العلاقات المصرية ـ الأفغانية
بواسطة :
وقد مرت العلاقات المصرية الأفغانية، على ما يقارب الستين عاما، بمرحلتين، الأولى كانت فيها العلاقة بين البلدين المسلمين تقليدية من جميع الجوانب، وامتدت لثلاثين عاما، من عام 1922م، وحتى عام 1952م، والثانية كانت مزدهرة في جميع المجالات، وامتدت لربع قرن تقريبا من عام 1952م وحتى عام 1979م، ولم تشهد تحولات كبرى؛ وذلك لأن كلا البلدين لا يجمعهما جوار جغرافي مشترك يمكن أن ينجم عنه بروز خلافات بينهما على غرار ما حدث بينها وبين إيران وباكستان أو بينها وبين الاتحاد السوفييتي السابق؛ إذ تفصل بينهما مسافة تبلغ 3,579,70 كم. كما لم تكن مصالحهما المشتركة قد اتسعت أو تشابكت إلى الحد الذي قد يفضي إلى توتر أو صدام بينهما. ومن ثم اكتفى البلدان بمجموعة من السياسات والتحركات الدبلوماسية التقليدية والمعتادة، التي قامت على جملة من القواسم المشتركة التي أفضت إلى تعزيز علاقات الثنائية بينهما.
ولم لا وقد تماثل كفاح البلدين ضد بريطانيا، وعاني من ويلات الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1919م) وتلمسا نيل مطالبهما المشروعة في مؤتمر الصلح بباريس، حتى نالت أفغانستان استقلالها عام 1919م، بعد خوضها الحرب الثالثة مع القوات البريطانية، ونالت مصر استقلالها عن بريطانيا، بموجب تصريح 28 فبراير1922م، كما عانا من ويلات الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945م)
وقد تزامن قيام ثورة 23 يوليو 1952م، مع وجود حكومة وطنية أفغانية برئاسة الأمير محمد داود خان، الأمر الذي مثل أحد أسباب التوافق في التوجهات الوطنية للبلدين، خاصة أن كابل بادرت بالاعتراف بهذه الثورة ورحبت بقيام النظام الجمهوري. ومن ثم آمن البلدان بعدد من المبادئ السياسية المشتركة، مثل الحياد الإيجابي، والمشاركة في مؤتمر باندونج عام 1955م، وتأسيس منظمة التضامن الأفرو آسيوية، وحركة عدم الانحياز. فضلا عن رفضهما الانضمام للأحلاف والتكتلات العسكرية، فمثلما رفضت مصر قيام حلف بغداد عام1954م، من المبدأ، فقد رفضت أفغانستان جميع المحاولات التي سعت لضمها إلى هذا الحلف، خاصة أنه كان يُعد أحد أوجه عملية الاستقطاب التي كانت تتعرض لها منطقة الشرق الأوسط على امتدادها الجغرافي وصولا لمنطقة وسط آسيا.
وقد بلغ مستوى العلاقات المصرية الأفغانية حد تطابق الرؤى والمواقف تجاه العديد من القضايا الإقليمية والدولية، مثل عدم اعتراف أفغانستان بإسرائيل، وهو أمر كان محل تقدير مصري، إذا ما قورن بالموقف التركي الذي اعترف بها عام 1949م، والإيراني الذي اعترف بها أيضا عام 1960م، وتأييد كابل حق مصر في تأميم قناة السويس، وأثناء تصديها للعدوان الثلاثي، وصولا إلى تأييدها لمبادرة الرئيس السادات بزيارة للقدس عام 1977م، فضلا عن مساندة أفغانستان الدائم للقضايا العربية مثل القضية الفلسطينية، وثورة التحرير الجزائرية. وفي حين قدمت مصر كل ما في وسعها من دعم ومساندة لأفغانستان.
إشكالية الدراسة
يمكن صياغة إشكالية هذه الدراسة في التساؤلات التالية: ما خطط مصر لتعزيز أوجه التعاون مع أفغانستان؟ وما محاور تحركاتها لتفعيل دورها في أفغانستان؟
تساؤلات الدراسة
يتفرع عن الإشكالية السابقة عدة تساؤلات فرعية أخرى، أهمها:
1. متى بدأت العلاقات السياسية بين مصر وأفغانستان في التاريخ الحديث والمعاصر؟
2. ما هي العوامل التي أدت إلى تطور هذه العلاقات، وما هي أنماط هذا التطور؟
3. كيف تعامل البلدان مع القضايا التي واجهت البلد الآخر؟
4. إلى أي مدى أسهمت المواقف السياسية المشتركة في تطور العلاقات السياسية بينهما؟
أهمية الدراسة
ارتباطا بما سبق، فإن هذه الدراسة تتمتع بأهمية من حيث الأكيد على:
1. أن التنسيق والتعاون بين البلدين يمكن أن يزيد من مكاسبهما إزاء النظام الدولي الراهن.
2. أن التطورات الدولية تفرض على مصر البحث عن صيغة، أو منظومة جديدة لعلاقاتها، تمكنها من مواجهة التحديات والتعقيدات التي تواجهها المنطقة.
3. أن المصالح المشتركة سياسيا وثقافيا واقتصاديا سوف تكون من العوامل المؤثرة على علاقات التقارب بين مصر وأفغانستان، وتعزز دور مصر في آسيا الوسطى على جميع المستويات.
4. أنه يمكن لمصر، بما لها من ريادة إسلامية منشودة وسمعة طيبة، أن تعيد صياغة الواقع الثقافي الأفغاني بما يجعلها نموذجا مكملا بين دول آسيا الوسطى
الإطار الزمني للدراسة
يتحدد الإطار الزمني لهذه الدراسة في الفترة من 1922 حتى 1979م، ويأتي تحديد نقطة البداية بعام 1922م، نظرا لأنه العام الذي شهد مبادرة أفغانستان بالاعتراف باستقلال مصر وإقامة علاقات دبلوماسية معها، بينما جاءت نقطة الانتهاء بعام 1979م، نظرا لأنه العام الذي قطعت فيه كابل علاقاته مع القاهرة.
تقسيم الدراسة
تنقسم هذه الدراسة إلى:
المقدمة
التمهيد
المبحث الأول: العلاقات المصرية ـ الأفغانية (1922 ـ 1952م)
المبحث الثاني: عوامل تعزيز التقارب المصري ـ الأفغاني
المبحث الثالث: العلاقات المصرية الأفغانية (1952 ـ 1979م)
الخاتمة والتوصيات
ملحق الوثائق
التمهيد
أفغانستان، دولة إسلامية تقع في قلب آسيا الوسطى، تبلغ مساحتها حوالي 652,230 كيلومترا مربعا. وهي دولة حبيسة جغرافيا، أي لا منفذ لها على البحار؛ إذ تحيط بها اليابسة من الجهات الأربع، التي تشغلها خمس دول، بطول حدود دولية تبلغ 5529 كم، إذ تحدها من جهة الشمال كل من: تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، ومن الجنوب باكستان، من الغرب إيران، ومن الشرق الصين. وعلى الرغم من أفغانستان دولة معزولة جغرافيا إلا أنها مثلت عبر التاريخ، بفضل موقعها الاستراتيجي، ملتقى للقوافل التجارية العابرة بين الشرق والغرب، بوصفها جسراً يربط بين أربع كتل استراتيجية مهمة بوسط آسيا، فتربط روسيا الواقعة شمالا، بشبه القارة الهندية جنوبا، كما تربط الصين الواقعة شرقا، بإيران غربا. الأمر الذي جعلها، منذ القدم، منطقة جذب بشري ومعبرا للغزاة من الشمال والجنوب الشرقي، منذ الغزو المغولي عام 1221م وحتى المحاولات البريطانية الثلاث لاحتلالها 1840م، و1880م، و1919م، مروراً بالاجتياح السوفييتي عام 1979م، ثم الغزو الأمريكي لها أيضا عام 2001م،( )
وقد عانت أفغانستان من صراع الإمبراطوريات، التي كانت تتسابق للتوسع في آسيا طيلة القرن التاسع عشر، فحاولت روسيا القيصرية الوصول إلى المياه الدافئة بالمحيط الهندي عبرها، وحاولت الإمبراطورية البريطانية تعزيز مواقعها في الهند، من خلال السيطرة عليها، عندما قامت القوات البريطانية بغزو الأراضي أفغانية ثلاث مرات. الأولى، كانت بذريعة محاولة الحد من التوسع الروسي بالمنطقة، فدارت المعارك البريطانية الأفغانية في الجزء الجنوبي ومن وادي هلمند عام ۱۸۳۹م، واستمرت حتى انسحاب القوات الغازية، عام 1842م، والمرة الثانية، كانت بسبب وصول بعثة روسية إلى كابول لعقد معاهدة مع أمير أفغانستان «شير علي خان» (حكم بين 1863 و1879م) في نوفمبر 1878م، فاندلعت الحرب الثانية بينهما. ثم نشبت الحرب الثالثة بينهما، من 6 مايو إلى 8 أغسطس 1919م وانتهت بتوقيع معاهدة «راولبندي» التي أنهت الوجود البريطاني كلية في أفغانستان، والاعتراف باستقلالها، الذي أعلن رسميا في يوم 19 أغسطس 1919م، في عهد الأمير «أمان الله خان» (1892 ـ 1960م)( )
وقد بدأ أمان الله عهده بإصلاحات سياسية واسعة، فوضع أول دستور للبلاد في عام 1923م، وحول نظام الحكم فيها من إمارة إلى مملكة عام 1926م، ومن ثم كان أول من نودي ملكا عليها. وقاد انفتاحا في علاقات بلاده الخارجية، فتبادل التمثيل الدبلوماسي مع كثير من دول العالم، وأبرم معاهدات صداقة مع عدد من الدول منها الاتحاد السوفييتي وإيطاليا وإيران عام 1921م، ومصر عام 1929م، كما اطلع بنفسه على تجارب التنمية بعدد من الدول الأخرى، أثناء رحلته الطويلة، التي استمرت ستة أشهر، زار خلالها تسع دول، هي: الهند ومصر وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا وتركيا وإيران، ومن ثم قام بمحاولة إدخال إصلاحات اجتماعية. بدأها بتطوير التعليم فأنشأ المدارس والمعاهد العليا، وأولى اهتماما بتعليم المرأة وابتعث عددا منهن إلى أوروبا. غير أن المجتمع، في ذلك الوقت، لم يتقبل مثل هذه الجرعة الكبيرة من الإصلاحات، خاصة زعماء القبائل الذين قاوموها بشده، حتى أُجْبِرَ على التنازل عن العرش عام 1929م، ليقضي بقية عمره حتى وفاته في منفاه بمدينة زيورخ السويسرية يوم 25 ابريل 1960م( ).
وقد خلفه على العرش الملك «محمد نادر شاه» بعد أن تمكن من استعادة الحكم مرة أخرى لأسرة الـ«بركزاي» والقضاء على تمرد «حبيب الله كلكاني» المعروف بـ «ابن السقا» الذي كان من بين من تمردوا على إصلاحات أمان الله خان حتى سيطر على الحكم معلنا نفسه ملكا على البلاد، بين يناير وأكتوبر 1929م، وقد تبني نادر شاه دستورا جديدا للبلاد عام 1931م، ولكن سرعان ما تم اغتياله يوم 8نوفمبر 1933م، على يد أحد أنصار «ابن السقا» ليتولى الحكم من بعده ابنه «محمد ظاهر شاه»( )
وقد بذل محمد ظاهر شاه جهودا كبيرة لتعزيز مكانة أفغانستان الدولية، حتى أصبحت في عهده عضوًا في عصبة الأمم المتحدة عام 1934م، وانضمت إلى «ميثاق سعد آباد» عام 1937م، الذي ضم أيضا من كل من إيران والعراق وتركيا، ثم أصبحت عضوًا في هيئة الأمم المتحدة 1946م، فضلا عن أنها سجلت حضورا فعّالا ضمن الدول الـ 29 التي شاركت في مؤتمر باندونج عام 1955م، وباتت عضوا أيضا في منظمة تضامن الشعوب الآفروآسيوية وحركة عدم الانحياز.( )
وفي ضوء ما سبق، بادرت أفغانستان بتعزيز علاقاتها مع مصر منذ عام 1922م، فأوفدت رجلا مرموقا ليكون أول وزير مفوض لها لدى القاهرة. صحيح أن العلاقة بينهما كانت في بدايتها مجرد علاقات تقليدية تربط بين بلدين مسلمين، تفصل بينهما مسافة تبلغ 3,579,70 كم، إلا أنها شهدت تطورا ملموسا، بعد قيام ثورة يوليو في مصر عام 1952م، إذ رُفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بينهما من درجة المفوضية إلى درجة السفارة، ثم كانت العلاقات المصرية الأفغانية، منذ ذلك الوقت، شاهدة على جهود البلدين لتعزيز أواصر الأخوة والتعاون البناء بينهما.( ) حتى قُطعت عام 1979م؛ عقب انقضاض الشيوعيين على الحكم في أفغانستان، لتبدأ مصر من فورها ممارسة دورها التاريخي في مساندة نضال الشعب الأفغاني لدحر الغزو السوفييتي، ونيل استقلاله.
العلاقات المصرية ـ الأفغانية
(1922 ـ 1952م)
تعود نشأة التمثيل الدبلوماسي بين مصر وأفغانستان إلى عام 1922م، عام إعلان مصر «دوله مستقلة ذات سيادة» بموجب تصريح 28 فبراير 1922م، وإنهاء الحماية البريطانية عليها، عندما بادر الأمير حبيب الله أمير أفغانستان، بإرسال خطاب تهنئة( ) إلى الملك فؤاد بمناسبة نيل مصر استقلالها، بتاريخ الخامس من سبتمبر عام 1922م، وإيفاده، من جانب واحد، رجلا من كبار رجالات الفكر والسياسة ممن كانوا يتمتعون بسمعة وطنية وخبرة سياسية كبيرة، هو «محمود طرزي»( ) إلى بلاط المملكة المصرية، بوصفه أول وزير مفوض لها لدى القاهرة. (انظر الوثيقة رقم 1، بملحق الوثائق) ومن ثم، بدأت العلاقات المصرية الأفغانية، منذ ذلك الحين وحتى عام 1952م، عام رفع درجة التمثيل السياسي بينهما إلى مستوى السفارة، أولى خطواتها الرسمية نحو استكشاف فرص تعزيز التقارب. وكم كانت كابل هي صاحبة المبادرة في تعزيز تقاربها وتوطيد علاقتها مع القاهرة، ولم لا وقد قصدها الملك «أمان الله خان» بأول زيارة رسمية في التاريخ الحديث والمعاصر، عام 1927م، وكانت القاهرة شاهدة على توقيع أول معاهدة صداقة بين البلدين، عام 1929م، كما كانت شاهدة أيضا على تبني كابل عدد من المواقف الإيجابية، خلال هذه المرحلة، التي جسدت مدى اهتمامها بتحقيق مزيد من التقارب معها، فقد باركت لمصر قيام الجامعة العربية، وأيدت قرارها القاضي بإلغاء معاهدة 1936م، ثم اختصها الملك محمد ظاهر شاه بزيارة ودية عام 1950م، وهي جميعا كانت تمثل في حد ذاتها معطيات مهمة لأن تولى مصر اهتمامها بأفغانستان، لاسيما فيما بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م، وهذا ما سوف نتناوله على النحو التالي:
أولا: زيارة أمان الله خان لمصر:
اكتسبت هذه الزيارة أهمية خاصة في تاريخ العلاقات الأفغانية المصرية؛ لكونها أول لقاء رسمي بين ملكي البلدين في التاريخ، وهيأت المناخ لتبادل التمثيل الدبلوماسي بينهما. وكانت ذات شقين، الأول رسمي، لمدة ثلاثة أيام، من 26إلى 28 ديسمبر 1927م، ثم تحولت المدة المتبقية إلى زيارة خاصة حتى الخامس من يناير 1928م، وقد وصل الملك أمان الله خان على متن الباخرة «راجبوتانا» إلى ميناء السويس يوم 25 ديسمبر، ومنه إلى ميناء بور سعيد، حيث قضى ليلته( )، ثم توجه صباح اليوم التالي بالقطار إلى محطة مصر، حيث كان في استقباله في الثالثة عصراً الملك فؤاد وأمراء البيت المالك ورئيس مجلس الوزراء ورئيسا مجلسي الشيوخ والنواب وكبار رجال القصر، وأطلقت المدفعية 21 طلقة تحية لمقدم جلالته.( )
وقد حظيت باحتفاء الصحافة المصرية على نحو ماثل حفاوتها بجمال الدين الأفغاني؛ وعكست مكانة أفغانستان في قلوب المثقفين المصريين؛ فقد خصصت مثلا مجلة «اللطائف» غلاف عددها الصادر يوم 26 ديسمبر 1927م، لتغطية زيارة «جلالة ضيف مصر العظيم» وكتبت: «تحلى صدر اللطائف بصورة صاحب الجلالة الملك الشرقي المسلم العظيم أمان الله خان ملك الأفغان الذي تنتظر مصر قدومه مرحبة به محتفية بزيارته»( ) كما اختصتها جريدة «الأهرام» بتغطية أشمل وأوسع، إذ نشرت سلسلة من المقالات والتحقيقات الصحفية المتتالية لتعريف القارئ بأفغانستان( ) وخصصت صفحاتها الأولى، طيلة مدة الزيارة، لاطلاع القارئ على تفاصيل زيارة ضيف مصر هو الوفد الكبير المرافق له»( ) وألقت الضوء على أوجه «التعاون الروحي بين البلدين الشرقيين» ( )
وروى الكاتب الصحفي «مصطفى أمين» أن الملك فؤاد رحب بزيارة ملك أفغانستان، ولكنه عندما علم أن الملك أمان الله دعا نساء أفغانستان إلى نزع الحجاب اقتداء بـ «كمال أتاتورك» وأن البرقيات الواردة تفيد أن الملكة «ثريا» سترافق الملك «سافرة» اضطر إلى إلغاء إقامة الضيف الأفغاني بقصر عابدين؛ نظرا لأن التقاليد تحول دون اشتراك الملكة ثريا في الزيارة الرسمية. وقد وافق الملك أمان الله على أن تكون إقامة ثريا في مصر إقامة غير رسمية؛ فلا تشترك في الحفلات، أو الاستقبالات التي يدعى إليها، وألا تظهر سافرة أثناء إقامتها في مصر مراعاة لتقاليدها؛ فخضعت ثريا لرغبة الملك فؤاد الذي أصدر أمره إلى وزارة الداخلية بمنع تصوير ملكة أفغانستان. ومن ثم لم تظهر صورة واحدة للملكة ثريا في الصحف المصرية طوال مدة الزيارة.( ) وهكذا ظلت محتجبة طول مدة إقامتها في مصر، ولكن في اللحظة التي صعدت فيها جلالتها الى الباخرة الايطالية، التي أقلتها إلى إيطاليا، رفعت الحجاب باعتبار أنها أصبحت في أرض أجنبية، وحضرت مأدبة الغداء التي أدبها وزير إيطاليا المفوض في مصر وكان من بين المدعوين إليها محافظ الإسكندرية ومدير البلدية.( ) وقد نفت ملكة الأفغان أن يكون قد وصل إلى مسامعها الشريف في ميناء السويس أن تحتجب لأنها في بلد الحجاب، وقالت: «إن شيئا من ذلك لم يبلُغ جلالتها، وإنما رأت أن تحتجب في مصر وتُسفِر في بلاد السفور»( )
وكان من بين فعاليات برنامج زيارة الملك أمان الله خان، لقاء عدد من رجالات الفكر السياسة، فالتقى الزعيم «مصطفى النحاس» وأثنى على روح الراحل «سعد زغلول»( )كما التقى بهيئة أعضاء مجلس إدارة جمعية الشبان المسلمين( ) الذين خرج بعضهم بانطباعات غير مريحة عن مدى جرأة الملك واغتراره ببعض المظاهر الخلابة في سياحته، وكيف أنه اندفع في إجراء ما كان يراها إصلاحات، بينما كان الشعب الأفغاني يرى فيها خروجا عن الآداب والدين والعادات والقومية( )ويبدو أن هذه الانطباعات كانت سائدة أيضا لدى من كان يتابع ما يحدث في بلاد المشرق الإسلامي. ولعل هذا ما نرى شواهده في خطابين منفصلين كتبهما «محمد رشيد رضا» صاحب مجلة «المنار» وتلميذ الإمام «محمد عبده» و«جمال الدين الأفغاني» إلى كل من الملك أمان الله، ووزير خارجيته، بتاريخ 3 يناير سنة 1928م، وسلمه إلى وزيره المفوض في تركيا «غلام جيلاني خان» أثناء توديع جلالته في محطة سكك حديد مصر، عندما قال في خطابه للمك: «إن نهوضكم بقلب أحوال الشعب الأفغاني يحتاج إلى حكمة دقيقة وعلوم واسعة وثروة عظيمة وتدريج بطيء في كثير من الأمور. ويجب الحذر التام من حرية الإسراف والفسق والترف وتبرج النساء ومن القوانين المخالفة لعقائد الأمة وشريعتها الثابتة بالنصوص القطعية( ). وأعرب في خطابه لوزير الخارجية عن مخاوفه على مستقبل أفغانستان، ورغبته في نصح مليكه «بأن لا يغتر بالظواهر في مصر ولا في الترك؛ فمصر لولا إسراف إسماعيل باشا في التفرنج والمال لاستطاعت أن تملك شطر أفريقية الشرقي»( ) (للاطلاع على النص الكامل للكتابين، انظر الوثيقة، رقم 2، بملحق الوثائق)
ثانيا: إبرام معاهدة الصداقة الأفغانية المصرية:
بعد مضي قرابة العامين، على زيارة الملك أمان الله خان للقاهرة، أبرم البلدان معاهدة صداقة( ) عام 1929م، وهي المعاهدة أسست لمرحلة جديدة من الاعتراف المُتبادل باستقلال البلدين وإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، ووثق البلدان أواصر الصداقة بينهما على الوشائج الدينية وتجانس العلاقات الطبيعية والاجتماعية، والاتفاق على تبادل تأسيس الممثليات السياسية بينهما، بأن تؤسس القاهرة ممثلية سياسية لها بأفغانستان، أسوة بنظيرتها الأفغانية التي سبق أن بادرت بتأسيسها في مصر عام 1922م، كما أتاحت المجال أيضا لعقد اتفاقيات أخرى للتعاون الثنائي فيما بعد، خاصة في المجال الثقافي والتعليمي والاقتصادي. (للاطلاع على صورة للمعاهدة في نصها الفرنسي، مع ترجمتها إلى العربية، انظر الوثيقة رقم 3 بملحق الوثائق)
وفي عام 1930م، أوفد ملك أفغانستان الجديد «محمد نادر شاه»( ) «محمد صادق المجددي» خلفا لسلفه «محمود طرزي» حاملا كتاب اعتماده، بوصفه مندوبا فوق العادة ووزيرا مفوضا من لدن جلالته لدى القاهرة وذلك وفقا لنص الخطاب الشخصي( ) الذي أرسله إلى الملك فؤاد، ويحيطه علما باستقرار الأوضاع الداخلية، بعد القضاء على تمرد بعض القبائل الطاجيكية، بزعامة «حبيب الله کلکانی»( ) الذي سبقت الإشارة إليه. وقد حظي خطاب محمد نادر شاه بعناية الملك فؤاد الذي أبدى اغتباطه بحسم ما طرأ على الأمة الأفغانية من أسباب الانقلاب وعوامل الاضطراب، وأن وزير أفغانستان المفوض سيحظى بكل عطف منه وبكل تأييد ومن حكومته في أداء مهمته السامية وتحقيقا للأهداف المشتركة من زيادة إحكام روابط المودة والإخاء بين المملكتين ( ) (انظر الوثائق رقم: 4، و5، و6 بملحق الوثائق)
ومن ثم واصلت المفوضية الملكية الأفغانية عملها في القاهرة لرعاية المصالح الأفغانية بمملكة مصر والسودان، إلى جانب رعايتها في كل من لبنان وغانا، من خلال مبناها الكائن بشارع الفلكي، ولكن دون أن تقابل القاهرة كابل بفتح مفوضية سياسية لها بأفغانستان، طبقا لما نصت عليه معاهدة الصداقة المبرمة بين البلدين، المشار إليها سلفا «ونظرا لأن الدولة الأفغانية رأت أن تمثيلها السياسي في مصر لم يقابل بمثله، برغم لفتها نظر الحكومة المصرية، فإنها لم تجد مناصا من نقل سفارتها من مصر إلى جدة» في يناير من عام 1933م، وعلى الرغم من هذا، لم تُغلق المفوضية أبوابها تماما؛ بدليل أنه عندما اُغتيل الملك نادر شاه يوم 8 نوفمبر 1933م، أرسل الملك فؤاد، الأمين الثاني بالبلاط الملكي، إلى دار المفوضية الأفغانية لتقديم التعزية، كما أرسل برقية مواساة إلى الملك «محمد ظاهر شاه» ونكّست الحكومة أعلامها، وتوجه صاحب الدولة «عبد الفتاح باشا راشد» رئيس الوزراء ووزير الخارجية إلى المفوضية الأفغانية لتقديو واجب العزاء باسم الحكومة المصرية. فضلا عن رجال السلك السياسي وكبار العلماء والأعيان لهذا الغرض( ) وقد ظل الأمر على هذا النحو ثلاث سنوات، حتى افتتحت القاهرة مفوضيتها السياسية في كابل عام 1936م، وعينت «عبد الرحمن بك عزام» وزيرا مفوضاً غير مقيم( ) (انظر الوثيقة رقم 7 بملحق الوثائق)
وقد علق دبلوماسي بريطاني في كابول، على ذلك بقوله إن إنشاء «البعثة المصرية في كابول تقوم على فرضية الشعور الإسلامي، ولست المصالح المصرية؛ لأنها مصالح غير موجودة في هذا البلد في الوقت الحاضر»( ) على كل، أعادت أفغانستان، مقابل الإجراء المصري، محمد صادق المجددي ممثلا لها مرة أخرى لدى القاهرة عام 1939م، في عهد الملك محمد ظاهر شاه،( ) وقد تشرف بتقديم أوراق اعتماده والكتاب الخاص الموجه من مليكه إلى الملك فاروق، فور وصوله لمصر( ) (انظر الوثيقة رقم 8 بملحق الوثائق)
ومنذ أن افتتحت مصر مفوضيتها السياسية بكابل، وممثلها كان يحظى، طبقا لوصفه، بكل «الاحترام والاعتبار ما يحسده عليه غيره من ممثلي الدول الأخرى» نظرا لما كانت تتمتع به مصر من مكانة دينية ومركز أدبي في العالم الإسلامي( ) الأمر الذي ساعد على أن تتابع مفوضيتها عملها بسهولة وتتابع عن كثب التطورات الداخلية الأفغانية، اقتفاء للسبل الملائمة لتنمية العلاقات بين البلدين. ولعلنا إذا اطلعنا على جميع التقارير الواردة من المفوضية المصرية بكابل، في ذلك الوقت، لأدركنا من فورنا مدى حرص وزراء مصر المفوضين على محاولة وضع تصور للسياسة التي يمكن أن تنتهجها القاهرة حيال أفغانستان. إذ نجحوا في تكوين قاعدة بيانات ومعلومات مهمة عن رجالات الدولة المؤثرين واتجاهاتهم السياسية وتكوينهم الفكري وما يُنتظر لهم من «مستقبل في تصريف سياسة الأفغان الداخلية والخارجية» ووجهات نظرهم «تجاه الشرق والوحدة الإسلامية» التي كانت تدعو إليها مصر، والتعرف أيضا على «كل شخصية وطريقة تفكير من لهم شأن في تصريف هذه السياسة، أو فيمن عساه أن يمثل الحكومة الأفغانية في مصر» وذلك انطلاقا من أن «يكون لدى ممثلي مصر، على التعاقب، صورة حقيقية عن هذه الشخصيات، فإذا ما تحدث معها يعرف الطريقة التي يكون فيها حديثه شيقا منسجما متفقا مع أفكار وميول المستمع إليه وبذلك يخلق جوا يساعده على تسهيل مهمته»( ) كما نجح وزراء مصر المفوضين في متابعة «نشاط الحكومات الأجنبية بواسطة ممثليها بكابل» ربما للاقتداء بها في تعزيز العلاقات مع أفغانستان.
على سبيل المثال، بعث وزير مصر المفوض تقريرا مطولا، في مايو من عام 1943م، حول أنشطة بعض الحكومات في كابل خاصة روسيا وبريطانيا، بما لهما من جوار جغرافي وما يعن لهما من مصالح سياسية واقتصادية وتجارية، التي حتمت عليهما «الوقوف على سياسة أفغانستان الداخلية والخارجي واتجاهات رجال القبائل المتاخمة على حدود كل منهما فضلا عن العلاقات الثقافية والتجارية معها» بوصفها كانت تمثل سوقا تجارية رائجة لصادراتهما. كما ألقى التقرير المذكور الضوء أيضا على حجم نشاط الدول الأخرى فيها، فذكر أن الأطباء والمدرسين والمهندسين والصناع كانوا من الهنود، بينما كانت فرنسا تسيطر على تشييد المدارس والتدريس. أما تركيا فذكر أنها تسيطر على التعليم العسكري بالجيش الأفغاني فضلا عن أن كبار الأطباء في كابل والمستشفيات الحكومية كانوا من الأتراك. هذا في حين أن اليابان أغرقت السوق المحلية بالبضائع.
ومن ثم أبدى وزير مصر المفوض اندهاشه من «انعدام وجود مثل هذه السياسة لمصر» في أفغانستان؛ داعيا وزارة الخارجية والجهات المختصة بدراسة مقترحاته بشأن سبل تعزيز مكانة مصر في أفغانستان «كل فيما يخصه ليكون هناك مبرر لوجود هذه المفوضية … وما يُصرف عليها من نفقات» وقد تمثلت مقترحاته في تعزيز النشاط الثقافي والعلمي المصري من خلال إرسال البعثات العلمية والدينية التي كانت تحتاجها أفغانستان في ذلك الوقت لرفع مستوى خريجي مدرسة «دار العلوم العربية» التي وصف مستوى التعليم فيها بأنه ليس منحطا وحسب بل و«يخالف في كثير من نواحيه مبادئ وأصول الإسلام الحقة» مؤكداً على أن خطورة هذه المدرسة لا تتمثل فقط في تدني المستوى التعليمي لطلابها بقدر أن خريجيها «يعينون في وظائف القضاء الشرعي والإفتاء» داعياً الأزهر الشريف؛ لما له من «الولاية الدينية على التعليم الإسلامي في البلاد الإسلامية»كي «يسعى إلى إصلاح ما يشذ عن التعاليم الإسلامية الحقة بكل الطرق الممكنة»
وعلى الرغم من أن وزير مصر المفوض ذكر «أن الحكومة المصرية قد وافقت على تعليم عدد من الطلاب الأفغان بالأزهر ومعاهد الحكومة وإرسال هيئة من العلماء إلى بلاد الأفغان مكونة من خمسة من العلماء» على نفقتها «دون أن تتحمل الحكومة الأفغانية شيئا» إلا أنه طالب بإيفاد أستاذين مصريين لتعليم أصول الفقه ونُظم القضاء الشرعي على المذهب الحنبلي، إلى جانب ثلاثة آخرين لتدريس التفسير والحديث وأصول الفقه ومدرسين لتعليم اللغة العربية. فضلا عن إهداء مكتبة علمية من الأزهر الشريف للشعب الأفغاني. وإيفاد مقرئي القرآن الكريم، بغرض الإشراف على تعليم الشباب الأفغاني «التلاوة المثلى للقرآن الكريم … وإنقاذ الشباب الأفغاني من دائرة واسعة من التعليم الديني السطحي البعيد عن الأصول الإسلامية الحقيقية» وبهذا يكون الأزهر قد أسدى «لبلد إسلامي أجل الخدمات وأنقذه من براثن جهل جماعة الملا الجهلاء» إضافة إلى ذلك طالب ممثل مصر لدى كابل تقديم الدعم الفني الذي يلبي احتياجات أفغانستان في بعض المجالات، فذكر أن «الحكومة الأفغانية في أشد الحاجة للخبراء الزراعيين والفنيين» في مجال مكافحة الحشرات والجراد وأمراض النبات، خاصة بعد طرد الفنيين من رعايا دول المحور خاصة الألمان منهم.( )
وعلى الرغم من هذا، فضلت الخارجية المصرية عدم الاستجابة لهذه الطلبات البسيطة الواردة بالتقرير المذكور إلا «إذا جاء الطلب صريحا من الحكومة الأفغانية» وذلك حرصا من مصر على عدم إثارة أي حساسية داخل أفغانستان خاصة في وظل ما يتمتع به هؤلاء (الملا) بنفوذ سياسي وديني( ).
ثالثا: مواقف أفغانستان الإيجابية تجاه مصر:
تمثلت هذه المواقف في ترحيب كابل بقيام الجامعة العربية، وتأييد قرار مصر بإلغاء معاهدة 1936م، ثم الزيارة الودية التي قام بها الملك محمد ظاهر شاه للقاهرة عام 1950م، والتي نتناولها على النحو التالي بشيء من التفصيل
الترحيب بتأسيس الجامعة العربية: باركت أفغانستان لمصر تأسيس الجامعة العربية، في 22 مارس 1945م، فذكر وزير مصر المفوض بكابل في كتابة إلى الخارجية، في مايو 1945م، أن صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء الأفغاني، قال له في معرض ترحيب بلاده بتأسيس الجامعة العربية «إن مصر لها الصدارة بحق من الناحية الدينية والثقافية؛ كذلك تجدنا نتتبع باهتمام كل تطور عندكم. كما أن ما قام به ملككم في السنين القليلة من أعمال وما رسمه لحكومته الرشيدة من توجيه … كل هذا يثير إعجابنا بالنهضة العربية التي نتمنى لها المزيد» و«إننا نرى في جامعة الأمم العربية بشير الخير، كما نرى في إخراجها إلى حيز التنفيذ بفضل ملككم وفكر جلالته وقوته الدافعة ما يُبشر بالنفع العميم…»( )
تأييد قرار مصر بإلغاء معاهدة 36: أيدت أفغانستان الموقف المصري القاضي بإلغاء معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا المعروفة تاريخيا بمعاهدة 36. وقد أظهرت الوثائق المصرية ذلك جلياً، فقد بعث السفير المصري لدى كابل «أحمد فتحي» كتابا إلى القاهرة يحمل رقم 2 (9/3) سري بتاريخ 2 نوفمبر عام 1951، يطلب فيه إفادته عما يجب ذكره لصاحب السمو الملكي الأمير «محمد هاشم خان» العم الأكبر لحضرة صاحب الجلالة ملك أفغانستان، الذي شرفه بالزيارة في دار السفارة، قبيل إلغاء معاهدة 36، وأنه «أبدى عواطفه الطيبة نحو أمانينا الوطنية، وقال إنه سبق أن ذكر لبعض المسئولين من الإنجليز أن صالحهم يقتضي عليهم أن يحافظوا على الصداقة الحقيقية للشعب المصري؛ فهي أجدى وأنفع لهم مما يحتفظون به من ميزات استعمارية تتعارض مع الأماني القومية»( ) وقد أفادت الخارجية المصرية سفارتها في كابل، بأن «الوزارة تُقدر ما أبداه صاحب السمو الملكي الأمير هاشم خان من جميل الشعور نحو مصر» ثم زودتها بنسخة «من بيان حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس الوزراء الذي ألقاه يوم 19 أكتوبر … وبيان حضرة صاحب المعالي وزير الخارجية؛ ليرى سموه فيها مطالب مصر الواضحة والجلية التي لا تحيد عنها وهي الجلاء الناجز التام ووحدة شطري الوادي تحت تاج مولانا المليك»( ) ومن ثم فقد أحاطت الخارجية الأفغانية السفارة المصرية بقرار الحكومة الأفغانية، الذي أذاعته عبر الإذاعة ونشرته الصحف الوطنية، المعبر عن موقفها المساند للمطالب المصرية المشروعة في إلغاء المعاهدة المفروضة عليها وتضامنها الكامل مع مصر في وحدة وسلامة أراضيها وحريتها. وأعربت عن أملها في أن قبول الدول الكبرى لهذه المطالب المنطقية سوف يحول دون وقوع أحداث ضارة بأمن الشرق.( )
زيارة الملك ظاهر شاه لمصر: وهي الزيارة الودية التي قام بها وهو في طريق عودته لبلاده قادما من رحلة علاج بأوربا، يوم 7 مارس 1950م، واستمرت أسبوعا، حظي خلالها باستقبال حافل، ونزل ضيفا على الملك فاروق بقصر الزعفران بالعباسية ( ) وحفل برنامج هذه الزيارة بالموائد والمقابلات والزيارات، فزاره بمقر إقامته كل من الأمير «محمد علي» ولي العهد، ورئيس الديوان الملكي، وشيخ الأزهر، ومفتي الديار، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية مع هيئة كبار العلماء، وقد أعرب لهم الملك ظاهر عن إعجابه بالأزهر، وعما له من مكانة سامية في العالم الإسلامي، قائلا: إنني أرجو أن تزداد البعوث الإسلامية الأزهرية إلى أفغانستان.( ) خاصة أنه كان بالأزهر رواق خاص بالطلبة الأفغان، يسمى رواق الأفغان، أو رواق السليمانية، الذي سبق وأنشأه الأمير «عثمان كتخدا» وتم ضمه، فيما بعد، لساحة الجامع. وكان يقع بين باب الشوام ورواق جاوة، وكان به خمسة مساكن وخزانة كتب كبيرة، وكان من بين طلابه محمد صادق المجددي وزير أفغانستان المفوض في مصر، أثناء الزيارة( ).
وكان في مقدمة حفلات الترحيب التي أقيمت لظاهر شاه، مأدبة الغداء التي دعاه إليها الملك فاروق، وكان جلالتاهما يرتديان البزات العسكرية، وتقلد الفاروق رصيعة الوسام الأفغاني المهدي إليه من ضيف البلاد، كما تقلد ملك أفغانستان «قلادة محمد علي» المهداة إليه من ملك مصر، أعقبها حفل آخر أقامه «محمد صلاح الدين بك» وزير الخارجية، والذي صرح خلاله الملك الأفغاني لحسين سرى باشا بقوله: «ان الحفاوة التي قابلني بها الشعب المصري، وعلى رأسه جلالة أخي الفاروق سيظل لها أعمق الأثر في نفسي ونفوس شعبي».( )
عوامل التقارب المصري ـ الأفغاني
لعبت المتغيرات الدولية دورا مهما في تكريس عوامل التقارب بين مصر وأفغانستان وتوثيق وشائج الأخوة بينهما، بقدر ما لعب موقع أفغانستان الاستراتيجي دورا في تقوية ارتباطها بمنطقة الشرق الأوسط، بعد أن أصبحت تُمثل، بالنسبة لمصر، مدخلا لآسيا الوسطى بديلا عن إيران وتركيا، اللتان حددتا مصالحهما في الاعتراف بإسرائيل، في وقت كانت مصر تحاول فرض طوق من العزلة عليها، وانضمامهما لحف بغداد، الذي عارضته القاهرة بشدة. وبالتالي كانت أفغانستان تمثل بالنسبة لمصرمحور ارتكاز لمنع إسرائيل من الالتفاف حول هذا الطوق والتسلل إلى آسيا. خاصة بعد أن رفضت كابل رفضا مُبرما الاعتراف بإسرائيل( ) وفضلا عن هذا، فقد وقفت عدة أسباب رئيسة وراء التقارب بين القاهرة وكابل، أهمها: تأييد أفغانستان التوجهات السياسة المصرية، ومساندتها للقضايا العربية، وإيمان البلدين بمجموعة من المبادئ السياسية المشتركة، التي جسدت في مجملها دوافع كلا البلدين نحو توثيق علاقات التعاون وتنسيق المواقف فيما بينهما، وزيادة النشاط الدبلوماسي المتبادل بينهما. وهذا ما نتناوله على النحو التالي:
أولا: تأييد التوجهات السياسة المصرية:
أيدت أفغانستان بشكل دائم جميع التوجهات السياسية المصرية، فقد اعترفت بثورة يوليو 1952م، وبنظامها الجمهوري، ورحبت بقيام الوحدة بين مصر وسوريا، وساندت حق مصر المشروع في تأميم قناتها، ثم آزرتها أثناء العدوان الثلاثي. وذلك على النحو المبين على النحو التالي:
1ـ الاعتراف بثورة يوليو، وبقيام النظام الجمهوري: كانت أفغانستان من أوائل الدول التي رحبت بقيام ثورة يوليو 1952م، ومن أوائل الدول التي رحبت أيضا بإعلان الجمهورية، إذ أرسل الملك محمد ظاهر شاه برقية تهنئة إلى الرئيس «محمد نجيب» بمناسبة إعلان الجمهورية وتوليه رئاستها يوم 18يونيو 1953م( ) (للاطلاع على نص البرقية المذكورة وجوابها انظر الوثيقة رقم 9 بملحق الوثائق)
3ـ تأييد قرار مصر بتأميم القناة: كانت أفغانستان في مقدمة الدول التي أيدت حق مصر المشروع في تأميم قناة السويس؛ الذي أعلنه الرئيس عبد الناصر، يوم 26 يوليو 1956م، فقد ذكر القائم بالأعمال المصري بالنيابة بسفارة مصر لدى كابل «عبد الوهاب خالد داود» في تقريره إلى الخارجية: «أجمعت كافة الدوائر الرسمية والأوساط الشعبية في أفغانستان على تأييد مصر في تأميمها لشركة القناة، واستنكار ما لجأت إليه إنجلترا وفرنسا من أساليب الضغط والتهديد، فجاء في خطاب الملك محمد ظاهر شاه الذي ألقاه يوم 24 أغسطس بمناسبة عيد الاستقلال الأفغاني أن أفغانستان عبّرت عن تأييدها التام لإرادة الشعب المصري الحرة بتأميم شركة القناة، وعن أملها في أن تحترم الدول الكبرى حقوق الشعوب والمبادئ الدولية وميثاق الأمم المتحدة واعتبارات السلام الدولي، وأن تنتهج مسلكا في احترام حقوق الشعب المصري»( ). كما ذكر القائم بالأعمال أن رئيس الوزراء سردار «محمد داود خان»( ) قال في كلمته في ذات المناسبة، عبر إذاعة كابل: «إن قرار التأميم الذي أصدرته حكومة الشعب المصري الشقيق قد قوبل برد فعل غير مناسب وغير متوقع، وأن أفغانستان تشارك مصر في شعورها وتؤيد حقها في اتخاذ هذا القرار المحقق لآمال شعب مصر. وتأمل أن تحترم الدول الغربية حقوق الشعب المصري التي لا جدال فيها، وألا تسمح بأن يؤدي هذا الإجراء إلى نتائج سيئة بإقدامها على استخدام القوة بدون وجه حق وبغير سند شرعي» واستطرد القائم بالأعمال بقوله إن رئيس الوزراء الأفغاني «طلب إلى السردار نعيم وزير الخارجية عقب قرار التأميم أن أطلعه أولا بأول على كل ما يجدّ من تطورات في هذا الشأن، مُبديا أنه لما كانت الحكومة الأفغانية تؤيد قرار مصر بتأميم شركة القناة وتنتهج الخطة المصرية الموافِقة لوجهة النظر المصرية في هذا الخصوص؛ فيهمه لذلك أن يطلع على موقف مصر حيال مؤتمر لندن وما قد يحدّ من اجتماعات دولية لبحث موضوع القناة حتى يتخذ الخطوات التي تؤدي إلى نُصرة مصر في هذه القضية»ثم أردف قائلا: «وقد آليت إطلاع سيادته على تطورات الموقف وأوضحت له وجهة النظر المصرية»( )
وكان وزير الخارجية سردار محمد نعيم قد أصدر بدوره بيانا يوم 2 أغسطس 1956م، أعرب فيه «عن تأييد الحكومة الأفغانية لتأميم شركة القناة؛ باعتباره عملا داخل في نطاق ممارسة مصر لحقوق سيادتها، وعن الأمل في أن تراعي الدول الكبرى تقديم اعتبارات المحافظة على السلام على كل ما عاداه من المصالح وأن تُدرك أنه قد حان الوقت لأن تعنى بتفهم مطالب الدول الصغيرة، وأن تمتنع عن استعمال أساليب القوة والضغط»( ) وقد أكد الوزير الأفغاني موقف بلاده الداعم للموقف المصري، أثناء لقاء رسمي مع القائم بالأعمال المصري، أكد خلاله على «تأييد أفغانستان حكومة وشعبا لموقف مصر الحازم في هذه المسألة» وقال أيضا «إنه لا يشك في أن بريطانيا وفرنسا ترميان بسياستهما إلى إعادة فرض نفوذهما الاستعماري على الدول العربية. وأنه لو قدر لهما النجاح في ذلك ـ لا سمح الله ـ لأصيب استقلال وحرية جميع دول الشرق الأوسط بضربة قاصمة ولوقعت هذه الدول تحت رحمتها»( ).
وفي ظل هذا الاهتمام الأفغاني بمساندة الموقف المصري من التأميم؛ قال القائم بالأعمال المصري إنه التقى الملك محمد ظاهر شاه، وأن جلالته أفضى إليه «بأن أفغانستان عانت كثيرا في تاريخها الحديث من المستعمرين ومؤامراتهم؛ وهي لهذا تقدر موقف مصر ومؤازرتها مؤازرة تامة وتترقب كل فرصة ممكنة للقيام بدور إيجابي فعال لنصرتها في مسالة التأميم».( )
ومن ثم، عارضت أفغانستان جميع المحاولات التي كانت ترمي إلى السيطرة على قناة السويس بتدويلها أو الإشراف عليها؛ واستنكرت دعوة بريطانيا وفرنسا وأمريكا إلى عقد مؤتمر لندن المعروف، بغرض محاولة العودة إلى قناة السويس تحت ستار التدويل أو تحت الإشراف عليها. فقد أكدت مرة أخرى على حق مصر الكامل في إدارة قناة السويس والإشراف عليها وحدها، وأن حق الدول الأخرى فهو ينحصر فقط في المرور عبر هذا الممر المائي المفتوح أمام التجارة العالمية. حيث أدلى نائب رئيس الوزراء علي محمد خان بتصريح قال فيه: «إن تأليف جمعية المنتفعين بقناة السويس هو تدخل سافر في شئون مصر، وعدوان على حقوقها وسيادتها» و«إن هذا العمل معناه تحدي مصر والتحرش بها للانتقاص من حقوقها الوطنية» وأعرب نائب رئيس الوزراء عن أمله في حل هذه القضية بطرق سلمية تكفل حق مصر في تفادي الوسائل التي تؤدي إلى نتائج خطيرة ووخيمة.( )
3ـ مناصرة مصر أثناء العدوان الثلاثي: كان للعدوان الثلاثي على مصر 29أكتوبر 1956م، صدى كبيرا في أوساط الشعب الأفغاني؛ فأعلنت أفغانستان حكومة وشعبا استنكارها الشديد لهذا العدوان الغادر على الشعب المصري، الذي لم يسبق له مثيل في أي بلد إسلامي آخر.( )
وقد أدارت الحكومة الأفغانية أزمة العدوان الثلاثي داخليا وخارجيا بكفاءة اتسقت مع موقفها الثابت من تأييد حق مصر في تأميم قناتها. فعلى المستوى الداخلي، استنفرت الشعب الأفغاني بأكمله لمساندة مصر، معلنة إدانتها الكاملة للعدوان ومساندة مصر التامة. وقد وافى السفير «حسين ثابت كرارة» سفير مصر لدى كابل وزارة الخارجية بتفاصيل وحقائق «صدى الاعتداء على مصر في أفغانستان» إذ ذكر أنه صدر بيان أفغاني بتاريخ 5 نوفمبر الجاري، جاء فيه: إن جلالة الملك محمد ظاهر شاه ألقى كلمة في جلسة المجلس الوطني عن العدوان الثلاثي، قال فيه: «إن اعتداء إسرائيل على أرض مصر وإلقاء القنابل بلا مبرر من قبل بريطانيا وفرنسا على بلد إسلامي وعلى إخواننا في الدين كان له وقع شديد الأثر في نفسه»( ) وأوضح أيضا أن حكومة بلاده كانت قد أعلنت عن احتجاجها الشديد وسخطها على هذا الاعتداء، حيث أصدرت يوم الأول من نوفمبر، أي بعد 48 ساعة من بدء العدوان «بيانا استنكرت فيه هذا الاعتداء الآثم» وأعلنت «تأييدها التام لمصر وأهابت بالأمم المتحدة أن تتخذ الإجراءات الكفيلة بوضع حد لهذا العدوان الاستعماري المخالف لمبادئ الميثاق والحرية والعدالة»( )كما أدان رئيس الوزراء سردار محمد داود خان، لدى عودته مساء يوم الثاني من نوفمبر 56، العدوان على الشعب المصري الذي تربطه بالشعب الأفغاني روابط الدين والصداقة والود.( ) «كما أذاع على الأمة الأفغانية، في 13 نوفمبر، بيانا عبر الإذاعة، جاء فيه: «إن الاعتداء الآثم على مصر المسلمة الشقيقة أحدث أسى عميقا في أفغانستان، وكان له صدى في جميع البلاد الأفغانية؛ وقد شاركت الحكومة الشعب في الإعراب عن شعورها وتأييدها لبطولة الشعب المصري والحكومة المصرية، كما أعلنت ذلك شعوب العالم» ثم استطرد قائلا: «ولما كانت سياسة أفغانستان تسير على قواعد الإنسانية ومبادئ الأمم المتحدة ومقررات باندونج ومقاومة العدوان والاستعمار، فإن الحكومة الأفغانية وعدت بتقديم كل المساعدات لهذه الأمة الشجاعة» ثم «دعا في ختام بيانه جميع طبقات الشعب الأفغاني إلى المساهمة في التبرع للهلال الأحمر لمساعدة ضحايا العدوان على مصر».( ) وختم كلمته بأنه تلقى طلبات لا حصر لها من جميع أنحاء البلاد يعلن فيها مرسلوها أفرادا وجماعات تطوعهم لمساعدة مصر في تحقيق نصرها، وإنه لمن الضروري أن يتم أداء هذا الواجب على أساس منظم لضمان الوصول إلى الغاية المرجوة … وختاما أسأل الله تعالى أن يؤيد مصر العزيزة بنصره، وأن يوفق إخواننا المصريين الأبطال في تحقيق مطالبهم( ).
ومن ناحية أخرى، كانت وزارة الخارجية المصرية قد بعثت برقية إلى سفارتها في أفغانستان بتاريخ 6 نوفمبر؛ تطلب فيها من السفير «بتوجيه نداء مصر إلى الحكومة الأفغانية بطلب العون من متطوعين وسلاح للدفاع عن كيانها ضد العدوان الآثم» وقد قام السفير بتسليم صورة من هذا النداء في اليوم التالي إلى رئيس الوزراء. حيث ذكر إنه وجد استجابة فورية للنداء المصري؛ حيث استدعاه «عبد الرحمن باجواك» مدير الإدارة السياسية بوزارة الخارجية الأفغانية، عصر نفس اليوم وسلمه ردا من رئيس الوزراء، وأبلغه أيضا أنه أذاع بيانه المذكور سلفا لاستنكار العدوان ودعوة الشعب الأفغاني للتبرع للهلال الأحمر. نصه:
رئيس وزراء أفغانستان 7 نوفمبر 1956
عزيزي السيد السفير
بادرت الحكومة الأفغانية بمجرد علمها بالعدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي الظالم على مصر الصديقة الحليفة بالإعراب عن ألمها العميق ومعاضدتها التامة لمصر. وعندما تلقت الحكومة الأفغانية نداء الحكومة المصرية بطلب العون أحست من جانبها بشعور قلبي من المشاركة التامة لمصر لما بين الأمتين الشقيقتين من روابط وثيقة ومستحكمة. وإني إذ أُعرب عن آمال الشعب الأفغاني بتوفيق إخوانه المصريين في كفاحهم. وأن الحكومة الأفغانية لترى في القيام بمعاونة مصر واجبا يحتمه الدين والأخلاق والصداقة. وسنقوم بإبلاغ سيادتكم بالوسائل والطرق العملية لمساعدة مصر بما ستتخذه من إجراءات في هذا السيل بأقرب فرصة ممكنة.
محمد داود ( )
وإضافة إلى ذلك، «استدعى رئيس الوزراء الأفغاني السفير المصري، في اليوم التالي، لمقابلته وكرر إبداء عطفه على مصر واستنكاره للعدوان، وأبلغه أنه عقد مجلس الوزراء في جلسة غير عادية لتأكيد البيان الذي أصدرته الحكومة الأفغانية يوم أول نوفمبر، وقال إن أفغانستان حكومة وشعبا تضع نفسها تحت تصرف مصر. ثم قال إنه شخصيا إنه إذا صمدت مصر وقاومت الاعتداء لمدة شهر أو شهرين فإن النتيجة ستكون لصالح مصر»( )
وقد ذكر السفير «حسين كرارة» في كتابه إلى الخارجية يوم 20 نوفمبر «أنه على إثر النداء القوي الذي أذاعه رئيس وزراء أفغانستان في الراديو يوم 13 نوفمبر … بدأت حملة دعاية قوية لجمع التبرعات لمصر بواسطة الهلال الأحمر الأفغاني. وقد عقد الكثير من الاجتماعات في جميع مدن أفغانستان وأطلق على يوم الجمعة 16 نوفمبر … يوم مصر. وقد انهالت التبرعات على الهلال الأحمر. وتنشر الصحف، كما يذيع راديو كابل يوميا أسماء المتبرعين لمصر» ثم أضاف أن الشعب الأفغاني «يبدي حماسا كبيرا وتأييدا عظيما لنصرة مصر» وأن مجموع التبرعات قد بلغت «أربعة ملايين أفغاني سلمها رئيس جمعية الهلال الأحمر» إليه، «بشيك قيمته مائتي ألف دولار على أحد البنوك الأمريكية»( ).
ومن ناحية أخرى، نذرت الصحافة الأفغانية والإذاعة الوطنية جهدها لنصرة المصريين ضد العدوان، فكانت تنشر تباعا التصريحات الرسمية المصرية وتذيع البيانات الحربية الصادرة عن القاهرة، والتي كانت تُكذب مزاعم المعتدين في شل مقاومة المصريين وفي احتلالهم مصر نهائيا وبالقضاء على الحكومة الوطنية.( ) كما «والت الصحف الأفغانية نشر أنباء العدوان بالتفصيل وأنباء المظاهرات والاجتماعات التي حدثت في كافة نواحي أفغانستان تأييدا لمصر واستنكارا للعدوان الاستعماري الصهيوني عليها وإبداء للرغبة في التطوع للدفاع عنها»( ) حيث «قامت المظاهرات ضد الدول المعتدية، وعقدت الاجتماعات في المساجد والمدارس وغيرها لتأييد مصر واستنكار العدوان الغادر، وحاول المتظاهرون اقتحام مبنى السفارتين الفرنسية والبريطانية، ولكن الشرطة تدخلت لمنعهم. كما زار دار السفارة المصرية كثير من الأفغان إظهارا لعواطفهم وتأييدهم لمصر مُبدين استعدادهم للتطوع للدفاع عنها. كما وصل السفارة عدد من البرقيات والخطابات يبين أصحابها فيها تأييدهم واستعدادهم للتطوع للدفاع عنها»( ) وذلك بعد أن أعلن العلماء الأفغان الجهاد مع مصر ضد الغزاة المعتدين، فتكونت «لجنة الدفاع عن مصر» التي قامت بطبع وتوزيع آلاف المنشورات باللغتين البشتونية والفارسية في جميع أنحاء البلاد ورفعتها على جدران الشوارع والمساجد والمدارس والمنتديات. منادية بإعلان الجهاد الذي هو فريضة على كل مسلم قادر، والحث على نصرة مصر الشقيقة العزيزة. ومن ثم أقبل الأهالي على التطوع أفواجا وأفرادا، وفيما يلي نص أحد هذه المنشورات:
جهاد
بسم الله الرحمن الرحيم
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون صدق الله العظيم
لقد كان الاعتداء الغاشم الغادر الذي قامت به العصابات التي سُميت إسرائيل والقوات المسلحة البريطانية والفرنسية على إخواننا المصريين المسلمين. أثرا بالغا في نفوس الشعب الأفغاني المسلم المحب للحق والحربة بوجه خاص.
إن الشعب الأفغاني الشهم لعلى أتم استعداد اليوم ليقوم بدوره للدفاع عن حقوق إخوانه المصريين، ضد الغاصبين المعتدين بالنفس والنفيس
يحيا الشعب المصري المسلم الشقيق ـ الموت والخزي لليهود المعتدين.( )
وفي هذا السياق، أشار السفير المصري إلى أن مدير الإدارة السياسية بالخارجية الأفغانية اجتمع به، «وأبلغه أن أفغانستان تود إرسال متطوعين مسلحين إلى مصر ولكن مركزها الجغرافي يحتم مرور هؤلاء المتطوعين عبر أراضي جيرانها. وقال إن الحكومة الأفغانية تتصل بكل من إيران والعراق وباكستان والهند للحصول على تصريح بمرور هؤلاء المتطوعين» ثم عقب السفير بقوله «وقد أدت التطورات التي حدثت بعد ذلك إلى عدم إرسال متطوعين من الدول الصديقة إلى مصر» ويقصد بها انتهاء العدوان.( )
أما على المستوى الخارجي، فقد أدارت أفغانستان أزمة العدوان بكفاءة لا تقل عن إدارتها على المستوى الداخلي، إذ لعبت دورا بارزا في مساندة مصر في جميع المحافل الدولية، فقد بعث وزير الخارجية الأفغانية إلى السكرتير العام للأمم المتحدة «داج همرشولد» برقية أبدى فيها قلق أفغانستان البالغ للاعتداء على مصر، وطلب منه شخصيا ومن الأمم المتحدة أن يوقف العدوان الآثم المخالف للميثاق وبالآداب العامة وقواعد القانون الدولي.( ) كما بعث السردار محمد داود خان رئيس الوزراء برقية مطولة إلى همرشولد، طلب منه إبلاغها إلى جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة( ) عبر فيها عن مدى حرص الشعب الأفغاني على إظهار أخلص عواطفه الأخوية نحو الشعب المصري، وتضامنه معه في كفاحه دفاعا عن حقوقه وعن حريته وسيادته. كما أعرب عن استنكاره لأعمال العدوان الوحشية الباغية بوصفها أعمال غير إنسانية ومجافية لجميع القوانين الدولية والضمير الإنساني. (للاطلاع على نص البرقية انظر الوثيقة رقم 10 بملحق الوثائق)
وقرر همرشولد دعوة مجلس الأمن للانعقاد لاتخاذ موقف فعال في وقف العدوان، وألقى كلمة قال فيها: «إن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة أهم بكثير من الأهداف السياسية لأي دولة، وأن هذه المبادئ هي مرجعه الأول والأخير فيما يحق له أن يفعله، وليس في إمكان الأمين العام القيام بعمله إلا إذا حافظت كل دوله من الدول الأعضاء على شرف تعهدها باحترام ميثاق الأمم المتحدة…. إن معنى ما قلته واضح للجميع … أما إذا كان للدول الأعضاء وجهة نظر أخرى في واجبات الأمين العام فمن حق هذه الدول، كما أن من حق الأمين العام، أن يتصرف تصرفاً آخر. بما كان يعني إصراره الشديد على أن تُعلن الدول الأعضاء موقفها خلال تلك الجلسة.( )
وفي ظل هذه الأجواء، «أرسلت وزارة الخارجية الأفغانية تعليماتها إلى وفد أفغانستان الدائم بالأمم المتحدة لتأييد مصر بقوة»( ) ومن ثم ارتفع صوت مندوب أفغانستان في الأمم المتحدة مطالبا برد المعتدين ونصر المصريين بالفعل والعمل لا بالقول والخطب. فطالب بوقف القتال وسحب القوات المعتدية فورا من الأراضي المصرية. كما طالب بالتعويض عن الخسائر التي لحقت مصر جراء هذا الاعتداء.( )
وفور انتهاء العدوان، بادرت أفغانستان بتهنئة مصر، فقد بعث الملك محمد ظاهر شاه برقية تهنئة إلى الرئيس عبد الناصر؛ فور جلاء القوات المعتدية يوم 23 ديسمبر 1956م، كما بعث رئيس الوزراء محمد داود خان برقية مماثلة( ). (لاطلاع على نص البرقيتين يمكن الرجوع إلى الوثيقة رقم 11 بملحق الوثائق)
كما «أذاع راديو كابل في يوم 25 ديسمبر برنامجا خاصا بمناسبة جلاء القوات المعتدية من بورسعيد( ) تضمن إذاعة نص برقيتي التهنئة التي أرسلهما كل من جلالة الملك والصدر الأعظم إلى السيد الرئيس، وكلمة أذاعها كل من سفير مصر ورئيس جمعية الهلال الأحمر، وعرض لبعض المقالات التي كتبتها الصحف بهذه المناسبة»( ) ثم «قامت هذه الصحف «بحملة لإجراء تحقيق دولي عن العدوان الغادر على مصر وتعويض الأضرار التي أصابتها من جرائه، ودبجت المقالات بهذا المعنى».( )
وفي هذا السياق، ذكر السفير حسين كرارة أنه التقى السردار محمد نعيم وزير الخارجية يوم 14 يناير 1957م، وقدم إليه مفكرة بشأن تأييد طلب مصر في التعويضات عن الخسائر والأرواح والأموال التي نتجت عن الاعتداء الإسرائيلي البريطاني الفرنسي، وأن وزير الخارجية قال له: «إن أفغانستان أيدت وستؤيد مصر دائما في كل ما يتعلق بهذا الاعتداء ونتائجه. وأن وفدها الدائم في الأمم المتحدة على اتصال بوفد مصر وبوفود الكتلة الآسيوية الأفريقية لاتخاذ أي إجراء في هذا الشأن في الجمعية العامة للأمم المتحدة» واستطرد السفير المصري، قائلا: إن «نائب وزير الخارجية أبلغه أن الوزير أرسل برقيا تعليمات إلى وفد أفغانستان الدائم تنص على تأييد مصر بقوة في هذا الشأن» «وفيما يتعلق بإلغاء معاهدة الصداقة بين مصر وبريطانيا الموقعة في أكتوبر 1954 … فقد أبلغني الوزير أن موقف مصر منطقي وقانوني وأنها تصرفت في حدود حقوقها طبقا للقانون الدولي …» خاصة أن هذه المعاهدة «تعتبر مُلغاة من تلقاء نفسها إذا اعتدى أحد أطرافها على الطرف الآخر؛ لأنه قد أهدر باعتدائه أول وأهم عنصر مكون للصداقة» ثم قام نائب وزير الخارجية باستدعاء مراسل وكالة «باختر» الأفغانية مساء 15 يناير وأدلى إليه بحديث … جاء فيه «إن أفغانستان تؤيد طلب مصر في التعويضات الكاملة المترتبة على الاعتداء الإنجليزي الفرنسي على سيناء وبور سعيد».( )ومن ناحية أخرى، كانت الحكومة الأفغانية قد أعدت قوة لإرسالها للانضمام إلى قوة البوليس الدولي، بعد موافقة مصر على طلبها، واتصلت بحكومة الولايات المتحدة لعمل الترتيبات اللازمة لنقل هذه القوة بطريق الجو.( ) ولكن السفير المصري علم، فيما بعد «أن السبب في عدم إرسال مفرزة الجيش الأفغاني إلى مصر يرجع إلى أن السكرتير العام للأمم المتحدة أبلغ الحكومة الأفغانية أنه إذا احتاج إلى زيادة عدد أفراد قوة الطوارئ الدولية فإنه سيتخذ الإجراء اللازم لنقل القوات الأفغانية إلى مصر»( )
4ـ الترحيب بقيام الجمهورية العربية المتحدة: كانت أفغانستان في طليعة الدول التي رحبت بقيام الوحدة بين مصر وسوريا، فقد بادر الملك محمد ظاهر شاه، بتهنئة الرئيس جمال عبد الناصر بقيام الجمهورية المتحدة، التي أعلن عن قيامها يوم 23 فبراير 1958م، برسالة جاء فيها: «لقد كانت فرحتنا عظيمة لنبأ إنشاء الجمهورية العربية المتحدة، طبقا للأماني المشتركة للشعبين العظيمين. فأفغانستان ـ بصفتها بلداً إسلاميا ترحب بكل ما يساعد على اتحاد وتقوية الشعوب العربية. وهي تأمل أن تصل هذه الشعوب إلى جعل أهدافها العظيمة المشتركة حقيقة ملموسة بفضل التعاون وحسن التفاهم. وبمناسبة هذا النجاح الباهر أقدم لفخامتكم والشعبين النبيلين المصري والسوري، بالنيابة عن الأمة الأفغانية، أطيب التهاني. وأرجو من الله العلي القدير أن يبارك هذا القرار التاريخي، الذي اتخذه الشعبان الشقيقان، وأن يمنح الجمهورية العربية المتحدة الرفاهية والتقدم» كما تناولت الصحف والإذاعة الأفغانية هذا النبأ أيضا بالترحيب والتهنئة الصادقة.( )
ثانيا: مساندة القضايا العربية:
كانت مساندة أفغانستان للقضايا العربية من بين العوامل التي عززت التقارب بينها وبين مصر؛ فلطالما وقفت أفغانستان إلى جانب حقوق الأمة العربية وعدالة قضاياها في المحافل الدولية؛ فقد ناصرت القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة، وطالبت بالحرية لشعب الجزائر من الاحتلال الفرنسي، ولعل هذا ما سنلقي الضوء عليه بإيجاز على النحو التالي: ( )
1ـ مناصرة القضية الفلسطينية: وقفت أفغانستان حكومة وشعبا مواقف مشرفة إلى جانب القضية الفلسطينية على الدوام، منذ بدايتها. وقد اتسقت مواقفها حيال هذه القضية في المحافل الدولية مع المواقف العربية؛ فبذلت كل ما في وسعها في سبيلها، حتى أن الشعب الأفغاني تبرع على اختلاف طبقاته بمبالغ طائلة تم إرسالها إلى الأمانة العامة لجامعة الدولة العربية إبّان حرب فلسطين عام 1948م، وتقدم آلاف المواطنين الأفغان للتطوع إلى جانب المجاهدين العرب ضد الإسرائيليين. وكانت أفغانستان الدولة الوحيدة غير العربية التي اعترفت بحكومة عموم فلسطين عام 1949م، كما اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية فور تأسيسها عام 1964م، واستقبلت الوفد الممثل لها بكابل في نفس العام.( )
وقد حسم وزير الخارجية محمد نعيم، أثناء زيارته لمصر في أبريل 1955م، موقف بلاده من إسرائيل، عندما أكد مرة أخرى على «أن سياسة أفغانستان الخارجية قائمة على تعزيز أواصر المودة مع العرب، ومن ثم فإنها تساندهم في جميع القضايا التي تتعلق بأقطارهم، وهي في هذا تتطابق مع السياسات العربية والمصرية منها على وجه التحديد فيما يخص العلاقة مع إسرائيل»( )
وعلى الرغم من عدم ظهور أي أدلة على وجود تنسيق مصري أفغاني بخصوص القضية الفلسطينية، إلا أن الموقف الأفغاني الثابت والمعلن لم يتغير عن موقفها غير المعلن من هذه القضية، كما كانت كابل حريصة على ألا يتطور الموقف المصري من هذه القضية إلى صدام مع الولايات المتحدة. ولعل هذا ما عبر عنه السفير المصري لدى كابل بموجب كتاب إلى القاهرة، ذكر فيه أن وزير الخارجية الأفغانية محمد نعيم، نصحه «بصفته صديقا حميما لمصر يرغب لها الرفعة والسؤدد، بأن تتجنب مصر الاصطدام بالولايات المتحدة وأن تسعى لإيجاد حل نهائي لمشكلة فلسطين التي تُعكر صفو العلاقات المصرية الأمريكية» وأنه قال له أيضا: «إنه يعتقد جازماً أن الأمريكيين مُصممون على بقاء إسرائيل، وأنه قد آن الأوان أن يقبل العرب هذا الأمر الواقع. وأن روسيا مهما بلغت تهديداتها وإنذاراتها لن تخاطر بالدخول في حرب عالمية من أجل حقوق العرب» واستطرد الوزير قائلا: «إنه يعتقد أن الحكومة الأمريكية أيضا يهمها صداقة مصر لتأكدها من أنها مصدر للإشعاع الديني والثقافي في الشرق الأوسط. ولكن نفوذ اليهود في أمريكا… لن يسمح لها بالتضحية بإسرائيل في سبيل ذلك»( )
وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الرؤية الأفغانية الواقعية حيال القضية الفلسطينية هي التي جعلتها تؤيد، فيما بعد، مبادرة السلام التي طرحها الرئيس السادات، كما سترد الإشارة إليها لاحقا.
2ـ مناصرة ثورة التحرير الجزائرية: رحبت أفغانستان «باستقلال السودان ومراكش وتونس، وشرعت في تبادل التمثيل الدبلوماسي مع هذه الدول».( ) كما ساندت ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، التي اشتعلت في نوفمبر 1954م، وانتهت بإلان الاستقلال في 5 يوليو 1962م، بعد سبع سنوات ونصف من الكفاح المسلح والنضال السياسي. فقد أدانت كابل عمليات الإبادة التي ارتكبتها القوات الفرنسية بحق الشعب الجزائري. وساندت الموقف الجزائري في المحافل الدولية مؤكدة على أن «الموقف في الجزائر يستدعي القيام بمسعى مشترك من قبل جميع الدول الإسلامية. كما استنكر وزير الخارجية في تصريح صحفي له اعتداء الحكومة الفرنسية على الشعب الجزائري واستخدامها قوات حلف شمال الأطلسي الفرنسية في عمليات القمع والإرهاب. وأعرب عن تضامن الشعب الأفغاني مع الشعب الجزائري وجهاده»( ) ومن ناحية أخرى، قدم الهلال الأحمر الأفغاني مساعدات مالية للمجاهدين الجزائريين عام 1959م، بلغت 15 ألف دولار كدفعة أولى. كما تأسست في كابل لجنة وطنية لتقديم المساعدات المستمرة للاجئين الجزائريين، ورخصت الحكومة الأفغانية بافتتاح اكتتاب عام مستمر لمن يمد يد المعونة إلى هؤلاء اللاجئين. كما طردت القائم بأعمال السفارة الفرنسية في كابل( ).
ثالثاً: الإيمان بالمبادئ السياسية المشتركة:
من بين العوامل التي أسهمت في تزايد التقارب والتفاهم المشترك بين القاهرة وكابل، إيمانهما بمجموعة من المبادئ السياسية المشتركة. وهو الأمر الذي عكس اتفاق رؤاهما حيال العديد من القضايا الإقليمية والدولية. فقد آمنت مصر وأفغانستان بالحياد الإيجابي، ونبذا الأحلاف والتكتلات السياسية الإقليمية، وشاركا في مؤتمر باندونج. وهذا ما نتناوله بنوع من الإيجاز على النحو التالي:
1ـ الحياد الإيجابي: ظهر سياسة الحياد الإيجابي، بعد الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945م، بغرض حماية الدول الإفريقية والآسيوية من صراعات دولية لا تعنيها. وقد قام هذا الحياد على مجموعة من الأسس، تتلخص في: عدم الانضمام للأحلاف العسكرية، وعدم الانحياز إلى أي من أطرافها، فضلا عن والتعاون والمشاركة في إيجاد حلول للأزمات من خلال القوانين الدولية. والعمل على طرح مبادرات لتعزيز السلام وتخفيف التوتَر. ومن ثم كرس الحياد الإيجابي المبادئ التي عززت التعايش السلمي، مثل احترام استقلال الدول وسيادتها الوطنية، وعدم التدخَل في شؤونها الداخلية، وتمتعها بحق اختيار النظام الملائم لها. وفي هذا الإطار، التزمت هذه الساسة بدعم حركات التحرر والقضايا الوطنية المشروعة، ورفض سياسة الاعتداء، ومجابهة السيطرة على الشعوب المغلوبة على أمرها( ).
وبناء على هذا، يمكن القول إنه إذا كانت مصر قد تمسكت بالحياد الإيجابي، فإن أفغانستان كانت من أوائل الدول الآسيوية التي التزمت به أيضا. خاصة بعد أن عانت طويلا من الأطماع البريطانية والروسية وصراعهما للسيطرة على آسيا الوسطى عبر أراضيها.( )
2ـ نبذ الأحلاف والتكتلات العسكرية: على الرغم من متاخمة أفغانستان لأكبر دولتين تنتميان لما كان يسمى بالمعسكر الشرقي هما الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، إلا أنها استطاعت أن تحتفظ بعلاقات ودية معهما، دون أن تكون متورطة معهما في أحلاف أو تكتلات عسكرية. وبنفس القدر، فإنها، وهي تتاخم إيران وباكستان أيضا، لم تنضم معهما لحلف بغداد الذي كانتا عضوتين فيه مع العراق وتركيا. كما لم تنضم لحلف جنوب شرق آسيا( ) لتؤكد على أن سياستها قائمة على الحياد التام ونبذ الأحلاف والتكتلات العسكرية.( ) ومن ثم رفضت رفضا تاما الانضمام إلى حلف بغداد( )، منذ أن كان فيها هذا الحلف مجرد مشروع إقليمي، ظهرت نواته الأولى بعقد تركيا وباكستان ميثاقاً دفاعياً ثنائياً، في أغسطس 1954م، ثم انضمت العراق إليه، في فبراير 1955م، ثم بريطانيا في يوليو 1955م، ثم إيران في نوفمبر 1955م.
وفي هذا الإطار، أعرب السردار محمد نعيم وزير الخارجية الأفغانية، خلال حديثه مع السفير المصري لدى كابل، عن «استنكاره واستغرابه» من قيام هذا الحلف، وخاصة من العراق؛ نظراً لأنه كان يرى أن انضمام دولة عربية له مثل العراق يُعد خطوة «قد تؤدي إلى ضعف الجامعة العربية» مؤكدا على أن بلاده «لا تنظر بعين الارتياح إلى مشروع الاتفاق لما ينطوي عليه احتمال عقد اتفاق مماثل بين باكستان والعراق» وذلك على نحو ما حدث فيما بعد( ) كما أكد، في مناسبات عديدة، على ثبات موقف بلاده الرافض لأي محاولة تدعوها للانضمام إلى حلف بغداد، وأنها «لن تحيد عن حيادها، ولن تنضم إلى الأحلاف والتكتلات العسكرية، وأنها ستستمر في إتباع سياستها الحيادية التي تعتقد أنها تخدم قضية السلام عن طريقها. وفوق ذلك فإن المسألة مسألة مبادئ تسمو فوق المساومات وليست مسألة تجارية تحتاج إلى أخذ وعطاء»( ) ثم شدد، أيضا على «أن أفغانستان ستظل دائما مصممة على إتباع سياسة الحياد. ويعزز موقفها ميثاق الحياد وعدم الاعتداء الذي عقدته أفغانستان مع روسيا في شهر ديسمبر 1955».( ) وفي هذا الإطار، ذكر السفير المصري في كتابه للقاهرة، أن جميع المراقبين السياسيين في كابل، يرون «أن أية محاولة لحمل أفغانستان على الانضمام إلى حلف بغداد لا يُنتظر لها النجاح؛ نظرا لتمسك حكومة السردار داود بسياسة الحياد التقليدية لأفغانستان ومعارضتها الانضمام للأحلاف».( )خاصة بعد أن أبدى الملك محمد ظاهر شاه رضاه عن هذا التوجه لبلاده في خطابه السنوي، بمناسبة العيد الثامن والثلاثين للاستقلال يوم 14 أغسطس، حين قال: «إن مبدأ الحياد التقليدي الذي تبني عليه الحكومة سياستها الخارجية قد دعم علاقاتها الدولية»( )
3ـ المشاركة في مؤتمر باندونج: انعقد مؤتمر باندونج( )فيما بين يومي18 و24 أبريل 1955م، بمشاركة تسع وعشرون دولة مستقلة من آسيا وأفريقيا، من بينها مصر وأفغانستان( ) وقد وضعت خلاله أسس نشأة منظمة تضامن الشعوب الأفرو آسيوية، التي عُقد مؤتمرها الأول بالقاهرة عام 1958م، وحركة عدم الانحياز، الذي عُقد مؤتمرها الأول في بلجراد، عام 1961م، والذي تأكد خلالهما مدى التلازم بين الحياد الإيجابي وعدم الانحياز في الواقع من حيث المبدأ والهدف. ( )
وفي هذا السياق يمكن القول إنه إذا كانت مصر قد لعبت دورا قياديا بارزا في مؤتمر باندونج وتأسيس حركة عدم الانحياز، فإن أفغانستان قد قامت أيضا بدور إيجابي بنّاء خلال هذا المؤتمر، الذي أرسى كثيراً من القواعد التي كانت تؤمن بها أفغانستان من الأساس. إذ بذل محمد نعيم نائب رئيس الوزراء ووزير خارجيتها، إلى جوار زعماء الحركة البارزين «ناصر» و«نهرو» و«تيتو» و«تشواين لاي» و«سوكارنو» جهودا جبارة لإنجاح هذا المؤتمر بوصفه حدثا تاريخيا في تاريخ العلاقات الآسيوية الأفريقية( ) وتجسيدا للتضامن الأفرو آسيوي.( )
العلاقات المصرية الأفغانية
(1952 ـ 1979م)
شهدت العلاقات المصرية الأفغانية، بعد قيام ثورة يوليو 1952م، تطورا كبيرا، على جميع الأصعدة، بدأت بالمجاملات السياسية المعتادة بين الدول، ثم دخلت في مرحلة تنسيق المواقف القائمة على الإيمان بالمبادئ السياسية المشتركة، ثم التعاون المتعدد الأبعاد، الذي تم وسط حالة من الدفء الذي أخذ يميز العلاقة بين مسئولي القاهرة وكابل، الذي عكسته برقيات التهنئة المتبادلة بين البلدين في المناسبات المختلفة.( ) (للاطلاع على نص البرقيات يمكن الرجوع إلى الوثيقة رقم 12 بملحق الوثائق)
كما أبرزه حرص الرئيسين نجيب وعبد الناصر على حضور بعض المناسبات التي كانت تقيمها السفارة الأفغانية بالقاهرة، فقد حضر مثلا الرئيس محمد نجيب بنفسه يوم 27 مايو 1953م، حفل الاستقبال الذي أقامه السفير الأفغاني لدى القاهرة «عبد الهادي داوي» بدار السفارة الأفغانية بمناسبة العيد الوطني. وذلك برفقة «محمود فوزي» وزير الخارجية و«فتحي رضوان» وزير الدولة، وعدد من الوزراء ورجال السلك السياسي العربي وكبار رجال الخارجية( ). كما حضر رئيس الرئيس عبد الناصر حفل التكريم الذي أقامته هذه السفارة للأمير محمد نعيم نائب رئيس وزراء ووزير الخارجية يوم٢٥اكتوبر ١٩٥٤م( )
وقد تجسد تطور العلاقات الثنائية بين مصر وأفغانستان، خلال هذه المرحلة، في تعدد وارتفاع مستوى الزيارات المتبادلة بينهما، وتوقيع عدد من اتفاقيات التعاون المشترك، والذي نتناوله على النحو التالي:
الزيارات المتبادلة
تُعد الزيارات المتبادلة محورا مهما لتعزيز العلاقات الودية بين البلدين المسلمين، والتي أظهرت روح التفاهم بينهما. فقد أجرى البلدان أكثر من إحدى عشرة زيارة علنية متبادلة بين المسئولين على اختلاف مستوياتهم، فيما بين عامي 1954 و1978م، كان نصيب أفغانستان منها تسع زيارات رسمية باتجاه القاهرة. ناهيك عن الوفود الأفغانية المتنوعة التي ترددت على مصر.
وقد بدأت أولى هذه الزيارات، بالزيارة التي قام نائب رئيس وزراء أفغانستان ووزير خارجيتها محمد نعيم خان، بوصفها أول زيارة رسمية على هذا المستوى لمصر، خلال هذه الفترة، يوم 21 أكتوبر 1954م، استقبله خلالها نظيره المصري محمود فوزي، بحث خلالها مشكلة «بختونستان» التي كانت قائمة بين كابل وإسلام آباد، وطلب وساطة القاهرة في حلها.( )واستقبله خلالها الرئيس عبد الناصر، وتم التفاهم بينهما حول كثير من المسائل أهمها تنسيق المواقف والجهود الرامية لإنجاح مؤتمر باندونج، الذي كانت تعول عليه أفغانستان في إرساء «قوة ثالثة» محايدة في العالم بين الكتلة الشرقية والغربية، وتعمل لصالح الدول المنتمية إليها. وقد أقام له الرئيس عبد الناصر مأدبة غداء بنادي ضباط الجيش،( )
زيارة عبد الناصر التاريخية: قام الرئيس عبد الناصر بأول زيارة يقوم بها زعيم عربي لأفغانستان في التاريخ، في 30 أبريل عام 1955م( )وحظي خلالها باستقبال وحفاوة رسمية وشعبية رائعة( )وقد صرح عبد الناصر، عقب لقائه بالملك محمد ظاهر شاه ورئيس وزرائه محمد داود، بأنه رأى أن يقوم بالوساطة بين أفغانستان وباكستان للتخفيف من حدة التوتر الناشب بينهما حول مسألة بختونستان. واستطرد قائلا: «إنه قد وصل إلى نتائج طيبة للجهود التي بذلها في هذا السبيل» أثناء محادثاته مع الملك محمد ظاهر شاه والسردار محمد داود رئيس الوزراء. وقد أذاع راديو كابل أن أفغانستان على استعداد لقبول وساطة مصر لتسوية النزاع بينها وبين باكستان حال قبلت مقترحات الرئيس عبد الناصر( ).
وكانت مشكلة بختونستان أو بشتونستان من أهم القضايا التي واجهت سياسة أفغانستان الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية. وهي المسألة الخلافية ظهرت بين أفغانستان وباكستان جرّاء تقسيم شبه القارة الهندية بموجب «خط ديوراند» الحدودي( ) الذي أصبح، منذ عام 1893م، خطا فاصلا بين أفغانستان والهند بطول 2640 كيلومتر، والذي لم تعترف به أي من الحكومات الأفغانية المتعاقبة، نظراً لأنه أدى تقسيم قبائل البشتون إلى نصفين، نصف في الموطن الأم أفغانستان، والنصف الآخر في المناطق الهندية، التي استقلت عام 1949م، باسم جمهورية باكستان الإسلامية. الأمر الذي أفضى إلى أزمة سياسية بين أفغانستان وباكستان، خاصة عندما أعلنت باكستان عام 1950م، تمسكها بملكية الأراضي التي تسكنها قبائل البشتون. ولا سيما التي لم تكن محددة تمامًا وتضمنها خط ديوراند، بينما شجعت أفغانستان قيام دولة بوشتونستان «بختونستان» الأمر الذي أدى لنشوب مناوشات حدودية مسلحة بين الجانبين. قررت بعدها باكستان حرمان أفغانستان من مرور تجارتها عبر موانئها وأراضيها، الأمر الذي أفضى إلى قطع العلاقات بينهما، بعد فشل الوساطات المصرية والسعودية المتعددة، كما أدى إلى توقيع أفغانستان اتفاقية تجارية مع روسيا تصدر بموجبها بضائعها عبر الموانئ الروسية( )
وقد امتدت انعكاسات مسألة بختونستان على العلاقة بين السفارتين الأفغانية والباكستانية بالقاهرة، الأمر الذي جعل «صادق المجددي» وزير أفغانستان المفوض لدى مصر بالاتفاق مع السفير الباكستاني بالقاهرة «حاجي عبد الستار سيت» على ألا يهاجم كل منهما دولة الآخر، وألا يثار النزاع بينهما في الأحاديث الصحفية. غير أن أفغانستان قامت بسحب المجددي؛ لعدم رضاها عن سياسته بمصر، وأرسلت بدلا عنه «عبد الهادي خان داوي» الذي تحدث بوضوح وعلانية عن طبيعة الخلاف بين دولته وبين باكستان حول «بجتونستان» معرباً عن مدى إصرار بلاده على تحرير هذا الإقليم من الحكم الباكستاني.
ومن ثم تجدد الصدام بين ممثلي البلدين على أرض مصر حول هذه المسألة. وفي هذا السياق ضبطت حكمدارية بوليس مصر بعض المنشورات التي كانت تتضمن تعريضا بدولة باكستان، والتي طبعت بإحدى المطابع المصرية، بناء على رغبة السفارة الأفغانية بمصر، لإرسالها إلى المفوضية الأفغانية بجدة. (للاطلاع على خطاب وكيل وزارة الداخلية إلى وكيل وزارة الخارجية بهذا الشأن يمكن مراجعة الوثيقة رقم 13).
زيارة أنور السادات: في إطار جهود الوساطة المصرية، قام «أنور السادات» بزيارة رسمية لكابل في أبريل 1955م، والتقى خلالها بالملك محمد ظاهر شاه ورئيس الوزراء محمد داود( ) وأكد أن «الوساطة بدأت منذ وصول الرئيس جمال عبد الناصر لكراتشي» وأننا «قدمنا عدة اقتراحات، ثم قامت بعد ذلك المملكة العربية السعودية بالوساطة فسارت في نفس الطريق على أساس هذه المقترحات، أي أنها أكملت الطريق ثم رؤي أن نستكمل هذه الوساطة معا»( )
وكتب أنور السادات مقالا ضافيا في جريدة التحرير بتاريخ 12يوليو 1955م، بعنوان «رسالة إلى أفغانستان» استعرض فيه، بمشاعر فياضة من الود تجاه أفغانستان، النقاط الخلافية بينها وبين باكستان حول قضية بختونستان، واستعرض جهود حلها بين البلدين، بقوله: إن «أفغانستان أرادت أن يكون لها منفذا بحريا يكون في صورة بناء منطقة حرة في ميناء كراتشي وتكون مِلْكا لأفغانستان، يقابلها منطقة أخرى على ممر خيبر، فيتم تفريغ البضائع الأفغانية في الميناء وتُكدس في المنطقة الحرة التي للأفغان عليها السيادة. ثم ُتنُقل بالسكة الحديد، أو بأي طريقة أخرى إلى المنطقة الحرة التي على الحدود، وهذه أيضا تكون ملكا لأفغانستان» ثم عرض لجهود الوساطة المصرية وأرجع سبب فشلها لرفض أفغانستان المقترحات المصرية «في اللحظة الأخيرة» رغم المرونة الواضحة التي أبدتها الحكومة الباكستانية في هذا الشأن( ).
زيارة الأمير محمد داوود: وهي الزيارة الأفغانية الثانية لمصر، التي قام رئيس الوزراء الأمير «محمد داود» يوم 13 مايو 1957م، بدعوة رسمية من القاهرة، واستمرت لمدة خمسة أيام. وحظيت باهتمام مصري كبير( ) نظرا لأنها جاءت من حيث التوقيت بعد انتهاء العدوان الثلاثي، كما أنها كانت تعد أول زيارة أفغانية لمصر على هذا المستوى الرفيع( ) وقد حظي رئيس الوزراء الأفغاني بحفاوة وتكريم من الجهات الرسمية والشعبية، والتقى كبار المسئولين، واستقبله الرئيس عبد الناصر ( ) وزاره أيضا بمقر ضيافته في قصر القبة( )
وقد توالت زيارات الرسمية، وزيارات الوفود الأفغانية المتعددة، على القاهرة، فيما بين عامي 1958 و1961م، فقام «غلام محمد شيرزاد» وزير الاقتصاد والتجارة الأفغاني بزيارة للقاهرة، يوم 10 ديسمبر 1958م، استغرقت خمسة أيام، حضر خلالها المؤتمر الاقتصادي الآسيوي الأفريقي، واستقبله الرئيس عبد الناصر بحضور كل من عبد المنعم القيسوني وزير التجارة، ومحمود فوزي وزير الخارجية، وحسن عباس زكي وزير المالية( ) وفي مارس 1958م، زارها أيضا «فاروق سراج» رئيس اللجنة الأولمبية الأفغانية، بدعوة من المجلس الأعلى لرعاية الشباب. وفي عام 1959م، استقبلت القاهرة وفدا من جامعة كابل، زار خلالها المؤسسات الثقافية والعلمية والتعليمية من مدارس ومعاهد وكليات.( )
زيارة محمد ظاهر شاه: وهي أرفع زيارة أفغانية لمصر، في ذلك الوقت، وتمت بدعوة رسمية من الرئيس عبد الناصر، في 21 أكتوبر1960م، واستغرقت تسعة أيام. وقد عكس الاستقبال الرسمي والشعبي «الرائع»( ) عمق العلاقة التي كانت تربط بين البلدين «حيث كان في استقباله في مطار القاهرة الرئيس عبد الناصر كما استقبلته الجماهير استقبالا شعبيا رائعا على طول الطريق المؤدي إلى القصر الجمهوري بالقبة( ).وقد ذكر السفير المصري لدى كابل، في ذلك الوقت، «أحمد فريد أبو شادي» أن الهدف المعلن للزيارة كان يتمحور حول «تدعيم الروابط السياسية بين البلدين وتعزيز سياسة الحياد الإيجابي التي ظهرت فوائدها في المجال الدولي وأصبحت لها خطورتها وأهميتها، وبخاصة في الأمم المتحدة»( )
وقد ذكر الرئيس عبد الناصر، في الكلمة التي ألقاها خلال حفل العشاء الذي أقامه بقصر الطاهرة تكريما للملك ظاهر شاه يوم وصوله، مبررات الحفاوة الملموسة التي قوبل بها، بقوله «لقد عبر شعبنا اليوم في استقباله الحافل لكم عن عميق شعوره بالود والصداقة تجاه شعب أفغانستان العظيم. ولم يكن استقبال شعبنا لكم اليوم إلا صدى هذه الروابط التي ضمتنا منذ التاريخ البعيد؛ فجمعت بيننا على دين الله السمح الكريم» (للاطلاع على نص الكلمة يمكن الرجوع إلى الوثيقة رقم 14 بملحق الوثائق) وذلك للأسباب التي ساقها الرئيس عبد الناصر في كلمه أخرى ألقاها أثناء احتفال الاتحاد القومي بملك أفغانستان، على النحو التالي:
أولا: «تفاعل الفكر والشعور» «فلقد التقينا مع شعب أفغانستان الصديق في باندونج ونحن نضع الدعامات الأولى للتعاون الآسيوي الأفريقي». «كذلك التقينا على طريق عدم الانحياز، ونحن نحاول أن نصنع من التعايش السلمي بديلا بنّاء لسياسة التكتل». «ولقد كان من حظي شخصيا يا صاحب الجلالة أن أزور أفغانستان على طريق عودتي من باندونج، حيث أتيح لي أن أرى اللقاء الفكري والشعوري بين شعبينا يتحول إلى حقيقة مادية».( )
ثانيا: «روابط الكفاح من أجل التغلب على الاستعمار» إذ «استطاع شعب أفغانستان أن يقضي على كل مؤامرات بريطانيا، واستطاع شعب الجمهورية العربية المتحدة أن يقضي على مؤامرات بريطانيا في مصر وفرنسا في سوريا» كما «حصل شعب أفغانستان على استقلاله الكامل وحصل شعب الجمهورية العربية المتحدة على استقلاله الكامل، ثم سرنا من أجل تثبيت هذا الاستقلال» ( ).
ثالثا: الاتفاق الكامل بيننا في السياسة والعمل» «حينما أعلنت جمهوريتنا سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وأعلنت مملكة أفغانستان سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز». و«اتفقنا على أن نعمل من أجل تقرير مبادئ السلام، ثم اتفقنا على أن نعمل من أجل تقرير مبادئ الحرية وتقرير المصير، وكان هذا العامل من عوامل التضامن الآسيوي الأفريقي» ( )
رابعا: تأييد أفغانستان الدائم على طول الخط للقضايا العربية» «إننا نعلم يا صاحب الجلالة موقفكم الكريم وموقف شعب أفغانستان الكبير، حينما واجهنا في منطقتنا العربية الغزو الصهيوني في سنة 48». وكان «موقف جلالتكم وحكومتكم وشعبكم موقف المؤيد التأييد التام الكامل لحقوق العرب في أرضهم وديارهم» حيث «لم تعترف أفغانستان بإسرائيل ولم تُقم معها أي علاقات رسمية وغير رسمية ولم تعترف بإسرائيل تجاريا وسياسيا وثقافيا» «ولازالت أفغانستان حتى اليوم تُصر على موقفها من عدم الاعتراف بإسرائيل وتصر على عدم التعامل معها بأي وسيلة من الوسائل» رغم الضغوط التي كانت تمارسها إسرائيل عليها. كما «ولا ننسى يا صاحب الجلالة موقف شعب أفغانستان الشقيق في تأييدنا حينما كنا نجابه هذه المعركة ولا ننسى جهود حكومتكم في الأمم المتحدة من أجل القضاء على العدوان ومن أجل رفع راية الحرية» ( ) (للاطلاع على نص الكلمة بالكامل يمكن الرجوع إلى الوثيقة رقم 15 بملحق الوثائق)
وفضلا عما سبق، فقد عكس البيان المشترك الذي صدر في ختام الزيارة «مدى الاتفاق التام في وجهات النظر بين البلدين في جميع المسائل» والذي أُذيع بالتزامن في كل من القاهرة وكابل، ونورد أهما ما جاء فيه على النحو التالي:
تمسك الجانبين بمبادئ باندونج وميثاق الأمم المتحدة.
تمسك الجانبين بالحياد الإيجابي ومعارضة التكتلات العسكرية.
مناشدة العالم تأييد اقتراح دول الحياد لحل مشكلة نزع السلاح.
الأمل بأن تتحقق لباقي شعوب أفريقيا حريتها واستقلالها لتأخذ مكانها في الكيان الدولي.
التأييد الكامل لشعب فلسطين حتى يسترد حقوقه كاملة
استنكار حرب الإبادة التي تشنها فرنسا في الجزائر.( )
أوجه التعاون المصري الأفغاني:
أفضت الزيارات المتبادلة بين البلدين إلى تعزيز التعاون بينهما وتوقيع عدد من الاتفاقيات، أهمها:
التعاون في المجال الثقافي: يعد التعاون الثقافي أحد الروافد المهمة التي عززت العلاقات المصرية الأفغانية، ولعبت دورا مهما في إذكاء روح التفاهم ومد جسور التواصل بينهما. وقد بدأت بوادر هذا التعاون بالزيارة التي قام بها «محمد هاشم ميوندوال»( ) رئيس المكتب الإعلامي بوزارة الخارجية بزيارة رسمية للقاهرة في أكتوبر 1954م، بحث خلالها تأسيس مكتب أفغاني للصحافة والإعلام بمصر( ) والذي بدأ نشاطه فعليا عام 1956م، بإصدار مجلة شهرية باللغة العربية تحت عنوان «أفغانستان». فضلا عن نشرتين أسبوعيتين بالعربية والإنجليزية. وفي المقابل، تأسس المكتب الثقافي المصري بكابل( ) وزُود بمكتبة ضمت أكثر من ثلاثين ألف كتاب، وأُلقيت فيه المحاضرات والبحوث الفنية والعلمية والثقافية. وأصدر كتابين أحدهما باللغة الفارسية عن قضية الجزائر وتطورها، والآخر عن مشكلة فلسطين.( )
وقد عزز البلدان علاقاتهما الثقافية بإبرام اتفاقية ثقافية عام 1955م، وقعها في القاهرة السيد «صلاح الدين السلجوقي» سفير أفغانستان، نيابة عن الجانب الأفغاني، والدكتور محمود رياض وزير الخارجية نيابة عن الجانب المصري( ) والتي تبادل الجانبان بموجبها المنح الدراسية بين الجامعات والمراكز البحثية في البلدين، حيث ذهب المعلمون والخبراء والمثقفون المصريون إلى كابل، وأسهموا بجهدهم البارز في تربية الكوادر العلمية والفكرية الأفغانية، من أمثال: أحمد فؤاد الأهواني وزكي نجيب محمود، وعزمي إسلام، الذين تركوا تأثيرا ملموسا في قطاع عريض من المثقفين الأفغان، نذكر منهم، على سبيل المثال وليس الحصر، الدكتور «محمد موسى شفيق» وزير الخارجة ورئيس الوزراء الأسبق و«غلام سرورهمایون» و«علي محمد زهما» والفقيه القانوني «سيد بهاء الدين مجروح» وزير العدل الأسبق، و«محمد إسماعيل» و«غلام حسن مجددي» الذي اضطلع بترجمة كتاب المنطق الوضعي للدكتور «زكي نجيب محمود»( )
وفي هذا الإطار، يتعين علينا أن نشير أيضا إلى دور الأزهر الشريف في أفغانستان بوصفه مؤسسة دينية شاملة يتمتع خريجوها باحترام وتقدير كبيرين عند الشعب الأفغاني، حيث أوفدت كابل عددا من طلاب كلية الشريعة بجامعة كابل للدراسة في جامعة الأزهر، وهم الذين أصبح من بينهم، فيما بعد، روادا للحركة الإسلامية التي كانت قد بدأت في التنامي في نهاية الستينات من القرن العشرين، نذكر منهم: الدكتور «محمد موسى توانا» و«وفيّ الله سمیعي» و«برهان الدين ربّاني» و«عبد الرحيم نيازي» و«عبد رب الرسول سيّاف» و«غلام محمد نيازي» و«حبيب الرحمن» و«صبغة الله مجددي» و«عبد الحي حبيبي» الذين مثلوا الرعيل الأول الذي تخرج في جامعة الأزهر الشريف والجامعات المصرية الأخرى، وأثروا في المجتمع الأفغاني كله، بما فيهم الكثير من نظرائهم من قادة الجهاد الآخرين من أمثال «احمد شاه مسعود» و«گلبدین حكمتيار»( ) وفضلا عما سبق، فقد استعانت الحكومة الأفغانية بفريق من الخبراء المصريين من معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينكان بالقاهرة، برئاسة المستشرق «سيرج دو بوركي»( ) لجمع وتصنيف وفهرسة ونشر المخطوطات من المكتبات الحكومية والخاصة ومكتبة جلالة الملك والمتحف القومي ووزارة المعارف( ) كما استعانت أيضا بالمعلمين المصريين في تدريس اللغة العربية بالمدارس الأفغانية، بوصفها لغة مُتممة للغتين البشتونية والفارسية.( )
التعاون في المجال الاقتصادي: اشتمل هذا التعاون بين مصر وأفغانستان على التوقيع على اتفاقيتين للتعاون في مجال النقل الجوي، وأخرى في مجال التجارة والدفع. فقد تم التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاقية الأولى في القاهرة عام 1960م، ومثل فيها الجنبان المصري والأفغاني مديرا عام مصلحة الطيران المدني في كلا البلدين.( ) بينما تم التوقيع على الاتفاقية الثانية بكابل في نفس العام، حيث وقعها عن الجانب المصري الدكتور «محمد بدوي الشيتي» وكيل وزارة الاقتصاد، والسيد «غلام محمد شيرزاد» وزير التجارة عن الجانب الأفغاني. وكانت مصر، بموجب هذه الاتفاقية، تستورد من أفغانستان المواد الأولية والمكسرات والفواكه المجففة والطازجة والجلود والحبوب الزيتية والنباتات الطبية ومختلف أنواع الفراء، والسجاد اليدوي، وفي المقابل استوردت أفغانستان من مصر المواد الصناعية مثل المنتجات البلاستيكية والزجاجية والخزفية، والمواد الغذائية وحروف الطباعة والورق والتبغ والسجائر( )
ولم ينحصر التعاون بين مصر وأفغانستان على هذه المجالات فقط، بل تعداها إلى تقديم القاهرة دعما مهما في مجال القضاء، حيث أرسلت عددا من الأساتذة والمستشارين القضائيين إلى أفغانستان للمساهمة في تدريب رجال السلك القضائي وأعضاء النيابة العامة.( )كما أسهمت بعثة من رجال القضاء المصريين في صياغة الدستور الأفغاني الجديد الذي تم وضعه عام 1964م.( )
وفي المجال العسكري، ثم قام محمد نعيم خان وزير الخارجية أثناء أول زيارة له للقاهرة يوم 21 أكتوبر 1954م، بزيارة بعض المصانع الحربية ومدرسة المظلات المصرية( )كما قام وفد عسكري أفغاني رفيع المستوى بزيارة القاهرة عام 1960م، برئاسة الجنرال «سيد حسن رئيس» هيئة أركان الجيش الأفغاني. تلبية لدعوة المشير «عبد الحكيم عامر» نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، والذي قام بزيارة المنشآت العسكرية والمصانع الحربية، وميناء الإسكندرية وقناة السويس. والتقى بهذا الوفد الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر.( )وقد قدمت مصر بعض المنح للجانب الأفغاني للدراسة بالكلية الحربية وكلية الشرطة. وفي عام 1977م، وقعت أفغانستان اتفاقية تعاون عسكري مع مصر جرى بموجبها تدريب الجيش الأفغاني وقوات الشرطة من قبل القوات المسلحة المصرية( )
وقد واصل البلدان علاقاتهما الوثيقة، حتى تعرضا لعدد من المتغيرات الداخلية والخارجية التي أفضت إلى تطور دراماتيكي في نمط العلاقة المتميز الذي كان سائدا بينهما، فعلى الجانب المصري تعرضت القاهرة لنكسة قاسية عام 1967م، وعندها وقفت أفغانستان بجانب مصر، مثلما وقفت بجانبها أثناء العدوان الثلاثي عليها عام 1956م، ثم ما لبثت القوات المسلحة المصرية أن حققت نصراً مؤزرا عام 1973م، وعندها شارك الأفغان أيضا إخوانهم المصريين الفرحة، وقدموا الذبائح؛ شكرًا لله على فضله.( ) وعندما انتقل الرئيس عبد الناصر إلى جوار ربه، نعته أفغانستان حكومة وشعبا، ونعاه الملك محمد ظاهر شاه بقوله: «إن الشعب الإسلامي والشعب العربي لن ينسيا أبداً الخدمات الجليلة التي أداها هذا الرجل العظيم»( )
أما على الجانب الأفغاني، فقد أخذت قوة النظام الملكي في البلاد تتضاءل تدريجيا، منذ نهاية الستينات من القرن العشرين، بسبب تردي الوضع الاقتصادي الذي تأزم بصورة أكبر عندما تعرضت البلاد لموجه جفاف، فيما بين عامي 1971-1972م، الأمر الذي أفضى إلى تفاقم الاحتقان السياسي المتصاعد الناجم عن زيادة مشاعر الإحباط الاجتماعي، وعدم قدرة الدولة على التصدي لحل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة.( ) حتى قام السردار محمد داود، رئيس الوزراء السابق، بانقلاب سلمي ضد ابن عمه الملك ظاهر شاه، في يوم 17 يوليو 1973م، وذلك أثناء قضاء عطلته بإيطاليا، وألغى النظام الملكي، وأعلن النظام الجمهوري، ونصب نفسه رئيسا ( ). وقد أعلنت مصر اعترافها الرسمي بهذا النظام الجديد يوم 25 يوليو 1973م، وأبلغ وزير خارجيتها، هذا الاعتراف إلى «محمد أكرم» السفير الأفغاني بالقاهرة.( )
وقد قام الرئيس محمد داود خان بزيارة مصر، ضمن جولة شملت السعودية والكويت، يوم 2 أبريل 1978م، في إطار مساعيه الرامية للانفصال تدريجيا عن الاتحاد السوفييتي وتعزيز علاقة بلاده بالعالم العربي ودول الجوار، واستكشاف علاقات أوثق مع الولايات المتحدة. وذلك في ظل أوضاع داخلية كانت تزداد احتقانا يوما بعد يوم، بسبب محاولته السيطرة على نشاط الجماعات اليسارية المعارضة التي كانت مدفوعة من المخابرات السوفييتية، والجماعات اليمينية، التي كانت مدفوعة من المخابرات الأمريكية بواسطة المخابرات الباكستانية.( )
وقد عكست الكلمتان التي ألقاهما الرئيسان السادات وداود، خلال حفل العشاء الذي أقيم تكريما للرئيس الأفغاني بقصر عابدين، مساء يوم 6 أبريل، مدى التوافق التام في المواقف بين القاهرة وكابل؛ فقد استهل الرئيس السادات كلمته بوصف الرئيس محمد داود «بصديق حميم» الذي «تربطنا به وبشعبه أوثق الوشائج التي تقوم على وحدة الرؤية، والإيمان المشترك بالرسالة الخالدة التي يحملها الإنسان في سبيل إيجاد عالم أفضل، يسوده العدل والخير والسلام» ثم أكد فيها أيضا على أن لأفغانستان «في فؤاد كل مصري تقدير بالغ ومنزلة خاصة»و أعرب عن اعتزازه «بأن أبناء الشعب الأفغاني الشقيق يختارون مصر منهلا للعلم، ويتخذون من الأزهر الشريف والجامعات المصرية موردا للمعرفة، ومركزاً للتحصيل والبحث»( ) كما عبر صراحة عن موقفه الداعم للرئيس محمد داود؛ إزاء تصاعد الاحتقان الداخلي والضغوط التي كانت تمارسها موسكو على بلاده، بقوله: «إننا نتابع بكل التقدير والإعجاب سياستكم الوطنية الحكيمة التي ترسون دعائمها علي أسس راسخة من استقلال الإرادة الوطنية والاعتزاز بأصالة الفكر والعقيدة … ورفض الارتباط والتبعية، وعدم الدخول في مناطق النفوذ، والحرص على الانتماء لعدم الانحياز فلسفة وسياسة ومنهجا» ثم أعرب السادات عن ارتياحه للبرنامج الإصلاحي الذي كانت تقوم بتنفيذه حكومة كابل، بقوله: إننا «ننظر بالارتياح إلى الجهود التي تبذلونها في سبيل تحقيق معدلات أعلي للنمو، ودفع عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية، من أجل رفاهية الشعب ورخائه، وتأمين مستقبل أبنائه».( )
ومن ناحية أخرى، أشاد السادات أيضا بموقف أفغانستان المساند والمؤيد لمبادرة السلام التي طرحها لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وبدأها بزيارة القدس عام 1977م، حيث وجه كلامه للرئيس داود، قائلا: «أيها الأخ والصديق العزيز: إننا نسجل لكم بالتقدير والعرفان وقوفكم المبدئي إلي جانب الحق والعدل وتأييدكم التام لحق الشعوب العربية في استرجاع أرضها المحتلة واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير والعودة، وإقامة كيانه الوطني على أرضه»… «وأود أن أكرر -في هذا المقام -إننا لا يمكن أن نقبل أي تسوية للمشكلة ما لم تكن قائمة على انسحاب إسرائيل انسحابا شاملا من جميع الأراضي العربية المحتلة دون استثناء وتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني»( ) (للاطلاع على النص الكامل لكلمة الرئيس السادات يمكن الرجوع إلى الوثيقة رقم 16 بملحق الوثائق)
وفي المقابل، أشاد محمد داود، خلال الكلمة التي ألقاها في الحفل المذكور، بشجاعة الرئيس السادات في الذهاب الى القدس، ولكنه حذر من أي خطوة يمكن أن تعرض التضامن العربي للخطر أو العلاقات الودية بين مصر وأفغانستان بشكل مفاجئ. وأكد في نفس الوقت دعم بلاده للقاهرة في المحافل الدولية، والمطالبة بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني( ).
غير أنه لم تمض أيام قلائل على زيارة الرئيس محمد داود للقاهرة، حتى بدأت أفغانستان تشهد سلسلة من أخطر الأحداث في تاريخها الحديث والمعاصر، والتي بدأت بوقوع انقلاب دموي عنيف، بزعامة أحد قادة حزب الشعب الديمقراطي، الشيوعي يوم 27 أبريل 1978م، وراح ضحيته محمد داود وأفراد أسرته؛ ليسيطر الشيوعيون على حكم البلاد، برئاسة «نور محمد تره كي»( ) الذي أسفرت سياسته القمعية وإصلاحاته التعسفية( ) عن تصاعد وتيرة السخط في المجتمع أكثر من أي وقت مضى، وانقسام حاد بين جناحي الحزب الديمقراطي، الأمر الذي أدى في النهاية إلى إطاحة به وإجباره على التنازل عن الحكم يوم 16 سبتمبر 1979م، ليتولى الحكم من بعده «حفيظ الله أمين» الذي ما لبث أن قُتل أيضا في انقلاب دموي أعنف في 27 ديسمبر 1979م، بزعامة الشيوعي «ببرك كارمل» الذي دخل كابل في حماية القوات السوفييتية، التي بدأت بدورها غزوا عسكريا عنيفا لأفغانستان؛ أدخل البلاد في دوامة صراع مأساوي لم تنته أبعاده منذ ذلك الحين حتى وقتنا الراهن( ).
موقف مصر من تطور الأوضاع في أفغانستان:
كانت مصر أول دولة في العالم العربي والإسلامي تتحرك وتعلن موقفها الواضح من التطور المأساوي للأوضاع في أفغانستان منذ بدايتها. وستظل جميع المواقف التي اتخذتها القاهرة من هذه التطورات شاهدة، حتى اليوم، على متانة العلاقة التي كانت تربطها بكابل ولا تزال. فكما استنفرت كابل المجتمع الأفغاني لمساندة الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ودعته للتبرع لإخوانهم المصريين، وأيدت حقها المشروع في تأميم قناتها، وقادت تحركا قويا بالمحافل الدولية لإدانة هذا العدوان والمطالبة بتعويض المعتدين عن الأضرار التي لحقت بمصر جراءه. استنفرت القاهرة المجتمع المصري لمساندة الشعب الأفغاني ضد العدوان السوفييتي، والتبرع لمساندة إخوانهم الأفغان، ومساندة المجاهدين الأفغان في حقهم المشروع في الدفاع عن كيان بلادهم وهويتها الإسلامية، وقادت تحركا ديبلوماسيا قويا في المحافل الدولية لإدانة هذا الغزو والعمل على إنهائه تماما.
وقد استنفرت القاهرة جميع مؤسساتها للتعامل مع مستجدات الموقف بأفغانستان. واتسم رد فعلها بالسرعة والقوة؛ فقبل وقوع الانقلاب الشيوعي الأخير، وكانت نذر الغزو السوفييتي لأفغانستان وشيكة. خاصة بعد أن أرسلت موسكو كتيبة مظليين إلى كابل في أوائل يوليو من نفس عام 1979م، أصدر مجلس الشعب المصري بيانا، في 20 ديسمبر 1979م، أي قبيل أسبوع من التدخل السوفييتي في أفغانستان ووقوع الانقلاب الشيوعي بزعامة ببرك كارمل، استنكر فيه هذا العدوان.( ) ثم أصدر في اليوم التالي بيانا ناشد فيه برلمانات دول العالم بسرعة التحرك لمساندة الشعب الأفغاني في نضاله الرامي لوقف التدخل السوفييتي( ). كما عقد جلسة خاصة يوم 31 ديسمبر، عبر خلالها عن قلقه الشديد من تفاقم الأوضاع في أفغانستان، وكرر رفضه للتدخل السوفييتي في أفغانستان.( )
ولم تمض ساعات قليلة على إعلان راديو كابل وقوع الانقلاب الذي أطاح بحفيظ الله أمين، وتولي ببرك كارمل رئاسة أفغانستان، حتى صرح مصدر مصري مسئول للأهرام، عصر يوم 27 ديسمبر، بأن موقف مصر الثابت هو موقف المعارضة التامة لكل تدخل أجنبي في أي حركة وطنية. بالإضافة إلى موقفها الثابت في تأييد شعب أفغانستان الذي يكافح قوى الإلحاد المُدْعمة بتأييد خارجي»( ) وفي صباح اليوم التالي الموافق: 28 ديسمبر، أصدرت وزارة الخارجية بيانا رسميا، جاء نصه:
«تدين جمهورية مصر العربية بكل قوة وحزم التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان، الذي تعتبره خرقا صارخا لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، التي تتعهد بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وأية محاولة جديدة لفرض نظام ماركس على شعب أفغانستان بهدف القضاء على هويته وشخصيته الإسلامية الأصيلة، وهو أمر لا تستطيع مصر السكوت عليه انطلاقا من مسئوليتها الخاصة تجاه الأمة الإسلامية، كما ترى فيه مصر محاولة لإضعاف حركة عدم الانحياز عن طرق سلخ أفغانستان عنها وإدخالها في المُعسكر السوفييتي»( )
ثم استدعى الدكتور «بطرس غالي» وزير الدولة للشئون الخارجية، ظهر نفس اليوم السفير السوفييتي بالقاهرة «فلاديمير بوكولياكوف» وطلب منه إبلاغ حكومته بأن القاهرة تدين تدخل بلاده في أفغانستان، وترفض سياسة الهيمنة السوفييتية على الدول الصغيرة. كما أعرب عن رفضه لتفسير هذا السفير القائم على أن تدخل بلادة جاء بناء على طلب من حكومة كابل، وأنه استند إلى الاتفاقية التي وُقعت بين البلدين؛ حيث أكد له بطرس غالي أن رفض مصر للتفسيرات السوفييتية، يقوم على الأسس التالية:
أ. أن هذا التدخل يُعد خرقا لميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول.
ب. أن هذا التدخل هو محاولة لفرض النظام الماركسي على شعب أفغانستان؛ ولذلك فإن مصر تدين التدخل انطلاقا من مسئوليتها تجاه الدول الإسلامية الشقيقة.
ج. أن هذا التدخل هو محاولة لإضعاف حركة عدم الانحياز( ).
ومن ناحية أخرى، أصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بيانا، بتاريخ 19 ديسمبر، أدان فيه العدوان السوفييتي على أفغانستان، مؤكدا على أن الاعتداء على إحدى الدول الإسلامية يتطلب موقفا إسلاميا موحداً لمجابهته، ومن ثم ناشد المسلمين بالوقوف لمساندة الثوار الأفغان في نضالهم العادل، كما دعا إلى عقد مؤتمر لجميع الدول الإسلامية لبحث الموقف المتدهور في أفغانستان لتأييد ونُصرة شعبه الشقيق.( ) كما دعا الشيخ جاد الحق على جاد الحق، مفتي الديار المصرية المسلمين، يوم 29 ديسمبر، سائر الأقطار إلى المسارعة بنجدة مسلمي أفغانستان الذين يدافعون عن دينهم وأنفسهم وبلادهم، ويدافعون عن باقي البلاد الإسلامية شرور الشيوعية… وطالب المسلمين أن يهبوا يداً واحدة لنجدة إخوانهم المسلمين في أفغانستان الذين يتعرضون للإبادة … وذلك بتوفير وسائل الدفاع والحماية لهؤلاء المدافعين عن بلادهم، ومدهم بما يحتاجونه من سلاح وعتاد وأموال ومقاتلين ..اقتداء بتعاليم الإسلام التي جاءت في قوله تعالى وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وفي قول الرسول «مَثلُ المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى«( )
أما الأزهر الشريف، فقد استنكر بدوره العدوان السوفييتي الوحشي على شعب أفغانستان، يوم 9 يناير 1980م، في بيان قوي حذر فيه أيضا الشعوب من أبعاد المد الشيوعي وأخطاره التي تُهدد الدول الإسلامية. كما وجه الدعوة لملوك ورؤساء الدول الإسلامية لعقد اجتماع لاتخاذ موقف حاسم وموحد في مواجهة خطر الغزو السوفييتي الإلحادي. وأكد بيان الأزهر على أن الاتحاد السوفييتي حين يهاجم أفغانستان ويحاول إخضاعها لسيطرته وإرغامها على السير في فلكه، إنما يهاجم المسلمين جميعا في عقيدتهم وعزتهم وكرامتهم ومقدساتهم؛ فالمسلمون أمة واحدة وجسد واحد إذا أُصيب منه عضو تعرض الجسد كله للدمار.( )
ومن جانبه، عقد المكتب السياسي للحزب الوطني الديمقراطي اجتماعا طارئ برئاسة الرئيس السادات، في أسوان يوم 6 يناير 1980م، لمناقشة إجراءات مواجهة الغزو السوفييتي الغاشم لأفغانستان، بوصفه حلقة أولى في مخطط السوفييت الأوسع لاحتواء العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي لم يكن خافيا يوما على مصر، لأنها سبق وأدركت أبعاده مبكرا وسارعت بإلغاء المعاهدة المصرية السوفييتية، ثم قامت بطرد الخبراء السوفييت في اللحظة المناسبة. ومن ثم دعا المكتب السياسي إلى عقد مؤتمر قمة للدول الإسلامي لبحث هذا العدوان، كما ناشد كل مسلم في العالم أن يترفع فوق الخلاف والاختلاف ليتجه بجهده الموحد انتصارا لدين الله في هذا البلد الشقيق، قبل أن يفوت الوقت وتسقط أفغانستان المسلمة في براثن الشيوعية الدولية. ثم أصدر عدة قرارات وتوصيات مهمة، أهمها:
1. دعم جهود الأزهر الشريف لمواصلة دوره التاريخي نحو حماية العقيدة والدفاع عنها.
2. تنسيق جهود الاتحادات والنقابات المهنية والعمالية مع أمانة الحزب الوطني في عقد الندوات الجماهيرية لتبصير المواطنين بأبعاد المخطط السوفييتي، وتنسيق الجهود الحزبية والشعبية لتحديد الخطوات التي ينبغي اتخاذها لمساندة شعب مسلم يواجه إبادة جماعية من قوى وحشية تغتال حريته وتُهدد عقيدته.
3. إلغاء العلاقات السياسية على كل المستويات بين مصر واليمن الجنوبي وسوريا؛ لتأييدهما العدوان على أفغانستان.
4. الترحيب بخفض عدد أفراد البعثة السياسية والدبلوماسية للاتحاد السوفييتي في مصر.
5. تقديم التسهيلات للشباب الأفغاني من أجل التدريب العسكري
6. أن تدرس الحكومة اقتراح إنشاء جامعة الشعوب العربية والإسلامية.( )
وفي هذا السياق، ناقش مجلس الشعب يوم 13 يناير قضية العدوان السوفييتي على أفغانستان الشقيقة، وحث الحكومة على تقديم كل الدعم والمساندة للثوار الأفغان في نضالهم، وأن تندد بالعدوان في جميع المحافل الدولية.( )
أما على مستوى الدولي، فكانت تحركات مصر قوية ومتزامنة أيضا مع توجهاتها الداخلية السالفة الذكر؛ فقد كانت واحدة من بين ثلاث وخمسين دولة في العالم( )طالبت بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث الموقف في أفغانستان، والتي انعقدت يوم 5 يناير 1980م، وانتهت، بعد مناقشات استمرت ثلاثة أيام، باستخدام الاتحاد السوفييتي حق الفيتو. وقد أدان خلالها الدكتور «عصمت عبد المجيد» مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة بقوة، الغزو السوفييتي لأفغانستان؛ مبديا استغرابه من تناقض موسكو بهذا التدخل مع مواقفها السابقة، وكيف تغزو قواتها بلداً آخراً؛ وهي التي سبق أن تقدم وفدها إلى الأمم المتحدة بتاريخ 23 أغسطس 1978م، بمشروع اتفاقية تنص في أول قراراتها على أن: «تتعهد الأطراف المتعاقدة أن تلتزم بشدة بعدم استخدام القوة أو التهديد بالقوة في مجال العلاقات المتبادلة، ضد وحدة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو بأي شكل يتعارض وأغراض الأمم المتحدة» ثم أليست هي التي تقدمت أيضا بمبادرة، أثناء الدورة العادية العشرين للجمعية العامة، وتمت الموافقة عليه في قرارها رقم 2131، حينما أدرج مندوبها بنداً نص على: «أنه ليس لأي دولة الحق في التدخل بصورة مباشرة وغير مباشرة ولأي سبب كان في الشئون الداخلية أو الخارجية لأية دولة أخرى«( ). واستطرد الدكتور عبد المجيد قائلا: «مما يدعو للأسف أننا نجد أنفسنا مضطرين لأن نقرر أن الغزو السوفييتي لدولة أفغانستان الشقيقة ليس إلا مظهراً من مظاهر سياسة الهيمنة في هذه المنطقة الحساسة من العالم» و«إننا نعتقد أن المجتمع الدولي والدول الإسلامية الخمسين بصفة خاصة عليها أن تعبئ كل الجهد للوقوف خلف النضال المشروع للشعب الأفغاني» لأن «محاولة فرض نظام حكم ماركسي على شعب أفغانستان بهدف تدمير الشخصية القومية لهذا الشعب وكيانه الإسلامي الخالص، هي مسألة لا تستطيع مصر التغاضي عنها بحكم مسئوليتها الإسلامية»وبناء عليه، طالب عبد المجيد في ختام كلمته الأمم المتحدة بأن تتخذ الإجراءات الضرورية التي تتضمن مطالب مصر في هذا الشأن، وهي:
1. «الانسحاب الفوري والتام وغير المشروط للقوات المسلحة السوفييتية من أفغانستان».
2. «يتحتم على الاتحاد السوفييتي أن ينهي تدخله في الشئون الداخلية في أفغانستان».
3. «ينبغي احترام حق شعب أفغانستان السيادي في تقرير مستقبله واختيار نظامه الاجتماعي والاقتصادي الذي يراه بعيدا عن التدخل الأجنبي»( )
وفي اليوم التالي، 6 يناير، وصل محمد حسني مبارك نائب رئيس الجمهورية إلى العاصمة الصينية بكين، فبحث مع رئيس الحزب الشيوعي الصيني «هوا كو فينج»أبعاد خطورة الغزو السوفييتي لأفغانستان، وقد عزا مبارك أهمية زيارته لبكين ومباحثاته في مع قادة الصين «إلى توقيت إتمامها، وأن هذه المباحثات تناولت تحليلا كاملا لتطورات الأحداث الراهنة وبالذات بالنسبة للشرق الأوسط والعدوان السوفييتي على أفغانستان«.( )كما أجرت القاهرة في نفس الوقت اتصالات رسمية مكثفة مع سفراء دول عدم الانحياز بالقاهرة وفي مقدمتهم السفير اليوغسلافي والهندي لبحث مسألة هذا الغزو.( )
أما عن موقف الرئيس السادات نفسه، فيمكن القول إنه قد أكد في جميع خطبه وتصريحاته المختلفة، منذ بداية غزو أفغانستان، وحتى آخر يوم في حياته 6 أكتوبر 1981م، إدانته الكاملة للاتحاد السوفييتي ومساندته التامة للشعب الأفغاني والمجاهدين الأفغان، بل إنه أدان الحكومات الإسلامية الأخرى لتقاعسها عن القيام بواجبها تجاه المجاهدين الأفغان( ) وكم أعلن السادات في أكثر من مناسبة أنه سوف يقدم كل مساعدة ممكنة للمجاهدين الأفغان، لأن «كل شيء في أيدينا .. أسلحة .. أموال .. كل شيء.. كل مساعدة ممكنة يجب أن نقدمها لهم» وأن «مصر سترسل مزيدا من السلاح والمال لدعم نضال الشعب المسلم في أفغانستان»( ) «وأقولها لكي تسمعها موسكو سوف نستمر في إرسال السلاح إلى ثوار أفغانستان حتى يدافعوا عن استقلالهم ويحرروا وطنهم»( ) «وإنه من منطلق مسئولية مصر عبر التاريخ سنعطي، بقدر الإمكان، كل ما يحتاجه الأفغانيون … من الغطاء والطعام والملابس» كما أكد في مناسبة أخرى على أن «مصر ستظل بعون الله درعا لكل عربي، درعا لكل مسلم. وسنشارك شعب أفغانستان بكل ما نملك وهو قليل وسنشارك شعب أفغانستان اللقمة وسوف نبعث له السلاح»( )
وبعد مرور عام على الغزو السوفييتي، أعلنت مصر يوم السابع عشر من ديسمبر يوما للتضامن المصري مع شعب أفغانستان لتنظيم وسائل دعم المجاهدين، الذي حضره وفد كبير من قادة الثوار الأفغان للمشاركة في أعمال مؤتمره( ) الذي عقد يوم 23 ديسمبر 1980م، ومكث أعضاؤه بمصر خمسة عشر يوما زاروا خلالها الإسكندرية، وعقدوا لقاءات سياسية هناك يوم 25 ديسمبر، ثم استقبلهم الرئيس السادات في بيته بقرية «ميت أبو الكوم» وصلى معهم الجمعة، ونصحهم بضرورة تشكيل حكومة مؤقتة للمجاهدين بأسرع ما يمكن.( ) كما التقوا أيضا عددا من الشخصيات المهمة مثل رئيس مجلس الشعب ورئيس حزب العمل الاشتراكي وبعض النواب ورئيس الوزراء. ثم حضروا جلسة مجلس الشعب التي عقدت يوم 15 يناير، واستمعوا إلى مدى مساندة أعضاء المجلس للشعب الأفغاني( ) وقد عبر الدكتور فؤاد محي الدين نائب رئيس الوزراء خلال الجلسة عن موقف حكومته، قائلا: «إن الشعب الأفغاني شعب تنحني له الرؤوس والجباه وهو يتصدى للجنود العتاة من الاتحاد السوفييتي … وقد كان صوت مصر عاليا خفّاقا مع أفغانستان في جميع المحافل الدولية … وباسم شعب مصر وحكومته نؤكد استمرارنا على نفس النهج والطريق حتى يحقق الشعب الأفغاني نصره الكامل وتُرفع راية الإسلام كما كانت على أرضه عالية خفاقة؛ وذلك لأن الأفغان لهم فضل عظيم على شعبنا لن ننساه ونحن معكم حتى النصر»وفي المقابل، ألقى صبغة الله مجددي زعيم الجبهة الوطنية الأفغانية كلمة أمام مجلس الشعب، فشكر فيها النواب وشكر مصر حكومة وشعبا على مساندتها لهم، مؤكدا على أن المساندة الحقيقية وجدوها في مصر.( )
وقد أصدر شيخ الأزهر، خلال مؤتمر التضامن مع الشعب الأفغاني فتوى مفادها أن كل مسلم يتعاون مع الروس على أرض أفغانستان المسلمة فهو على درجة من الخيانة لدينه بمقدار تعاونه معهم، وأن كل حكومة تقوم هناك تمُكّن لأّقدام الروس في أرض أفغانستان هي حكومة غير شرعية( )
وهكذا استمر الموقف المصري المؤيد والمساند للمجاهدين الأفغان، في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك على جميع المستويات السياسية والمعنوية، كما قدمت مصر مساعدات إنسانية كبيرة للمهاجرين الأفغان في مدينة بيشاور، وقامت بعلاج عدد من جرحى المجاهدين في مستشفيات الهلال الأحمر المصري بالقاهرة وطنطا. وظلت تساند القضية الأفغانية في المحافل الدولية وتدعو لانسحاب القوات الروسية من أفغانستان، حتى بدأ يتحقق فعليا يوم 15 مايو 1988م، واكتمل تماما يوم 15 فبراير 1989م، وبالتالي كانت مصر من أوائل الدول التي اعترفت بقيام حكومة المجاهدين برئاسة صبغة الله مجددي ومن بعده برهان الدين رباني، ومن ثم وافقت على إعادة العلاقات السياسية مع كابل، بعد مضي عشر سنوات من قطع العلاقات بين البلدين على قادة الانقلاب الشيوعي بزعامة ببرك كارمل.( )
الخاتمة
توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج والتوصيات، نسوقها على النحو التالي:
أولا: النتائج
1. ساندت أفغانستان مصر في توجهاتها الداخلية والخارجية طيلة فترة الدراسة، فقد اعترفت باستقلالها عام 1923م، وساندتها في إلغاء معاهدة 1936م، ورحبت بقيام الجامعة العربية، واعترفت بثورة يوليو 1952م، وأيدت قرار تأميم القناة عام 1956م، وناصرتها أثناء العدوان الثلاثي، وآزرتها أثناء وقوع نكسة 1967م، وشاركتها فرحة نصر أكتوبر المجيد عام 1973م، ورحبت بمبادرة الرئيس السادات الجريئة بزيارة القدس عام 1979م، لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
2. رفضت أفغانستان رفضا باتا الاعتراف بإسرائيل، على عكس إيران التي بادرت بالاعتراف الواقعي بها عام 1960م
3. آمنت مصر وأفغانستان بجملة من المبادئ السياسية المشتركة، التي جسدت في مجملها دوافع كلا البلدين نحو توثيق علاقات التعاون وتنسيق المواقف السياسية فيما بينهما.
4. ساندت أفغانستان القضايا والحقوق العربية على طول الخط؛ فساندت القضية الفلسطينية وثورة التحرير الجزائرية، واعترفت باستقلال جميع الدول العربية.
5. مثلت أفغانستان، بالنسبة لمصر، مدخلا بديلا لآسيا الوسطى عن إيران وتركيا اللتين ناصبتا القاهرة العداء بسبب رفضها حلف بغداد. ومحور ارتكاز لمنع إسرائيل من التسلل إلى آسيا.
6. أجرى البلدان، فيما بين عامي 1954 و1978م، أكثر من إحدى عشرة زيارة علنية متبادلة بين المسئولين على اختلاف مستوياتهم، كان نصيب أفغانستان منها تسع زيارات رسمية باتجاه القاهرة، ناهيك عن الوفود الأفغانية المتنوعة التي زارت القاهرة.
7. كان الملك أمان الله خان، أول ملك أفغاني يقوم بزيارة رسمية لمصر في التاريخ الحديث والمعاصر، عام 1927م وكانت زيارة الرئيس محمد داود خان آخر زيارة لرئيس أفغاني لمصر، عام 1978م
8. كان الرئيس جمال عبد الناصر أول زعيم عربي يقوم بزيارة لأفغانستان في التاريخ الحديث والمعاصر، يوم 30 أبريل عام 1955م، وحظي خلالها باستقبال وحفاوة رسمية وشعبية رائعة
9. كانت معاهدة الصداقة التي أبرمها البلدان عام 1929م، أول معاهدة رسمية في تاريخ العلاقة بينهما
10. أبرمت مصر وأفغانستان أربع اتفاقيات، بدأت بالاتفاقية الثقافية عام 1955م، واتفاقية النقل الجوي، واتفاقية التجارة والدفع عام 1960م، وانتهت باتفاقية تعاون عسكري عام 1978م.
11. كانت مصر أول دولة في العالمين العربي والإسلامي تتحرك وتعلن موقفها المندد والرافض للغزو السوفييتي ووقوع الانقلاب الشيوعي في أفغانستان في 27 ديسمبر 1979م.
12. استنفرت القاهرة المجتمع المصري بأكمله لمساندة الشعب الأفغاني ضد العدوان السوفييتي، وناشدته التبرع لمساندة إخوانهم الأفغان، وقدمت كل ما في وسعها لمساندة المجاهدين الأفغان في ممارسة حقها المشروع في الدفاع عن كيانها وهويتها الإسلامية، وقادت تحركا قويا في المحافل الدولية لإدانة هذا الغزو ودعم النضال الأفغاني ضد الغزو.
13. استمر الموقف المصري المؤيد والمساند للمجاهدين الأفغان، في عهد الرئيس حسني مبارك على جميع المستويات السياسية والمعنوية، كما قدمت مساعدات إنسانية للمهاجرين الأفغان في بيشاور وعلاج عدد من جرحاهم بمستشفيات الهلال الأحمر بالقاهرة وطنطا. وظلت تساند القضية الأفغانية في المحافل الدولية منادية بانسحاب القوات الروسية، حتى تحقق فعليا يوم 15 مايو 1988م، واكتمل تماما يوم 15 فبراير 1989م،
14. كانت مصر من أوائل الدول التي اعترفت بقيام حكومة المجاهدين برئاسة صبغة الله مجددي ومن بعده برهان الدين رباني، ووافقت على إعادة العلاقات السياسية مع كابل، على الرغم من أنها رفضت طلبات متكررة من نظام الرئيس نجيب الله.
15. تمتع الأزهر بمكانة موقرة في أفغانستان بوصفه المؤسسة الدينية الشاملة التي يتمتع خريجوها باحترام وتقدير كبيرين عند الشعب الأفغاني، وأصبحوا فيما بعد روادا للحركة الإسلامية في المجتمع الأفغاني والجهاد في ساحات القتال الذي أجبر القوات السوفييتية الغازية على الانسحاب من بلادهم.
ثانيا: التوصيات
1. زيادة التنسيق والتعاون بين البلدين الذي يمكن أن يزيد من مكاسبهما إزاء النظام الدولي الراهن.
2. على مصر البحث عن صيغة أو منظومة جديدة لعلاقاتها، التي تمكنها من مواجهة التحديات والتعقيدات التي تواجهها المنطقة.
3. تعظيم المصالح المشتركة سياسيا وثقافيا واقتصاديا بين القاهرة وكابل سوف يكون من العوامل المؤثرة على علاقات التقارب بين مصر وأفغانستان، ويعزز دور مصر في آسيا الوسطى على جميع المستويات.
4. يتعين على مصر، بما لها من ريادة إسلامية منشودة، أن تعيد صياغة الواقع الثقافي الأفغاني بما يجعلها نموذجا مكملا لدورها المناظر في دول آسيا الوسطى.