العلاقات المصرية التركية
بواسطة :
1. دوافع التقارب
أصبح التقارب بين مصر وتركيا ملحا؛ نظرا لتعقد قضايا المنطقة، والتي يصعب على أي دولة مواجهاتها بشكل منفرد، كما أن التنسيق الإقليمي بينهما أصبح ضرورة لحل معظم القضايا الإقليمية المؤثرة على مصر وتركيا. وبالتالي تعززت دوافع البلدين لتحقيق التقارب بينهما، استجابة لشواغل الأمن القومي للبلدين وتعميق الفهم المتبادل بينهما عبر الحوارات التي شهدتها الدوائر الخارجية والدوائر الأمنية بالبلدين. كما شهدت المؤسسات الاجتماعية بين البلدين لقاءات ونقاشات حول ملفات العمل المشترك في المرحلة القادمة والتي تأتى كما يلي:
أ. الدوافع التركية
إنهاء الدولة التصادمية وعودة دولة ” صفر مشاكل”
الحاجة لدعم مصر لقبول تركيا في منظمة غاز شرق المتوسط
تراجع الاقتصاد التركي وحاجة تركيا لرفع وتنمية التبادل التجاري مع مصر.
ب. الدوافع المصرية
تهدئة الوضع بليبيا كأحد شواغل الأمن القومي المصري
إنهاء الخلافات مع النظام التركي المعارض لثورة 30 يونيو.
بدء صفحة جديدة من التعاون الإقليمي المشترك بين البلدين.
2. مراحل التقارب
وقد مرت مراحل هذا التقارب بثلاث مراحل أساسية
المرحلة الأولى، عرفت باللقاءات الاستكشافية، حيث شهدت القاهرة أول زيارة لوفد رسمي في مايو 2021م برئاسة نائب وزير الخارجية التركي السفير «سادات أونال» لعقد أول لقاء رسمي مع الخارجية المصرية، شن خلاله الوفد المصري برئاسة السفير «حمدي لوزه» هجوما حادا على التجاوزات التركية طوال السنوات الماضية، كما قدم مطالب الدولة المصرية لضبط العلاقة مع تركيا. وإزاء ذلك طلب الوفد التركي عقد لقاء آخر في أنقرة، في سبتمبر من نفس العام. والذي شهد تراجعا في المواقف التركية واستجابة لشواغل ومتطلبات الأمن القومي المصري والعربي، منها ما يتعلق بعمليات التحريض المنظم سواء الذي كانت تبثه بعض القنوات الإعلامية أو منصات التواصل المختلفة من اسطنبول. ومنها ما يتعلق بتعقيدات موقف البلدين من الوضع الداخلي بليبيا الشقيقة.
المرحلة الثانية، والتي اكتسبت أهمية كبيرة لكونها شهدت لقاء الرئيس السيسي والرئيس أردوغان على هامش افتتاح مونديال قطر لكرة القدم، والذي يعد نقلة نوعية في علاقات البلدين؛ حيث اتفق الرئيسان على إنشاء مجلس للعلاقات الاستراتيجية ليتولى التعاون المستقبلي بينهما على مستوى المؤسسات الرسمية. كما شهدت هذه المرحلة تجدد اللقاء بين الرئيسين في نيودلهي على هامش قمة العشرين، إضافة إلى الموقف المصري الإنساني من الزلزال الذي تعرضت له تركيا 6 فبراير 2023م، الذي كان محل تقدير شعبي ورسمي بدوائر صنع واتخاذ القرار التركي، خاصة أن مصر كانت من أوائل الدول التي بادرت بأرسال آلاف الأطنان من المساعدات ووسائل الإغاثة للشعب التركي جوا وبحرا، إضافة إلى نقل مستشفى ميداني مجهز بالكامل لعلاج مصابي الزلزال.
المرحلة الثالثة، وهي التي شهدت تبادلا للزيارات على مستوى وزراء الخارجية، ثم الزيارة التاريخية للرئيس التركي إلى لقاهرة، في 14 فبراير 2024م، والتي مثلت بداية لعهد جديد من العلاقات الاستراتيجية والمصالح المشتركة بين البلدين.
3. العهد الاستراتيجي الجديد
تتماثل مصر وتركيا في العديد من الخصائص المشتركة؛ فكل منهما بلد إسلامي مهم وقوة إقليمية كبرى، متقاربان بحسابات القدرات الشاملة والثقل الإقليمي، وتتحكمان في أهم الممرات البحرية الدولية مثل قناة السويس ومضيق البسفور. ناهيك عن أن كل منهما ممتع بحضارة عريقة وهوية وطنية متميزة، ولدى كل منهما مشروع وطني يعمل على تحقيقه على المستوى الداخلي والخارجي. وكان ذلك أدعى لأن يوقعا وثيقة تأسيس المجلس الأعلى للعلاقات الاستراتيجية، خلال زيارة الرئيس أردوغان للقاهرة، لتبدأ العلاقات بين البلدين عهداً استراتيجياً بمفهوم الدولة مقابل الدولة، وتحقيقا للتعاون المشترك بينهما على المستوى الثنائي والإقليمي والدولي.
أ. التعاون الاقتصادي
فرضت الأزمة اقتصادية التي يمر بها البلدان ضرورات التعاون والتكامل بينهما للعمل والاستثمار معاً، خاصة أن كليهما في حاجة إلى دعم المشروعات الصناعية لتعظيم مردودها الاقتصادي المشترك، والوصول بحجم التبادل التجاري بينهما إلى 15 مليار دولار سنوياً. إضافة إلى العمل على تطبيق التبادل التجاري بالعملة المحلية بالبلدين لتخفيف الضغط عليها مقابل الدولار.
ب. غاز شرق المتوسط.
يمثل غاز شرق المتوسط أهم الدوافع التركية للتقارب مع مصر؛ نظرا لأن مصر أصبحت منتجا رئيسيا للغاز، منذ الاكتشاف التي حققتها بالبحر المتوسط، وعلى رأسه اكتشاف حقل ظهر عام 2015م، إلى جانب افرادها بامتلاك محطات تسييل الغاز بالمنطقة. كما أنها بادرت بإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط والذي تحول إلى منظمة رسمية، في سبتمبر 2020م ليكون إحدى المنظمات الدولية وأهمها في مجال الغاز على المستوى العالمي. وترغب تركيا من تقاربها مع مصر في أن تعمل القاهرة على تحسين العلاقات التركية اليونانيه والقبرصيه وأن تستثمر علاقاتها الجيدة معهما في الوصول إلى حلول تتعلق بمسالة ترسيم الحدود البحرية التركية مع كل من قبرص واليونان. وهنا يمكن للقاهرة أن ترعى القاهرة مفاوضات في هذا الشأن. بوصفها واحدة من أهم المسائل المطروحة على قائمة عمل مجلس العلاقات الإستراتيجية بين البلدين.
ج. أزمة الوضع الليبي:
نظرا لأن ليبيا تمثل عمقاً استراتيجياً وأمنياً لمصر، وتتمتع بحكم الجوار المشترك والعلاقات التاريخية وتمازج الشعبين عبر وروابط المصاهرة والنسب. فقد انزعجت مصر بشدة من جرأة التدخل التركي في ليبيا، والذي بلغ حد نقل المرتزقة والمليشيات المسلحة إليها. ومن ثم أصبح الوضع في ليبيا من أهم المسائل الخلافية بين مصر وتركيا. لدرجة أن مصر فرضت من جانبها خطا أحمرا لحماية مصالحها وأمنها القومي في ليبيا، اضطرت تركيا لاحترامه. ثم أدت إدارة البلدين الحكيمة لهذا الملف الخلافي بينهما في ليبيا إلى تعزيز الثقة بينهما، وفرضت فرصا أمامهما لإمكانية التوافق على حل باقى الملفات الخلافية بين البلدين. خاصة أن توافقهما أدى بالفعل إلى عودة الهدوء للداخل الليبى بشكل كبير.
د. الوضع في غزة
يتعرض قطاع غزة لعدوان إسرائيلي غاشم وإبادة عرقية ودمارا لا نظير له، ويمكن لمصر وتركيا تكثيف مساعيهما على المستوى العربي والإسلامي لوقف العدوان الإسرائيلي الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، كما من الأهمية تكاتف جهودهما للعمل على إعادة إعمار غزة وعودة الحياة إليها حيث يمكن لجهود مصرية تركية خليجية أن تشكل أهم دعائم حل القضية الفلسطينية خلال المرحلة القادمة
ه. التعاون في إفريقيا:
يمكن أن تصبح القارة الإفريقية ساحة واعدة التعاون المصري التركي في العديد من الملفات، وبدلا من أن يتحول النظام التركي إلى نظام داعم للميلشيات المسلحة مثل النظام الإيراني، يمكن استثمار التقارب بين مصر وتركيا للتعاون بأفريقيا، خاصة أن مصر تمثل بوابة لأفريقيا وتهدف إلى تحويل التواجد التركي النشط بأفريقيا إلى نقاط قوه ومصدرا للتعاون والتكامل. ومن هنا يمكن لمجلس العلاقات الاستراتيجي فتح قنوات للتعاون الاقتصادي والأمني، ويمكنه توسيع مجالات التعاون التركي المصري ليشمل قضية سد النهضة بأثيوبيا والعمل من أجل استقرار الصومال ضد المحاولات الأثيوبية لإنشاء ميناء بحري على أرض إقليم صومالي لاند الانفصالي غير المعترف به.
4. مستقبل العلاقات المصرية التركية
شهدت العلاقات تطوراً كبيراً في ظل توفر رغبة القيادة السياسية بالبلدين في تعزيز الثقة المتبادلة والتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري بينهما.
سياسياً: تطورت العلاقات السياسية برفع التمثيل الدبلوماسى وعودة السفراء بين البلدين، في الرابع من يوليو الماضي، كما توجت بزيارة الرئيس أردوغان للقاهرة، في الرابع عشر من فبراير الماضي، لتأتى مخرجات الزيارة الإيجابية بأثر كبير على تنقية الخلافات السياسية السابقة، والإتفاق على تأسيس المجلس الأعلى للعلاقات الاستراتيجية برئاسة رئيسا البدين، والذي سيعقد بشكل دوري كل عامين بالتناوب بين القاهرة وأنقرة، وسيتم عقد اللقاء الأول بأنقرة خلال زيارة الرئيس السيسي المقبلة لتركيا.
اقتصادياً: من المحتمل أن تشهد العلاقات الاقتصادية بين البلدين مزيد من التعاون في غضون الأعوام الخمسة القادمة، خاصة في ظل توفر إرادة البلدين لرفع الميزان التجارى من (10مليارات دولار) حالياً إلى (15 مليار دولار) بزيادة قدرها 50%. سيما أن الوضع الاقتصاد فيهما يشهد هزات متتابعة، كما تشهد عملتهما الوطنية (الجنية والليرة) تراجعا أمام الدولار؛ لذلك فهما يدرسان مقترحا بالتعامل بالعملة المحلية.
ومن ناحية أخرى، أشارت عدة تقارير اقتصادية دولية إلى هجرة الشركات التركية لمصر، منها تقرير صادر عن ببلومبرج يشير إلى رغبة الشركات والمصانع التركية في الاستثمار بمصر للاستفادة من المناخ العام الجاذب للاستثمار بمصر. وهنا يمكن القول إنه قد يكون من المفيد للدولتين عودة العمل بنظام الرورو، وهو نمط من أنماط نقل البضائع بواسطة خط ملاحى، باستخدام شاحنات تنقلها عبارات لأقرب الموانى على البحر المتوسط، ليتم نقلها براً لموانى البحر الأحمر مرة أخرى للموانئ السعودية، ومنها براً لدول الخليج. وكان العمل به قد بدأ بخط ملاحي من مينائي الأسكندرونة ومرسين بتركيا إلى مينائي دمياط وبورسعيد بمصر، لنقل البضائع بأسطول من الشاحنات عبر الطرق المصرية إلى ميناء الأدبية على البحر الأحمر، لنقلها على السفن التركية إلى الموانى السعودية لتستكمل طريقها براً بعد ذلك إلى دول الخليج العربي.
ثقافياً: تتشارك مصر وتركيا قواسم تاريخية كبيرة تمد جذورها إلى قرون عديدة، فقد عرف المصريون الترك قبل الدولة العثمانية منذ زمن أحمد بن طولون في العصر العباسي، لذلك نجد بمصر مورث ثقافي ومعماري تركي متعدد العصور. وانطلاقا من هذا الموروث الثقافى والأثرى حرصت مصر على تدريس اللغة التركية واللغة العثمانية القديمة منذ عقود، وتضم الجامعات المصرية أكثر من عشرين قسماً لتدريس اللغة التركية سواء بكليات الألسن أو الآداب، التي تحظى بدعم المركز الثقافي التركي بمصر (يونس إمرة). كما يبحث البلدان إنشاء الكلية المصرية التركية التكنولوجية لخدمة التنمية الصناعية بمصر والمصانع التركية بشكل خاص، كما ستعمل على تأهيل الدارس الفني المصري بخبرة فنية تركية لتكون هذه الكلية إحد ثمار التعاون الثقافى بعد عودة العلاقات بين البلدين.