية القتالية للأكراد وإعادة إدماجها في بنية سلطوية موالية.
وتسعى تركيا من خلال هذا الدمج إلى تفكيك كتلة الحكم الذاتي الكردي الممتدة من ‹القامشلي› إلى ‹عين العرب› عبر فرض واقع اجتماعي–اقتصادي مغاير، دون الحاجة إلى احتلال شامل أو تصعيد دائم. ومع أن هذه السياسة لا تخلو من تحديات، إلا أنها تعكس إدراكًا تركيًا متزايدًا بأن الحسم العسكري لم يعد كافيًا، وأن الهندسة المجتمعية المركبة باتت الوسيلة الأكثر ملائمة لضبط الهوية الكردية في سوريا.
وهنا يمكن القول إن أنقرة تحوّلت من استراتيجية الحسم القومي إلى ما يشبه ‹إدارة التفكك الكردي‹ أي تفكيك الكتلة الكردية إلى مكونات موزعة الولاء، تُستخدم لتقوية نفوذها في المناطق الحدودية، دون أن تُقدّم تنازلات على مستوى الهوية الوطنية أو السيادة. أما على مستوى الداخل التركي، فقد شهد تهدئة نسبية للخطاب الرسمي تجاه الأحزاب الكردية القانونية، بهدف احتوائها ضمن معادلة الانتخابات المحلية، بما يعكس تحولًا تكتيكيًا وليس مراجعة جوهرية. ويشير هذا إلى أن تركيا لا تزال تتعامل مع المسألة الكردية بوصفها أداة تكيّف سياسي لا تسوية نهائية.
إعادة التموضع الإقليمي لتركيا، فقد استغلت تركيا انشغال القوى الكبرى بالحرب الروسية–الأوكرانية وتراجع الانخراط الأمريكي بمناطق النزاع التقليدية، في إعادة تشكيل ارتكازها الإقليمي من خلال ما يمكن وصفه بـ ‹الانتشار العملياتي المرن (Flexible Operational Outreach) ‹فكثّفت تحركاتها العسكرية في شمال العراق وشمال سوريا، عبر ترتيبات سياسية واقتصادية مستحدثة، تضمنت تقارب تكتيكي مع مكوّنات كردية معتدلة، سعياً إلى تطويق التحدي الكردي عبر ما يُعرف بـ ‹التسوية دون تنازل› داخليًا وخارجيًا.
ومن ناحية أخرى، سعت تركيا إلى تعزيز علاقاتها الإقليمية، فشهدت علاقاتها مع مصر تطورًا لافتًا، فأُعلن عن استئناف التعاون الأمني وتنسيق المواقف في قضايا شرق المتوسط وليبيا، لاسيما الارتكاز في شرق إفريقيا المتباين على الساحة الصومالية والإثيوبية. ويعكس التنسيق والتعاون العسكري والاستخباراتي بين القاهرة وأنقرة إدراكا متبادلا لأهمية التعاون بين البلدين في مواجهة تمدد القوى غير العربية. ولعلنا نعد التقارب بين البلدين الكبيرين تحولًا مهمًا في بنية التحالفات الإقليمية الذي أسهم في تخفيف حدة التوتر الذي ساد العقد الماضي.
كما حافظت تركيا على علاقات جيدة مع كل من إيران وقطر، مستفيدة من دور الوسيط في عدد من الملفات، خاصة في سياق التوتر الخليجي–الإيراني. وقد مكّنها هذا التوازن من الاستمرار في بناء نفوذ ناعم في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، عبر أدوات اقتصادية وإنسانية وتعليمية.
وتراهن أنقرة على أن إدارة ترامب الثانية ستخفف من الضغوط عليها المرتبطة بحقوق الإنسان والديمقراطية، ما يُتيح للرئيس أردوغان توسيع هامش المناورة داخليًا، مع تعزيز الدور التركي كقوة ‹ضابطة توازن› بالإقليم. وفي هذا السياق، تبرز تركيا بوصفها فاعلًا استراتيجيًا ‹هجيني الهوية› أطلسي في بنيته، إسلامي في عمقه، وشرق أوسطي في امتداده. وتسعى لإعادة إنتاج دورها الإقليمي دون الانخراط في أحلاف مغلقة أو صدامات مباشرة.
تغول الارتكاز الإقليمي لإسرائيل، إذ تسعى إسرائيل، في ظل إدارة ترامب الثانية، إلى تعظيم مكتسباتها العسكرية والجيوسياسية التي حققتها مؤخرا، دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. وتشير التطورات الميدانية على الجبهة الشمالية مع حزب الله، خلال عام 2025م، إلى اعتماد تل أبيب توجيه ضربات نوعية مركزة ضد قيادات الحزب الوسيطة وقدراته التقنية، دون احتلال أو اجتياح بري، تماثل نموذج ‹الضربات ما دون الحرب› (Sub-War Threshold Tactics). وهي استراتيجية تسمى ‹الاحتواء الذكي› (Smart Containment).
كما واصلت إسرائيل تمددها العسكري المنظم داخل الحدود السورية، فعززت من وجودها في جنوب وغرب سوريا عبر ضربات متكررة لمواقع الحرس الثوري الإيراني ومخازن السلاح التابعة للجماعات الموالية لطهران. ووسّعت دائرة التنسيق مع روسيا في المجال الجوي السوري، وهو ما أتاح لها مجالًا عملياتيًا شبه مفتوح لتعطيل أي بنية ارتكاز أو تموضع استراتيجي إيراني أو مقاوم على الأراضي السورية.
كذلك عملت إسرائيل بشكل متسارع على إعادة تشكيل الوضع في قطاع غزة، مستفيدة من الانقسام الفلسطيني والتغيرات الإقليمية. فبعد وقف العمليات العسكرية الموسعة في القطاع، بدأت مرحلة جديدة من الإدارة غير المباشرة، تقوم على دعم كيانات محلية بديلة، وخلق بيئة سياسية-اقتصادية تُمكّن من تحييد الحضور الحمساوي تدريجيًا. وفذت في الضفة الغربية، سلسلة من الإجراءات الأمنية الميدانية والإدارية، بهدف إعادة صياغة بنية السلطة الفلسطينية على أسس وظيفية جديدة، تتماشى مع رؤيتها لما بعد مرحلة محمود عباس.
أما في البحر الأحمر، فتكثّف إسرائيل نشاطها الاستراتيجي، مدفوعة بتوسع أنصار الله في استهداف الملاحة والمصالح الغربية. وقد أدى ذلك إلى تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي مع الإمارات، وإنشاء نقاط ارتكاز بحرية غير معلنة في جزر إريترية مدعومة لوجستيًا من القيادة المركزية الأمريكية.
في المجال الاقتصادي، تعمل إسرائيل على تحويل موقعها الجيوسياسي إلى محور ربط إقليمي، ضمن ما يمكن تسميته بـ ‹التحالفات الوظيفية› فقد شاركت شركات إسرائيلية كبرى في مشروع ‹الممر الرقمي› الذي يربط الهند بالخليج وأوروبا، لتكون تل أبيب جزءًا من البنية الرقمية الاقتصادية في المنطقة، وليس مجرد لاعب أمني.
كما تقوم المؤسسات الاستخباراتية الإسرائيلية بدور محوري في هندسة هذه التحالفات من خلال تبادل المعلومات ومكافحة التهديدات السيبرانية، وهو ما منح إسرائيل موطئ قدم داخل الأنظمة الأمنية الخليجية الجديدة، دون الحاجة إلى تطبيع علني شامل. ويشير هذا التحول إلى أن إسرائيل لم تعد تكتفي بوضعها كفاعل أمني، بل تسعى لأن تكون قوة إقليمية بنيوية، تتداخل في بناء المؤسسات، وتوجيه التحالفات، وإدارة التوازنات، دون التورط المباشر في الحروب الشاملة.
تزايد حذر مصر الاستراتيجي، فعلى الرغم من مركزية مصر التاريخية في بنية النظام الإقليمي، إلا أن موقعها في خريطة التفاعلات الإقليمية يعكس حالة من الحذر الاستراتيجي. فقد بدت القاهرة خلال الشهور الأخيرة أكثر ميلًا إلى إدارة المخاطر بدلًا من صناعتها، مدفوعةً بضغوط داخلية اقتصادية، وتوازنات خارجية معقدة فرضتها التطورات المتسارعة في غزة وليبيا، فضلاً عن السودان والقرن الإفريقي والخلاف حول الحصص المائية مع إثيوبيا. ومن ثم لعبت مصر دور الوسيط التقليدي بين حماس وإسرائيل، لكنها وجدت نفسها في منافسة مع الوساطة القطرية–التركية المدعومة أمريكيًا، وهو ما أضعف قدرتها على التأثير في مخرجات التهدئة أو التسويات. كما أن تراجع اعتماد واشنطن على الوساطة المصرية، مفضلة التفاوض المباشر مع حماس، مثّل تحديًا رمزيًا ووظيفيًا للوسيط المصري.
كما تُواجه مصر تحديًا إستراتيجيًا مركبًا في البحر الأحمر، يتمثل في الصعود الأمني الإسرائيلي والإماراتي المدعوم أمريكيًا، وهو ما يقلص من هامش سيطرتها التاريخية على المضائق والممرات البحرية. ولاتزال حتى الآن محاولات القاهرة في مبادرات الأمن البحري المشترك، خاصة في ظل تعقيد المشهد اليمني وتمدد أنصار الله. أما في المشرق العربي، فقد أظهرت انفتاحًا حذرًا تجاه تركيا، عبر استئناف التنسيق الأمني والدبلوماسي. إلا أن هذا المسار لا يزال في مراحله الأولية، ولم يتحول بعد إلى شراكة استراتيجية مستقرة.
وهكذا، تسير مصر على خيط رفيع بين التفاعل المنضبط والحضور الرمزي، مستفيدة من رصيدها التاريخي ومن مكانتها داخل الجامعة العربية، لكنها تواجه معضلة غياب الموارد الكافية للعب أدوار إقليمية كبرى، في ظل تصاعد الحضور الخليجي–التركي–الإسرائيلي الجديد؛ رغم استيعابها للاجئين والنازحين الإقليميين، والوفاء بأدوار الحاضنة الكبرى.
ثالثا: التفاعلات الإقليمية المحتملة:
على الرغم مما يبدو تصادما بين أدوار إسرائيل وتركيا، إلا أن الواقع الإقليمي الجديد يفتح المجال للـتكامل غير مباشر بينهما في ‹إدارة الفراغات الأمنية‹ خاصة مع ضعف الدولة المركزية في سوريا واليمن والعراق. فبينما تُمسك إسرائيل بمفاتيح الأمن العالي التقنية، تعمل تركيا على توسيع البنية البشرية والسياسية الميدانية، ضمن ما يشبه ›التحالف العابر‹ الذي لا تعلن عنه الوقائع الدبلوماسية، بقدر ما تصنعه الضرورة الجيوسياسية.
من المحتمل أن تشكل المتغيرات الجارية ملامح ‹شرق أوسط مفكك وظيفيًا› حيث لم تعد الدولة الوطنية مركز القرار السيادي، بل باتت أحد الفواعل في واقع متعدد المستويات، تتداخل فيه القرارات المحلية مع الإقليمية والدولية، عبر أدوات صلبة وتقنية وهجينة. وفي ظل هذا التداخل، من المحتمل أن تواجه الأنظمة السياسية تحديات مركبة، ممثلة في ضرورة مواكبة التقدم التكنولوجي للسيطرة والحوكمة، مع مخاوف من أن تستخدم هذه التقنيات نفسها كأدوات للاختراق وتقويض الاستقرار الداخلي، كما برز ذلك جليًا في الهجمات السيبرانية المتبادلة بين إسرائيل وإيران.
تشير التفاعلات الدولية إلى أن النظام العالمي لم يعد يتحرك وفق نمط الصعود الأحادي، أو التعددية المنظمة، بل نحو حالة من التعددية الفوضوية المنضبطة، التي تتداخل فيها أنماط الهيمنة الصلبة بالمرنة، وتتنافس فيها القوى الكبرى على إدارة ساحات المنافسة لا إخضاعها. وفي قلب هذه الفوضى الجيوسياسية، سوف يعاد رسم خريطة الشرق الأوسط على نحو غير مسبوق، تُختبر فيه مفاهيم الدولة، والسيادة، والتحالف.
وبينما تسعى الولايات المتحدة، في عهد إدارتها الجمهورية الجديدة، إلى إعادة تموضعها العالمي من خلال الصفقات الثنائية وضبط النزاعات، تتحرك قوى إقليمية صاعدة — كإسرائيل وتركيا — لملء الفراغ، كلٌ وفق تصوره الخاص للنظام الأمني والاقتصادي. وفي ذات الوقت، تبرز جماعات ما دون الدول، ويظهر الفاعلون غير الرسميين، بوصفهم قوى وازنة تُعيد تشكيل معادلات الردع والتحكم المحلي.
أما الدول التقليدية، مثل مصر، فسوف تواجه معضلة الاستمرار بين الرمز والدور، في بيئة يغلب عليها التسابق على النفوذ والتقنية أكثر من الالتزام بالقواعد. وبناء عليه، فإن منطقة الشرق الأوسط سوف تدخل مرحلة من الهندسة الجيوسياسية الهجينة، حيث لا يعود التنافس على المساحات وحدها، بل على الأنماط والمفاهيم الحاكمة لمستقبل النفوذ.